معركة الوثائق السرية في مواجهة التاريخ الاستعماري المظلم لبريطانيا
تاريخ النشر: 25th, May 2025 GMT
في عام 2009، تقدم 5 كينيين مسنين بطلب رسمي إلى رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون، طالبوا فيه بالاعتراف بالانتهاكات الجسيمة التي تعرضوا لها خلال الحكم الاستعماري البريطاني لكينيا في خمسينيات القرن الماضي.
ورغم ضعف الأدلة المتوفرة في البداية، فقد وصلت القضية إلى المحكمة العليا البريطانية عام 2011، لتكشف عن مفاجأة مدوية، وهي أن بريطانيا تعمدت إخفاء وتدمير آلاف المستندات التي توثق ممارسات قمعية ارتُكبت خلال تلك الحقبة، خشية الإضرار بسمعتها أو فتح الباب أمام مطالبات قانونية قد تؤدي إلى مساءلة تاريخية.
ما بدأ كقضية قانونية محدودة فتح الباب واسعا على تاريخ طويل من القمع الاستعماري الذي مارسته بريطانيا في مختلف أنحاء العالم. فعلى مدار قرون، بسطت الإمبراطورية البريطانية نفوذها على مساحات شاسعة وتركت خلفها إرثا من الظلم والجروح والصراعات لا يزال يلقي بثقله على المشهد العالمي حتى اليوم.
بدأت الإمبراطورية بتأسيس شركة الهند الشرقية البريطانية التي سرعان ما تحولت من مشروع تجاري إلى قوة إمبريالية، تخوض الحروب وتفرض سيطرتها على مساحات شاسعة من جنوب آسيا، مما مهد لصعود بريطانيا كقوة عالمية، ومع احتكار التجارة في الهند والصين، عززت بريطانيا نفوذها الاقتصادي والعسكري، واضعة الأسس لإمبراطورية امتدت عبر القارات.
مع دخول القرن الـ19، أصبحت القارة الأفريقية ساحة جديدة لمشاريع بريطانيا الاستعمارية بعد احتلال مصر عام 1882 والسيطرة على قناة السويس، التي ضمنت لبريطانيا هيمنتها على أحد أهم طرق التجارة إلى الهند.
واجه سلوك بريطانيا الاستعمارية في أفريقيا مقاومة شرسة، لا سيما في جنوب القارة، ولكن بحلول أواخر القرن الـ19، كانت بريطانيا قد أحكمت قبضتها على أجزاء واسعة من القارة، محققة رؤيتها بإنشاء إمبراطورية تمتد "من كيب تاون إلى القاهرة"، كما في أدبيات تلك المرحلة.
إعلانوكانت الإمبراطورية حينها تضم ما يقرب من ربع مساحة اليابسة في العالم وأكثر من ربع مجموع سكانها، ولم تكن هيمنة بريطانيا مقتصرة على الأراضي وحدها، بل امتدت للسيطرة التجارية والسياسية في مناطق إستراتيجية أبرزها الصين.
في الصين، فرضت بريطانيا ما يُعرف بـ"المعاهدات غير المتكافئة" بعد سلسلة من الحروب سميت بحروب الأفيون الأولى والثانية، التي بدأت بسبب قيام بريطانيا بتصدير الأفيون إلى الصين لتعويض العجز التجاري المتزايد لديها بسبب الطلب الكبير على الشاي الصيني.
لكن مع تصاعد التغيرات الجيوسياسية، وظهور قوى دولية منافسة، بدأت هيمنة بريطانيا العالمية بالتآكل التدريجي. وفي محاولة لإعادة صياغة علاقتها بمستعمراتها السابقة، أُعلن عام 1931 عن تشكيل الكومنولث البريطاني، الذي ضم الكيانات التي حازت قدرا واسعا من الحكم الذاتي، لكنها استمرت في الاعتراف الرمزي بالملك البريطاني كقائد لهذا التجمع.
ظلّت هونغ كونغ الشاهد الأخير على التاريخ الاستعماري البريطاني حتى عام 1997، لتسلمها بريطانيا رسميا إلى السيادة الصينية، وتطوي بذلك آخر صفحات إمبراطوريتها المباشرة.
