الجزيرة:
2025-05-25@05:17:58 GMT

تهافت هابرماس والسقوط الأخلاقي

تاريخ النشر: 20th, November 2023 GMT

تهافت هابرماس والسقوط الأخلاقي

 

..ويسقط يورغن هابرماس مذعورًا، كما سقط غيره من كبار المثقفين والفلاسفة عبر التاريخ حين انسلخوا عن كل ما بشّروا به من مبادئ وقيم تشدقوا بها في كتبهم ومحاضراتهم، ورددها المبهورون بهم حتى أصبحت في مصاف الكتب السماوية، لا يخرج عنها إلا هالك ولا يتنكّبها إلا جاهل.

أصدر يورغن هابرماس- ومعه نيكولا ديتلهوف أستاذة العلوم السياسية، ورينر فوريست الفيلسوف المعروف، والأستاذ كلاوس غونتر- بيانًا حول ما يجري في قطاع غزة، أدانوا فيه " المجزرة التي ارتكبتها حماس ضد إسرائيل بنية إبادة الحياة اليهودية بشكل عام.

"

أنا لا أريد أن أجادلَ في المكانة العلميّة والمعرفية ليورغن هابرماس الذي يقول كثيرون: إنه غدا- بما بلغه من علم في الفلسفة وعلم الاجتماع- بمثابة ضمير ألمانيا الحديثة، فلست قادرًا على ذلك تخصصًا ولا علمًا، ولا يليق بي أن أتطاول عما تقصر باعي عن بلوغه.

يقول هابرماس، ومن معه في بيانهم: "إنّ الوضع الحالي الذي تسبّبت فيه وحشية الهجوم غير المسبوق الذي شنّته حماس، وردّ فعل إسرائيل عليه، أفضى إلى سلسلة من المواقف الأخلاقيّة والسياسيّة والمظاهرات الاحتجاجية".

فوقية الغرب

ولنتوقّف عند عبارة: "المواقف الأخلاقيّة والسياسيّة والمظاهرات الاحتجاجية"؛ لنسأل الفيلسوف- الذي يكاد يناهز المئة من السنين- عما إذا كان فهمه وتعريفه للأخلاق هنا يتّفق مع أركان فلسفته العلمية النقدية، التي تطالب بالتجرد في بحث كل المواقف والمسائل والقضايا بحثًا دقيقًا يشمل كل الأطراف، ويغطي الامتداد الزمني من دون انحياز لطرف على حساب آخر؟

لقد قفزَ هابرماس وصحبه في الزمن ليعظنا ويقول: "إن هناك بعض المبادئ التي يجب ألا تكون محل خلاف، وهي مبادئ تشكل أساسًا لتضامن مُفَكَّرٍ فيه ومُتَعَقَّلٍ مع إسرائيل واليهود واليهوديات في ألمانيا."

فهي إذن- يا كبير فلاسفة الزمان- مبادئ يجب ألا تكون محل خلاف، في ألمانيا على الأقل، كما يوحي البيان بنصه الكامل. وأين هذا من مبادئ الفلسفة النقدية الاجتماعية التي اشبعتنا بها في كتبك؟ أين الشمولية النقدية البحثية؟ وأين الدعوة للحرص على تمثيل كل وجهات النظر، وبحثها باستفاضة قبل صدور أي حكم أو تقويم؟

وهنا يثور السؤال: هل يحق أو يجوز للعالم أن يفرض على كل العقول ألا تبحث في هذا الأمر أو ذاك، وتبحث في غيره مما يراه هو؟ هذا هو الكِبْر بعينه، كِبْر العالِم حين تضل بوصلته الأخلاقية، وحين يحاول ستر جُبْنه بشجاعة رِعْديد يرتجف من ماضٍ مخجل، أو إثم يحيك في نفسه.

لقد مارس الغرب وعلماؤه هذه الفوقية المتعالية قديمًا وحديثًا، فلا غرابة أن يوجبها اليوم أربعة من كُبَراءِ فلاسفتهم وعلمائهم على الألمان جميعًا، بل على العالم أجمع.

