في كل حرب، تتجه الأنظار نحو الجبهات، نحو الدبابات التي تزمجر، والطائرات التي تمطر، والجنود الذين يسقطون على أطراف الخرائط، لكن قليلون من ينظرون خلف الكواليس، حيث تجلس الأطراف الرابحة في صمت، تتابع المشهد من شاشات تحليل البيانات أو مكاتب صفقات السلاح، تحتسي قهوتها بهدوء بينما تُعد الأرواح على الأرض مجرد أرقام في تقارير الأداء، ومنذ الحرب العالمية الأولى وحتى أحدث صراع في أوكرانيا أو غزة، ظل السؤال نفسه يُطرح بين من يجرؤون على كسر السرديات الرسمية وهو من يربح حقًا من هذه الحروب؟

هناك من يعتقد أن تاجر السلاح هو الرابح الأكبر، وهو رأي له وجاهته، فصناعة السلاح هي من أكثر الصناعات التي لا تخسر أبدًا، الحرب بالنسبة لها ليست دمارًا بل موسم رواج، كل دبابة تُستهلك تُستبدل بأخرى، وكل صاروخ يُطلق يُعوض بعقد توريد جديد، وشركات كبرى مثل لوكهيد مارتن، ريثيون، تُضاعف أرباحها كلما احتدمت الجبهات، والحروب تُستخدم كإعلانات حية لمنتجاتهم، ويكفي أن تنجح طائرة واحدة في تنفيذ مهمة دقيقة حتى تصبح نجمة معارض السلاح التالية، والدول لا تشتري فقط القدرة على القتل، بل تشتري وهم التفوق، هالة الردع، وشعورًا زائفًا بالأمان.

لكن الصورة تغيرت، فخلف الكاميرات، هناك لاعب جديد دخل الساحة، لا يرتدي زيًا عسكريًا ولا يظهر في نشرات الأخبار، إنه من يملك المعلومة، من يستطيع أن يوجه الرأي العام، أن يصنع العدو، أن يعيد تعريف النصر والهزيمة حسب مزاج مصالحه، من يملك المعلومة يملك القوة الناعمة والصلبة في آنٍ واحد، شركات مثل غوغل وميتا وأمازون لم تُصنف حتى الآن ضمن "شركات الدفاع"، لكنها تملك بيانات عن الشعوب أكثر من حكوماتها، وتستطيع حرف المسارات السياسية عبر خوارزمية، أو إخماد ثورة بتقليل ظهورها في "الترند".

لم تعد المعركة فقط على الأرض، بل على الشاشات، في كل ما يُقال ويُعاد ويُضخ، في كل إشعار يصل لهاتفك ويستهدف وعيك قبل أن يستهدف جسدك، باتت المعلومة أقوى من القنبلة، لأنها تهيئ لها الطريق، وتُشيطن طرفًا، وتبرر الحرب، وتمنح الضوء الأخضر النفسي قبل العسكري، ومن يتحكم في الصورة، يتحكم في المعركة، ومن يتحكم في التحليل، يتحكم في المصير.

صانع السلاح يربح عندما تشتعل الحرب، لكن صانع المعلومة يربح حتى في الهدنة، بل أحيانًا يُشعل الحرب لتخدم روايته، والمشكلة أن كثيرًا من الصراعات التي نشهدها الآن لم تُخلق من نزاع حقيقي على الأرض، بل من تضخيم إعلامي أو سردية مصطنعة، أصبح بالإمكان تصنيع "عدو"، ثم بث الخوف منه، ثم تسويقه كمبرر لحرب لاحقة، وكل ذلك دون أن يخرج مطلق المعلومة من مكتبه.

منذ سنوات بدأت شركات السلاح تستثمر في شركات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، والعلاقة بين الاثنين لم تعد منفصلة، وهناك من يصنع السلاح، وهناك من يصنع القصة التي تُبرر استخدامه، وهناك من يجهز الطائرة، وهناك من يجهز عقل المواطن ليتقبل القصف.

المعلومة أصبحت سلاحًا موازيًا، بل سابقًا على القذيفة. فالقصف يبدأ من رأسك، من فكرة يتم زرعها، حتى تصدّق أنها "حرب عادلة" أو "دفاع عن النفس".

السؤال الآن من يربح أكثر؟ من يبيع الموت في شكل معدني أم من يبيعه في شكل رواية؟ من يملك المصنع أم من يملك التأثير؟ من يتحكم في الجيوش أم من يتحكم في العقول؟ الواقع أن كليهما رابح، لكن الفارق أن تاجر السلاح يربح مرئيًا، في حين أن تاجر المعلومة يربح في الخفاء، دون أن يُسأل أو يُحاسب، بل الأسوأ قد تراه بطلًا، أو خبيرًا محايدًا، وهو في الحقيقة من يدير المعركة بطرف إصبع.

الربح في الحروب لم يعد فقط ماليًا، إنه أيضًا في التأثير، في إعادة رسم الخرائط، في التحكم في السرديات الكبرى، والأدهى من ذلك أن الشعوب نفسها باتت هي السلعة، بياناتهم، عواطفهم، مخاوفهم، سلوكهم على الإنترنت، كل ذلك أصبح يُباع ويُشترى ويُستخدم كوقود في حروب غير تقليدية، حروب لا يُطلق فيها رصاص بل تُحقن فيها العقول بما يكفي لتدمير ذاتها.