سلسلة طويلة من الانتهاكاتيروج بعضهم لفكرة أن الإمبراطورية البريطانية شكلت استثناء ملحوظا في القاعدة الاستعمارية، استنادا إلى ما يُعرف بـ"النهج الناعم" البريطاني، في إدارة مستعمراتها دون اللجوء إلى الفظائع التي ارتكبتها القوى الاستعمارية الأخرى، غير أن هذا التصور، بحسب عدد من الباحثين والمؤرخين، أدى إلى إضفاء سردية مُجتزأة تُخفي جوانب أساسية من العنف البنيوي الذي ميز التجربة الاستعمارية.
ووفقا لهذا الطرح، تم تقديم السياسات العسكرية البريطانية باعتبارها إجراءات "منضبطة" و"متحضرة"، بل وذات طابع إنساني، في حين جرى تبرير استخدام القوة على أنه ضرورة تهدف إلى فرض النظام بين شعوب توصف بأنها "بدائية" أو "متخلفة".
إعلانورغم أن القانون الدولي وضع قواعد تضبط سلوك الدول "المتحضرة" في النزاعات المسلحة، فإن هذه القواعد لم تُطبق في الحروب الاستعمارية التي خاضتها بريطانيا، بل غالبا ما جرى تجاهلها وفق مختصين، مما فتح المجال أمام ارتكاب مجازر واسعة بحق السكان الأصليين تحت غطاء استعادة الأمن أو فرض الهيبة الإمبراطورية.
في عام 1898، ارتكب الجيش البريطاني بقيادة الجنرال هربرت كتشنر مجازر واسعة ضد قوات المهدية السودانية في معركة كرري (أم درمان)، استخدم البريطانيون أسلحة حديثة مثل المدافع الرشاشة والبنادق المتطورة، في حين كان غالبية المقاتلين السودانيين مسلحين بأسلحة بيضاء وأسلحة تقليدية.
فتحت نيران البوارج، واستخدمت القوات البريطانية رشاشات مكسيم المحملة بذخائر "دوم دوم" المتمددة، وكانت القذيفة الواحدة تخلف عشرات القتلى، وهي من أوائل الأسلحة الآلية في التاريخ العسكري الحديث، وفرت هذه الرشاشات كثافة نارية غير مسبوقة، مما جعلها واحدة من أقوى الأسلحة في الحروب الاستعمارية.
تصف المصادر والشهادات المعركة بأنها كانت إبادة جماعية أكثر منها مواجهة عسكرية متكافئة، إذ واصل الجنود البريطانيون إطلاق النار حتى بعد هروب أو استسلام العديد من السودانيين، وأعدموا الجرحى على أرض المعركة. أسفر ذلك عن مقتل ما يقدر بين 10 آلاف إلى 26 ألف مقاتل سوداني في غضون ساعات، بينما لم تتجاوز خسائر البريطانيين 100 قتيل.
وقد أثارت وحشية المجزرة انتقادات واسعة في الصحافة البريطانية في ذلك الوقت، واعتبرها كثيرون رمزا لهمجية الإمبريالية البريطانية واحتقارها لحياة الشعوب المستعمَرة.
ورغم الانتقادات الدولية الواسعة، استمرت بريطانيا في استخدام هذه الذخائر حتى عام 1902، ليس بسبب اعتبارات إنسانية، بل خوفا من أن تُستخدم ضد قواتها من قبل خصومها، بحسب ما ذكره متخصصون.
وفي عام 1919، شهدت الهند واحدة من أسوأ المجازر، حين فتحت القوات البريطانية نيرانها على حشد من المتظاهرين المدنيين في حديقة جاليانوالا باغ بمدينة أمريتسار في إقليم البنجاب، قُتل في ذلك اليوم نحو 400 شخص، وأصيب أكثر من 1000 وفق الأرقام الرسمية، بينما تشير مصادر مستقلة إلى أن الأعداد الحقيقية أكبر بكثير.
إعلانلم تكتف القوات البريطانية بإطلاق النار، بل منعت أيضا تقديم الإسعافات للمصابين، في خطوة أثارت موجة غضب عالمي.