الامتداد التاريخي للقضية

قفز هابرماس، ومن معه في الزمن، وتجاهلوا الامتداد التاريخي للقضية الفلسطينية، وكأنه ليس هناك احتلال لفلسطين جلبه الغرب منذ 75 عامًا، فلا حقّ، في معاجمهم ومفاهيمهم، لمن احتُلَّت أرضه في الدفاع عنها، والسعي إلى تحريرِها، طال الزمان أمْ قَصُر.

ولا يخفي هابرماس، ومن وقعوا معه، دافعهم للدفاع عن إسرائيل وتبرير جرائمها في غزّة، فهو ليس إلا الخوف من الاتّهام بمعاداة السامية، ويقولون في بيانهم: "فالروح الديمقراطية لجمهورية ألمانيا الاتحادية، والتي تقوم على أساس الاعتراف بالكرامة الإنسانية، ترتبط بثقافة سياسية تعتبر الحياة اليهودية، وحق إسرائيل في الوجود عنصرين أساسيين يستحقان حماية خاصة، مع استحضار الجرائم الجماعية التي ارتكبت سابقًا في الحقبة النازية".

إذن، فالنازية هي التي ارتكبت فظائع المحرقة في أفران الغاز ومعسكرات التعذيب، في البلدان التي احتلتها ألمانيا النازية، وليس في فلسطين وغزة. وقد كان يورغن هابرماس- عندما اجتاحت القوات النازية أوروبا عام 1939- صبيًا في العاشرة من العمر، ولو لم تنهزم ألمانيا في الحرب، ربما أصبح هابرماس عضوًا في الحزب النازي، كما كان كارل شميت، صاحب "اللاهوت السياسي."

لكن النازية ارتكبت فظائع أخرى غير المحرقة. ويكفينا، مثالًا على ذلك أن أكثر من 20 مليون إنسان قتلوا في روسيا بنيران الألمان في الحرب العالمية الثانية. أو لا ينبغي إذن ليورغن وصحبه أن يستحضروا تلك الجرائم الجماعية غير المسبوقة ويجدوا مسوغًا لما تقوم به القوات الروسية في أوكرانيا، حتى لا يتمدد حلف الناتو- وألمانيا عضو فيه- إلى حدود روسيا؟ مع أني لا أدافع عن روسيا التي ترتكب اليوم جرائم بشعة في سوريا.

ولو أن للغرب المتغطرس ضميرًا لاستحضر فظائعه بحق اليهود عبر القرون، وتذكر أن معازلهم كانت في العواصم والمدن الأوروبية، وليس في فلسطين وبلاد المسلمين. ولو أن الغرب يحترم الكرامة الإنسانية، التي تحدث عنها هابرماس وجماعته لاستحضر، على الدوام، جرائم الإبادات العرقية التي ارتكبها الرجل الأبيض في العالم الجديد غربًا، وفي أستراليا شرقًا! وقد لا تتسع كل موسوعات العالم لمثل هذه الأمثلة عن فظائع الغرب.

وحين يتجاهل هابرماس وصحبه- المتربعون على قمة الهرم العلمي والمعرفي في الغرب- دروسَ التاريخ، فذلك هو السقوط الأخلاقي بعينه، بإرادة من يسقط فيه إن شئت، أو رغمًا عنه. فكيف إن كان الساقطون أخلاقيًا هذه المرة، هم فئةً من كبار العلماء والمفكّرين في بلدانهم وثقافاتهم، يتنكرون لكل ما كتبوه وقالوه؛ خوفًا من تهمة معاداة السامية؟

لقد نجح المنتصرون في الحرب العالمية الثانية، ومروجو تهمة معاداة السامية في ترويض المهزومين في ألمانيا واليابان، على وجه الخصوص، وها هو هابرماس وصحبه يقعون في أقفاص الاتهام الأخلاقي كالفرائس المغلوبة على أمرها.

لمثل هذا المصير يريد الغرب ويخطط لإيراد أمتنا، بدأ بغزة والضفة أولًا. فبالأمس دعا بنيامين نتنياهو لإحداث تغيير ثقافي جوهري في قطاع غزة بعد الحرب التي سقط فيها كيانه.