صانع السلاح يربح حين تسقط الجثث، لكن صانع المعلومة يربح حين تنهار الثقة، حين تصبح الحقيقة مشوشة، والواقع ضبابيًا، والعقل هشًا، قد لا تراه، لكنه موجود في كل إشاعة، في كل فيديو مفبرك، في كل خطاب تعبوي يُبث، في كل "ترند" يُدير الوعي الجمعي دون أن ينتبه أحد.

الحروب القادمة لن تكون فقط على الأرض، بل في الفضاء الإلكتروني، في غرف الاجتماعات المغلقة، في مراكز تحليل السلوك البشري، وساحة المعركة لن تكون فقط الجبهة، بل أيضًا شاشة هاتفك، عقل ابنك، وتصوّرك لما يجري من حولك.

قد لا تشتري سلاحًا، لكنك تستهلك المعلومة، وقد لا تقتل أحدًا، لكنك قد تقتل الحقيقة دون أن تدري.

 

 

المصدر: بوابة الفجر

كلمات دلالية: الحرب العالمية الأولى الأخبار صور حروب الحرب العالمية تقارير القوة الناعمة كريم وزيري لوكهيد مارتن الدبابات دفاع عن النفس من یتحکم فی على الأرض وهناک من من یملک دون أن

إقرأ أيضاً:

جني أرباح يضغط على وول ستريت ويضرب أسهم الذكاء الاصطناعي الأميركية


أقدم متداولو وول ستريت على جني الأرباح الناجمة عن أكبر الرهانات الرابحة في الذكاء الاصطناعي هذا العام، لتهبط مؤشرات الأسهم العالمية من مشارف مستويات قياسية. وارتفعت عوائد السندات طويلة الأجل.

أدت توقعات مبيعات مخيبة للآمال من شركة "برودكوم" إلى هبوط سعر سهم صانعة الرقائق بنسبة 11%، ما ضغط على الشركات المنافسة، وزاد من قلق المستثمرين إزاء رهانات الذكاء الاصطناعي الذي تأجج في بادئ الأمر بفعل "أوراكل".

وبدأ تراجع سعر السهم البارز للذكاء الاصطناعي يوم الخميس عقب توقعات بارتفاع الإنفاق الرأسمالي وتمديد الإطار الزمني لتحقيق العائدات. وتعمّق الهبوط يوم الجمعة بعد تقرير أفاد بتأجيل بعض مشروعات مراكز البيانات التابعة لـ"أوراكل". كما تراجعت أسهم الشركات المرتبطة ببنية الطاقة التحتية اللازمة للذكاء الاصطناعي.

"أوراكل" ترجئ مواعيد إنجاز مراكز بيانات تطوّرها لصالح "OpenAI"

انخفض مؤشر "ناسداك 100" بنسبة 1.9%، فيما تراجع مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" بنسبة 1.1% بعد أن كان قد سجّل إغلاقاً قياسياً في الجلسة السابقة. كما تراجع كل من مؤشر "داو جونز الصناعي" ومؤشر "راسل 2000" من مستويات قياسية.

جني أرباح عند قمم تاريخية

قال لويس نافيليه، كبير مسؤولي الاستثمار في "نافيلييه آند أسوشيتس" (Navellier & Associates)، إن عمليات جني الأرباح يوم الجمعة، التي ضربت الأسهم بعد بلوغ المؤشرات قمم جديدة، لم تكن مفاجئة.

وأضاف: "فقاعة الذكاء الاصطناعي تنكمش لكنها لا تنفجر". وتابع: "تزايد المخاوف بشأن اتفاقيات (أوبن إيه آي) قد يجعل تحقيق مزيد من المكاسب أمراً صعباً".

ألقى هذا البيع بظلاله على التفاؤل الذي أشعله ثالث خفض متتالي لأسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي هذا الأسبوع. كما اضطر المستثمرون للتعامل مع رسائل متباينة من مسؤولي الفيدرالي بعد أن أبقوا توقعاتهم بإجراء خفض واحد فقط في 2026 دون تغيير.

طباعة شارك الذكاء الاصطناعي أسهم الذكاء وول ستريت الأسهم العالمية مؤشرات الأسهم

مقالات مشابهة

  • مقدمات نشرات الأخبار المسائية ليوم الأحد
  • كريم وزيري يكتب: صُنع في السماء السابعة
  • المدينة الصابرة.. غزة
  • الشرق الأوسط بعد أوهام الردع.. حين تُدار الحروب بدل أن تُمنع
  • مقدمات نشرات الأخبار المسائية ليوم السبت
  • سباق القواعد والنفوذ في أفريقيا.. من يملك القرار في القارة؟
  • سباق نحو ثروة السماء.. من يملك كنوز القمر في عصر التعدين الفضائي؟
  • المرحلة الثانية من خطة ترامب في غزة.. ترقب فلسطيني وعرقلة إسرائيلية
  • جني أرباح يضغط على وول ستريت ويضرب أسهم الذكاء الاصطناعي الأميركية
  • انعقاد الدورة الأولى للجنة المشتركة بين مصر وأنجولا برئاسة وزيري خارجية البلدين