لم تكن هذه الحادثة سوى واحدة من سلسلة طويلة من الانتهاكات التي ارتكبتها بريطانيا في مستعمراتها، فقد استخدمت السلطات الاستعمارية سياسة الأرض المحروقة في مواجهة أي مظاهر مقاومة، شملت إحراق القرى وتهجير السكان، كوسيلة لفرض السيطرة وإخماد التحركات الشعبية.
وكان أحد أكثر أساليب الإعدام الوحشية التي استخدمها البريطانيون ضد المتمردين في الهند هو تفجير الأسرى من أفواه المدافع، وهو أسلوب دموي تعمّد انتهاك الشعائر الدينية لدى المسلمين والهندوس معا، جعلت من المستحيل دفن أو حرق الجثث وفق الشعائر الدينية، مما أضفى طابعا رمزيا يهدف إلى تحطيم الروح المعنوية والدينية للمجتمعات المُستعمَرة.
ووفقا للمؤرخين الرسميين، شهدت الهند خلال الحكم البريطاني إعلان الأحكام العرفية، حيث كان الجنود والمدنيون البريطانيون يعقدون محاكمات دموية صورية أو يعدمون السكان الأصليين دون أي محاكمة، بغض النظر عن الجنس أو العمر.
A post shared by الجزيرة الوثائقية (@aljazeeradocumentary)
وكان ونستون تشرشل وزيرا للدولة لشؤون الحرب والطيران -مازال يُحتفى به باعتباره رمزا للمقاومة البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية– من أشد المدافعين عن الحفاظ على الإمبراطورية البريطانية حتى باستخدام أساليب قمعية مثيرة للجدل.
ففي عام 1919، كتب تشرشل صراحة أنه "يؤيد بشدة استخدام الغاز السام ضد القبائل غير المتحضرة"، وفي العام التالي أصدر أوامر باستخدام القوة المفرطة لقمع الانتفاضة في العراق، حيث نفّذ سلاح الجو الملكي أكثر من 4 آلاف ساعة من الطلعات القتالية، وأسقط ما يزيد عن 97 طنا من القنابل، وأطلق ما يزيد عن 184 ألف طلقة ضد المدنيين العراقيين، مما أسفر عن دمار واسع وسقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين.
إعلانوخلال الثورة الفلسطينية الكبرى بين عامي 1936 و1939، واجه البريطانيون المقاومة الفلسطينية بأساليب وحشية، تمثلت في الإعدامات العلنية دون محاكمة، وهدموا المنازل كعقاب جماعي، وفرضوا عقوبات جماعية على القرى المشتبه بدعمها للثوار، كما مارست قوات الانتداب التعذيب المنهجي في مراكز التحقيق بحق مئات المعتقلين الفلسطينيين خلال التحقيقات مع الفلسطينيين المشتبه بهم.
وشكّلت أساليب القمع البريطاني في أفريقيا نموذجا للوحشية المؤسسية الاستعمارية تحت غطاء التمدن ومسمى "إعادة التأهيل". ففي مالاوي وحدها، بين عامي 1948 و1960، أسفرت العمليات العسكرية عن مقتل نحو 6711 شخصا، وصفتهم بريطانيا بـ"الإرهابيين"، إلى جانب 2473 مدنيا، ضمن حملة استُخدمت فيها أقسى وسائل العنف العسكري.
وفي كينيا، تحولت البلاد إلى مسرح لانتهاكات واسعة خلال الثورة الكينية بقيادة شعب الكيكويو ضد الاستعمار البريطاني، حيث اعتُقل مئات الآلاف من المدنيين وزُجّ بهم في معسكرات اعتقال ومورست داخلها أشكال مختلفة من التعذيب، شملت الضرب والتجويع والانتهاكات الجنسية والعمل القسري والإذلال الممنهج.
وبحلول عام 1955 تم تهجير أكثر من مليون شخص من منازلهم في كينيا إلى مناطق مغلقة بالأسلاك الشائكة، وفقا للتقارير البحثية، وتشير السجلات إلى أن من بين ضحايا التعذيب كان جدّ الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما.