لكن أمتنا عصية على السقوط وفيها القرآن يتلى وصوت الأذان يرفع، واسألوا شعوبنا التي ترفض أن تنسى فلسطين وتقبل بإسرائيل. وإن سقط بعض منا في مهاوي التردي والفشل تنهض الأمة على أكتاف حفظة الكتاب وتستفيق على صوت الأذان، وهو ما لا يعرفه أو يدركه هابرماس وزمرته.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

إقرأ أيضاً:

كريم وزيري يكتب: أرباح الحروب التي لا نراها في نشرات الأخبار

في كل حرب، تتجه الأنظار نحو الجبهات، نحو الدبابات التي تزمجر، والطائرات التي تمطر، والجنود الذين يسقطون على أطراف الخرائط، لكن قليلون من ينظرون خلف الكواليس، حيث تجلس الأطراف الرابحة في صمت، تتابع المشهد من شاشات تحليل البيانات أو مكاتب صفقات السلاح، تحتسي قهوتها بهدوء بينما تُعد الأرواح على الأرض مجرد أرقام في تقارير الأداء، ومنذ الحرب العالمية الأولى وحتى أحدث صراع في أوكرانيا أو غزة، ظل السؤال نفسه يُطرح بين من يجرؤون على كسر السرديات الرسمية وهو من يربح حقًا من هذه الحروب؟

هناك من يعتقد أن تاجر السلاح هو الرابح الأكبر، وهو رأي له وجاهته، فصناعة السلاح هي من أكثر الصناعات التي لا تخسر أبدًا، الحرب بالنسبة لها ليست دمارًا بل موسم رواج، كل دبابة تُستهلك تُستبدل بأخرى، وكل صاروخ يُطلق يُعوض بعقد توريد جديد، وشركات كبرى مثل لوكهيد مارتن، ريثيون، تُضاعف أرباحها كلما احتدمت الجبهات، والحروب تُستخدم كإعلانات حية لمنتجاتهم، ويكفي أن تنجح طائرة واحدة في تنفيذ مهمة دقيقة حتى تصبح نجمة معارض السلاح التالية، والدول لا تشتري فقط القدرة على القتل، بل تشتري وهم التفوق، هالة الردع، وشعورًا زائفًا بالأمان.

لكن الصورة تغيرت، فخلف الكاميرات، هناك لاعب جديد دخل الساحة، لا يرتدي زيًا عسكريًا ولا يظهر في نشرات الأخبار، إنه من يملك المعلومة، من يستطيع أن يوجه الرأي العام، أن يصنع العدو، أن يعيد تعريف النصر والهزيمة حسب مزاج مصالحه، من يملك المعلومة يملك القوة الناعمة والصلبة في آنٍ واحد، شركات مثل غوغل وميتا وأمازون لم تُصنف حتى الآن ضمن "شركات الدفاع"، لكنها تملك بيانات عن الشعوب أكثر من حكوماتها، وتستطيع حرف المسارات السياسية عبر خوارزمية، أو إخماد ثورة بتقليل ظهورها في "الترند".

لم تعد المعركة فقط على الأرض، بل على الشاشات، في كل ما يُقال ويُعاد ويُضخ، في كل إشعار يصل لهاتفك ويستهدف وعيك قبل أن يستهدف جسدك، باتت المعلومة أقوى من القنبلة، لأنها تهيئ لها الطريق، وتُشيطن طرفًا، وتبرر الحرب، وتمنح الضوء الأخضر النفسي قبل العسكري، ومن يتحكم في الصورة، يتحكم في المعركة، ومن يتحكم في التحليل، يتحكم في المصير.

صانع السلاح يربح عندما تشتعل الحرب، لكن صانع المعلومة يربح حتى في الهدنة، بل أحيانًا يُشعل الحرب لتخدم روايته، والمشكلة أن كثيرًا من الصراعات التي نشهدها الآن لم تُخلق من نزاع حقيقي على الأرض، بل من تضخيم إعلامي أو سردية مصطنعة، أصبح بالإمكان تصنيع "عدو"، ثم بث الخوف منه، ثم تسويقه كمبرر لحرب لاحقة، وكل ذلك دون أن يخرج مطلق المعلومة من مكتبه.