وفي محاولة للقضاء على المقاومة، أسقطت القوات البريطانية أكثر من 6 ملايين قنبلة على غابات كينيا خلال 18 شهرا فقط. وبينما تقدّر الأرقام الرسمية عدد القتلى بنحو 11 ألف شخص، فإن مؤرخين بارزين، مثل ديفيد أندرسون من جامعة أكسفورد، يرجّحون أن العدد الحقيقي يصل إلى 25 ألفا، في حين قدّرت كارولين إلكينز من جامعة هارفارد عدد الضحايا بنحو أكثر من 300 ألف قتيل.
إعلان التمييز الممنهجشملت السيطرة البريطانية التمييز القانوني والاجتماعي ففي عام 1902، فرضت الإدارة الاستعمارية ضريبة الكوخ (Hut Tax) بعد أن صادرت أراضي السكان الأصليين، مما أجبرهم على العمل لدى المستوطنين الأوروبيين من أجل تأمين دخل لدفع هذه الضريبة.
وقد ترافقت هذه السياسة مع قوانين مجحفة، أبرزها قانون الأراضي الصادر عام 1913، الذي منح المستوطنين البيض في كينيا وجنوب أفريقيا امتيازات عقارية طويلة الأمد تصل إلى 999 عاما، في حين حُرم السكان الأصليون من حق التملك أو الإيجار في معظم الأراضي الخصبة.
وفي عام 1919، فرضت السلطات البريطانية على السكان الكينيين الأصليين حمل أقراص معدنية للتعريف الشخصي.
وقد اعتُبرت هذه الإجراءات من أوائل أشكال التمييز الممنهج الذي مارسته سلطات استعمارية باستخدام وسائل توثيق شخصية تُفرّق بين السكان على أساس العرق أو الأصل، في إجراء قارنه مختصون بما فعله النظام النازي لاحقا في أوروبا، وبأنظمة الفصل العنصري اللاحقة في أفريقيا.
التهجير القسريوفي الستينيات، ومع تصاعد حركة الاستقلال في أفريقيا، نسّقت بريطانيا سرا مع الولايات المتحدة واحدة من أكبر عمليات التهجير القسري إثارة للجدل في تاريخها لترحيل سكان جزر تشاغوس من وطنهم، بهدف إنشاء قاعدة عسكرية أميركية على جزيرة دييغو غارسيا.
ورغم صدور عدد من الأحكام والتوصيات الدولية التي تدين هذا الفعل، أبرزها الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية في فبراير/شباط 2019، الذي خلص إلى أن استمرار السيطرة البريطانية على الأرخبيل غير قانوني، وأن على المملكة المتحدة إنهاء إدارتها "في أقرب وقت ممكن"، لم تُبدِ الحكومة البريطانية أي التزام فعلي بإعادة السكان أو الاعتراف بمسؤوليتها التاريخية.
في عام 2023، أصدرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" تقريرا وصفت فيه التهجير القسري لسكان تشاغوس بأنه "جريمة ضد الإنسانية"، وطالبت فيه بمحاكمة المسؤولين عن الانتهاكات، إضافة إلى تعويض السكان وأحفادهم بشكل كامل وغير مشروط.
كانت السياسات البريطانية في مستعمراتها مبنية في الأساس على نهج الاستغلال الاقتصادي واستعمال العبودية، فلم تكن مجرد تدابير تنظيمية، بل وسيلة ممنهجة لتحقيق التوسع والثراء الاستعماري.
يتضح ذلك جليا في إقليم البنغال الهندي، حيث فرضت شركة الهند الشرقية زيادات حادة في الضرائب أدت إلى تدهور الوضع المعيشي للسكان، إذ تضاعفت الضرائب 3 مرات في غضون 5 سنوات فقط.
إعلانوقد أسهمت هذه السياسة القسرية في التحصيل الضريبي، المصحوبة بتجاهل الإدارة البريطانية للمجاعات المتكررة، بشكل مباشر في وقوع مجاعة كبرى عام 1770، قُدّر عدد ضحاياها بنحو 10 ملايين بنغالي، أي ما يعادل ثلث سكان الإقليم في ذلك الوقت.
وتكشف الدراسات أن السياسات الاقتصادية البريطانية في الهند بين عامي 1765 و1938 أدت إلى نهب واستنزاف ما لا يقل عن 9 مليارات جنيه إسترليني من ثروات الهند.
ولم تقتصر سياسة الاستغلال هذه على شبه القارة الهندية، بل امتدت إلى ما وراء المحيط الأطلسي، حيث كانت بريطانيا لاعبا أساسيا في تجارة الرق، إذ شارك تجارها في استعباد أكثر من 3 ملايين أفريقي، نجا منهم نحو 2.7 مليون فقط من ظروف النقل القاسية، وقد شكل الأطفال نسبة كبيرة من الضحايا.
أتاحت العبودية لبريطانيا تراكم ثروات طائلة من خلال استغلال المستعبدين في إنتاج محاصيل مربحة كالسكر والقطن والتبغ، وأسهمت بشكل مباشر في تمويل الثورة الصناعية.
ورغم صدور قانون لحظر تجارة الرقيق عام 1807، فإن العبودية لم تُلغَ بالكامل حتى 1833، واستمر التمييز ضد المستعبدين السابقين فظلوا يواجهون عنصرية ممنهجة أبقتهم مواطنين من الدرجة الثانية، وهو إرث ما زالت آثاره ممتدة حتى اليوم.
السياسات الاستعمارية في الشرق الأوسط
لعبت بريطانيا دورا محوريا في تشكيل خريطة الشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الأولى وما تلاها، من خلال انتهاج سياسات اتسمت بالتناقض والمراوغة، فقد أطلقت لندن سلسلة من الوعود السياسية المتضاربة.
إذ تعهدت للشريف حسين بدعم الاستقلال العربي عن الدولة العثمانية مقابل وقوفه إلى جانبها في الحرب. غير أن بريطانيا سرعان ما نكثت هذا الوعد، ودخلت في مفاوضات سرية مع فرنسا تمخضت عن اتفاقية سايكس-بيكو عام 1916، التي اقتسمت بموجبها القوتان النفوذ الاستعماري في المنطقة.
وبعد أيام قليلة من دخولها الحرب ضد الدولة العثمانية في نوفمبر/تشرين الثاني 1914، شرع مجلس الوزراء البريطاني في بحث مستقبل الحركة الصهيونية.
إعلانوفي عام 1917 صدر وعد بلفور الشهير، الذي أعلنت فيه بريطانيا دعمها لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، لتخضع فلسطين لاحقا للانتداب البريطاني (1920-1948) بتفويض من عصبة الأمم.
خلال تلك الفترة، شجعت بريطانيا الهجرة اليهودية إلى فلسطين وعملت على تعزيز نفوذها في المنطقة دون أن تلجأ إلى الضم المباشر بما يتطلبه من موارد وكلفة إدارية وعسكرية.
وقد لخّص أحد المؤرخين البريطانيين هذا النهج بقوله: "الاستنتاج الوحيد المنطقي هو أن الجميع كذبوا على الجميع، ولم يكذب أحد بأكثر براعة، بناء على طموحاته، مثل البريطانيين".
وفي عام 2017، رفضت الحكومة البريطانية تقديم أي اعتذار بشأن وعد بلفور، الذي قالت حينها إنه موضوع تاريخي ولا نية لها في الاعتذار عنه، بل أعربت عن الفخر بدور بريطانيا في إيجاد دولة إسرائيل.
وجاء هذا الموقف رغم التماس قُدم للحكومة وقع عليه أكثر من 11 ألف بريطاني يطالبون بالاعتذار عن الوعد، مما ألزم الحكومة بإصدار رد رسمي.
ضحايا مدنيون في المحاكم البريطانيةفي عام 2012، شهدت المحكمة العليا في لندن واحدة من أبرز القضايا التاريخية التي سلطت الضوء على الجرائم الوحشية التي ارتكبتها بريطانيا خلال فترة استعمار كينيا، أدلى 4 مواطنين كينيين -بينهم امرأة تدعى جين مارا- بشهاداتهم أمام المحكمة حول الانتهاكات المروعة التي تعرضوا لها خلال حملة القمع البريطانية في خمسينيات القرن الماضي.