منذ سنوات بدأت شركات السلاح تستثمر في شركات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، والعلاقة بين الاثنين لم تعد منفصلة، وهناك من يصنع السلاح، وهناك من يصنع القصة التي تُبرر استخدامه، وهناك من يجهز الطائرة، وهناك من يجهز عقل المواطن ليتقبل القصف.

المعلومة أصبحت سلاحًا موازيًا، بل سابقًا على القذيفة. فالقصف يبدأ من رأسك، من فكرة يتم زرعها، حتى تصدّق أنها "حرب عادلة" أو "دفاع عن النفس".

السؤال الآن من يربح أكثر؟ من يبيع الموت في شكل معدني أم من يبيعه في شكل رواية؟ من يملك المصنع أم من يملك التأثير؟ من يتحكم في الجيوش أم من يتحكم في العقول؟ الواقع أن كليهما رابح، لكن الفارق أن تاجر السلاح يربح مرئيًا، في حين أن تاجر المعلومة يربح في الخفاء، دون أن يُسأل أو يُحاسب، بل الأسوأ قد تراه بطلًا، أو خبيرًا محايدًا، وهو في الحقيقة من يدير المعركة بطرف إصبع.

الربح في الحروب لم يعد فقط ماليًا، إنه أيضًا في التأثير، في إعادة رسم الخرائط، في التحكم في السرديات الكبرى، والأدهى من ذلك أن الشعوب نفسها باتت هي السلعة، بياناتهم، عواطفهم، مخاوفهم، سلوكهم على الإنترنت، كل ذلك أصبح يُباع ويُشترى ويُستخدم كوقود في حروب غير تقليدية، حروب لا يُطلق فيها رصاص بل تُحقن فيها العقول بما يكفي لتدمير ذاتها.

صانع السلاح يربح حين تسقط الجثث، لكن صانع المعلومة يربح حين تنهار الثقة، حين تصبح الحقيقة مشوشة، والواقع ضبابيًا، والعقل هشًا، قد لا تراه، لكنه موجود في كل إشاعة، في كل فيديو مفبرك، في كل خطاب تعبوي يُبث، في كل "ترند" يُدير الوعي الجمعي دون أن ينتبه أحد.

الحروب القادمة لن تكون فقط على الأرض، بل في الفضاء الإلكتروني، في غرف الاجتماعات المغلقة، في مراكز تحليل السلوك البشري، وساحة المعركة لن تكون فقط الجبهة، بل أيضًا شاشة هاتفك، عقل ابنك، وتصوّرك لما يجري من حولك.

قد لا تشتري سلاحًا، لكنك تستهلك المعلومة، وقد لا تقتل أحدًا، لكنك قد تقتل الحقيقة دون أن تدري.

 

 

مقالات مشابهة

  • كريم وزيري يكتب: أرباح الحروب التي لا نراها في نشرات الأخبار
  • حماس: استخدام إسرائيل للفلسطينيين دروعا بشرية جريمة حرب تكشف انهياره الأخلاقي
  • في الطريق إلى غزة يطهر الغرب نفسه
  • عن تغطيتها لحرب غزة وسوريا.. الجزيرة تحصد 22 جائزة منها 3 ذهبية
  • اقتصاد الظل في السودان: تحالفات الخفاء التي تموّل الحرب وتقمع ثورة التحول المدني
  • ألمانيا: المساعدات التي دخلت غزة قليلة جدا ومتأخرة
  • أبرز الهجمات التي نفذتها جماعة الحوثيين على إسرائيل عام 2025
  • إنقاذ الكيان من نتنياهو حاجة غربية
  • خبراء: إسرائيل باتت عبئا أخلاقيا على الغرب ونتنياهو يتخذها رهينة
  • هل تتعلّم سوريا السر من ألمانيا وكوريا؟