كانت جين تبلغ من العمر 15 عاما عندما جرى اعتقالها وتعذيبها بوحشية، وابتكر الجنود البريطانيون أداة تشبه الكماشة لاستخدامها في الضغط على المناطق الحساسة للمعتقلين، في محاولة لإلحاق أكبر قدر ممكن من الألم والإذلال.
أثناء جلسات المحاكمة، ظهرت أدلة قاطعة على أن السلطات البريطانية سعت إلى طمس هذه الجرائم، حيث تبين أن وثائق رسمية كانت قد أُخفيت أو نُقلت سرا إلى منشآت حكومية مراقبة، وفي ديسمبر/كانون الأول 2010، حكم القاضي بأن وزارة الخارجية ومنظمة الكومنولث البريطانية ملزمتان بالكشف عن الوثائق المرتبطة بالقضية.
ونتيجة لهذا القرار، تعهدت الحكومة البريطانية بإطلاق أكثر من 8800 ملف سري تعود إلى 37 مستعمرة سابقة، كانت مخزنة في منشأة شديدة الحراسة تعرف باسم "هانسلوب بارك" في مقاطعة باكينغهامشير.
إعلانفتحت هذه القضية الباب لقضايا أخرى مشابهة، ففي أعقابها، قرر 35 من مقاتلي منظمة "إيوكا" القبرصية، التي خاضت نضالا مسلحا من أجل استقلال قبرص، رفع دعوى جماعية ضد الحكومة البريطانية.
وأكد المدّعون تعرضهم لانتهاكات جسيمة على أيدي القوات الاستعمارية في خمسينيات القرن الماضي، ومن بين هؤلاء امرأتان قدمتا شهادات مروعة عن معاملة غير إنسانية، تضمنت الاغتصاب والتعذيب والضرب والإيهام بالغرق.
عززت الوثائق التي أفرج عنها الأرشيف الوطني البريطاني عام 2012 مصداقية هذه الروايات، وكشفت عن أدلة موثقة على الانتهاكات، بما في ذلك مقتل رجل قبرصي كفيف أثناء حملة أمنية، لجأت الحكومة البريطانية مرة أخرى للتسوية المالية، معلنة أنها ستدفع مليون جنيه إسترليني كتعويض للمتضررين. غير أنها شددت في الوقت نفسه أن هذا الاتفاق لا يُعد اعترافا قانونيا بالمسؤولية عن الانتهاكات.
View this post on InstagramA post shared by الجزيرة الوثائقية (@aljazeeradocumentary)
تدمير وإخفاء ممنهج للوثائق الاستعماريةفي أعقاب قضية كينيا 2012 أظهرت مراجعة رسمية أن بريطانيا قامت بإتلاف آلاف الوثائق التي توثق أكثر الجرائم خلال السنوات الأخيرة من الإمبراطورية البريطانية، لمنع وقوعها في أيدي حكومات ما بعد الاستقلال، مما يكشف عن محاولات متعمدة لمحو التاريخ الاستعماري القاتم وتفادي أي مساءلة قانونية.
أما الوثائق التي نجت من التدمير فقد تم نقلها سرا إلى أرشيف وزارة الخارجية، بعيدا عن متناول المؤرخين والجمهور، حيث تم إخفاؤها لما يقارب 50 عاما، في مخالفة صريحة للالتزامات القانونية التي تفرض إتاحتها للعلن.
تتضمن هذه الأوراق تعليمات التدمير المنهجي الصادرة في عام 1961 بعد أن وجه إيان ماكلويد، وزير الدولة لشؤون المستعمرات، بأن حكومات ما بعد الاستقلال يجب ألا تحصل على أي مواد "قد تحرج حكومة صاحبة الجلالة"، والتي يمكن أن "تحرج أفراد الشرطة أو القوات العسكرية أو الموظفين العموميين أو غيرهم مثل مخبري الشرطة"، وقد تعرض مصادر الاستخبارات للخطر.
إعلانوضمن الوثائق القليلة التي كُشف عنها لاحقا، تبيّن أن الوزراء في لندن كانوا على دراية تامة بعمليات التعذيب والقتل التي تعرض لها متمردو ماو ماو في كينيا، ومن بينها حالة مروعة لامرأة "شُويت حية".
كما تضمنت السجلات تفاصيل عن التهجير القسري لسكان جزيرة دييغو غارسيا في المحيط الهندي، الذين أُجبروا على مغادرة أراضيهم بالقوة.
إضافة إلى وثائق حساسة من مستعمرة عدن، حيث كان فيلق المخابرات التابع للجيش البريطاني يدير مركزا سريا للتعذيب خلال ستينيات القرن الـ20. كذلك، تم تدمير جميع الوثائق الحساسة المتعلقة بمستعمرة غويانا البريطانية.
في كينيا، أُبلغ المسؤولون الاستعماريون بأن "البديل عن الإحراق هو وضع الوثائق في صناديق ثقيلة وإلقاؤها في أعماق البحر بعيدا عن الساحل".
في الماضي، كان البريطانيون ينظرون إلى إمبراطوريتهم بفخر واعتزاز، باعتبارها فترة جلبت القوة والثروة إلى بريطانيا، وساهمت في تمويل الاكتشافات العلمية، وتوسيع آفاق التجارة الدولية، ومساعدة البلدان الأخرى على ولوج عالم الحداثة والتقدم.
لكن هذا التصور اصطدم باستطلاعات حديثة أظهرت أن 6 من كل 10 بريطانيين يؤيدون تقديم اعتذار رسمي لأحفاد ضحايا العبودية، سواء من الحكومة البريطانية أو العائلة المالكة، أو الشركات التي استفادت من استغلال البشر خلال الحقبة الاستعمارية، وتتعالى الأصوات المطالبة بالاعتذار أيضا خارج بريطانيا، حيث تزداد الدعوات في دول الكاريبي وأفريقيا إلى اتخاذ مواقف أكثر شجاعة تجاه الماضي الاستعماري.
خلال زيارته إلى كينيا عام 2023، أقر الملك تشارلز الثالث بارتكاب بريطانيا "أعمال عنف بغيضة وغير مبررة" خلال فترة الاستعمار، معبرا عن "الأسف العميق" لما حدث.
إعلانووصف الرئيس الكيني وليام روتو تصريحات الملك بأنها "خطوة شجاعة"، لكنه شدد على أن "التعويض الكامل لم يتحقق بعد".
أما لجنة حقوق الإنسان الكينية، فقد دعت الملك إلى تقديم "اعتذار علني غير مشروط"، معتبرة أن التصريحات البريطانية لا تزال "حذرة وتحمي مصالحها".
ويثير هذا التردد تساؤلات قانونية وأخلاقية، خاصة من منظور مختصين في القانون الدولي، فبينما تحمل الاعتذارات الرسمية رمزية سياسية عميقة، لكنها لا تُلزم الدولة قانونيا بأي التزامات مادية أو تعويضات، مما يجعل امتناع بريطانيا عن الاعتذار يبدو خيارا سياسيا أكثر منه ضرورة قانونية.
ورغم أن الإمبراطورية البريطانية لم تعد قائمة رسميا، فإن نفوذها الثقافي والاقتصادي لا يزال ملموسا، حيث يرى مراقبون أن الهيمنة البريطانية ما زالت تستمر اليوم في أشكال أكثر نعومة، من خلال مؤسسات دولية تبدو محايدة، كالكومنولث أو الأمم المتحدة أو منظمات متعددة الأطراف تحتفظ فيها القوى الاستعمارية السابقة بثقل كبير في صناعة القرار.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الإمبراطوریة البریطانیة الحکومة البریطانیة القوات البریطانیة الاستعماریة فی التهجیر القسری البریطانیة فی بریطانیا فی فی أفریقیا فی کینیا واحدة من أکثر من وفی عام فی عام فی ذلک فی حین
إقرأ أيضاً:
رقم قياسي بطلبات الأميركيين للجنسية البريطانية خلال ولاية ترامب
أظهرت بيانات جديدة من حكومة المملكة المتحدة ارتفاعًا كبيرًا في طلبات الأميركيين الراغبين في الحصول على الجنسية البريطانية خلال الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام، وهو ما عزاه بعض المحللين إلى المناخ السياسي في الولايات المتحدة.
وتقول صحيفة نيويورك تايمز إن 6 آلاف و618 أميركيا تقدموا خلال العام المنتهي في مارس/آذار الماضي بطلبات للحصول على الجنسية البريطانية، وهو أعلى رقم سنوي منذ بدء تسجيل البيانات في 2004، حسب إحصاءات صدرت عن وزارة الداخلية البريطانية يوم الخميس.
وقد قُدّم أكثر من 1900 من تلك الطلبات بين يناير/كانون الثاني ومارس/آذار، وهو أعلى رقم مسجل لأي ربع سنة.
وأكد محامو الهجرة أنهم تلقوا زيادة في الاستفسارات من أشخاص في الولايات المتحدة حول إمكانية الانتقال إلى بريطانيا عقب إعادة انتخاب الرئيس دونالد ترامب في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
المحامي مهونثان باراميسفاران في شركة ويلسونز للمحاماة بلندن يقول إن الاستفسارات من الأميركيين الراغبين في الاستقرار في بريطانيا ازدادت "في أعقاب الانتخابات مباشرة والإعلانات المختلفة التي صدرت".
وجاء هذا الارتفاع في طلبات الجنسية البريطانية من قبل الأميركيين في ظل زيادة مماثلة من جميع أنحاء العالم، لكن المعدل العالمي، بنسبة 9.5% سنويا، تم تجاوزه بشكل كبير بزيادة 30% من الولايات المتحدة.
إعلانوتقول زينا لوشوا، الشريكة في شركة لورا ديفاين للهجرة، وهي شركة متخصصة في هجرة الأميركيين إلى بريطانيا، إنها تتوقع زيادة أخرى في الأشهر المقبلة بسبب "المناخ السياسي" في الولايات المتحدة.
وأضافت "لقد شهدنا زيادة في الاستفسارات والطلبات ليس فقط من المواطنين الأميركيين، بل أيضًا من المقيمين في الولايات المتحدة من جنسيات أخرى الذين يخططون للاستقرار في المملكة المتحدة".
وتشير إلى أن الاستفسارات التي تتلقاها ليست بالضرورة عن الجنسية البريطانية، بل تتعلق أكثر بالسعي للانتقال.
وأظهرت بيانات منفصلة نشرتها وزارة الداخلية هذا الأسبوع أن عددًا قياسيا من الأميركيين حصلوا على حق الاستقرار في بريطانيا عام 2024، مما يسمح لهم بالعيش والعمل في البلاد بشكل دائم كخطوة ضرورية قبل الحصول على الجنسية.
ومن بين 5521 طلب استقرار مُنح لمواطني الولايات المتحدة العام الماضي، كان معظمها لأشخاص مؤهلين بسبب أزواجهم أو والديهم أو روابط عائلية أخرى، في حين كانت نسبة كبيرة لأشخاص قدموا في الأصل إلى بريطانيا بتأشيرات مؤقتة "للعمال المهرة" ويريدون البقاء.
وكان هذا الرقم مرتفعًا بنسبة 20% مقارنة بعام 2023، وهو رقم قياسي للسماح للأميركيين بالبقاء في بريطانيا بشكل دائم. ومع ذلك، كانت الزيادة أقل من الزيادة العامة في منح تصاريح الاستقرار لجميع الجنسيات، التي ارتفعت بنسبة 37% في الفترة نفسها.
ويعتقد باراميسفاران أن معدل طلبات الاستقرار سيتسارع أكثر في الأشهر القادمة بعد أن أعلنت الحكومة البريطانية مؤخرًا أن معظم الأشخاص سيتعين عليهم العيش في البلاد 10 سنوات بدلًا من 5 سنوات حاليا قبل التقدم بطلب للاستقرار الدائم.
من جهته، قال مارلي موريس، المدير المساعد للهجرة في معهد لندن لأبحاث السياسات العامة، إن هناك "جملة من العوامل" تقف وراء الزيادة العامة في طلبات الاستقرار من أنحاء العالم، وإن "الدوافع السياسية" من بين هذه العوامل.
إعلانوتسعى الحكومات البريطانية المتعاقبة إلى تقليل صافي الهجرة الذي انخفض إلى النصف في 2024 وفقًا للأرقام الصادرة يوم الخميس. وجاء هذا الانخفاض بعد تشديد القيود من قبل الإدارة المحافظة السابقة.