تتنافس الدول - وخاصة في المنطقة - على استقطاب واستضافة الأحداث العالمية الكبرى، سواء كانت في الجانب الرياضي أو في الجوانب الاقتصادية أو الاستثمارية أو في غيرها من الجوانب؛ ويعزى ذلك لعدة عوامل، أهمها رغبتها في الاندماج العالمي، والتواصل الثقافي وزيادة نشاط سياحة الفعاليات، إضافة إلى نيتها في تسويق مدن معينة، وتحويل سلوك ساكنيها ليكون متصلًا بشكل أكبر بالسياق الثقافي العالمي المتحول، عوضًا عن كون استضافة هذه الأحداث يعد ركيزة وقاطرة أيضًا لعمليات أخرى تسرع صعودها التنموي؛ ومن تلك العمليات مضاعفة حجمها الاقتصادي، وتطوير بناها الأساسية ومرافقها اللوجستية، وتنشيط سلسلة القيمة المرتبطة بالحدث (مؤسسات صغيرة ومتوسطة - أنشطة اقتصادية متنوعة لخدمة المستضافين - خدمات نوعية تناسب ثقافات متعددة - أنظمة اتصال وإعلام قادرة على تسويق الحدث.

.) وهذه السلسلة بكل تأكيد ستبقى داعمة لكافة العمليات التنموية لاحقًا بعد مرور الحدث. تركز الدول كذلك في سبيل استضافتها لمثل هذه الأحداث على تسويق (الإرث) بمفهومه المتكامل والمتمثل في (قوة الثقافة - قوة التاريخ - قوة المجتمع - قوة التفكير العالمي) وتركز تحديدًا على تسويق ثقافتها، سواء كانت تلك الثقافة الحسية أو المعنوية، وتصحيح بعض المفاهيم المرتبطة بصورتها الثقافية أو السياسية. بالإضافة إلى تعزيز تماسك السكان فيها، وإشاعة روح الاندماج بين الفئات والأجناس المختلفة وفق المبادئ الموجهة لقيمها الثقافية.

تظهر التحليلات التي جرت حيال تأثير استضافة الأحداث الكبرى على المجتمعات أن هناك آثارًا اجتماعية يمثلها استضافة الحدث على المجتمع، اطلعت على عديد الدراسات التي جرت حول ذات السياق ووجدت أن أحد أكثر الآثار الاجتماعية شيوعًا هو الشعور بما يُعرف بـ«الفخر المدني وروح المجتمع Civic pride and community spirit» ويمكن تبسيطها كونها الطريقة التي يشعر فيها الأفراد بتجسد انتمائهم لوطن ما أو مجموعة ما وتماسكهم المعنوي والمادي مع تلك المجموعة، وقدرتهم على الافتخار والتعبير الإيجابي عن ذلك التماسك والانتماء. وخصوصًا الحالة التي يكون فيها المجتمع «مجتمعًا متعددًا» في الأصول والثقافات والعرقيات. يذكر ألكسندر هيرست حيال أثر تنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم في جنوب أفريقيا أن الحكومة في جنوب أفريقيا حاولت استخدام المنافسة الدولية كشيء يمكن أن يتحد حوله كافة أطياف المجتمع، ويتجذرون فيه، ويفتخرون به. وتم الترويج للشعارات الرياضية بألوان العلم الوطني، وتم تخصيص أيام الجمعة «أيام الجمعة لكرة القدم»، حيث سُمح للعمال بارتداء مثل هذه الشعارات الرياضية للعمل. وكانت النتيجة أن حققت بطولة كأس العالم نجاحاً كبيراً في تحقيق هذه الأهداف الاجتماعية. وتؤكد البيانات حسب دراسة جيوفانا دوسينا والتي تم جمعها من خلال مسح تم إجراؤه على سكان ميلانو بعد ثلاث سنوات من نهاية معرض إكسبو ميلانو 2015 أن «الفخر بالمجتمع» كان الأثر الاجتماعي المتصور والممارس لدى غالبية أفراد العينة. على الجانب الآخر تشير عديد الدراسات والتقصيات إلى الفعلي لاستضافة الأحداث الكبرى في تعزيز «القيمة المعنوية للتطوع»، حيث تمكن هذه الأحداث من دفع قطاع واسع من المجتمع وتحديدًا فئة الشباب نحو التطوع في سلسلة تنظيم الحدث، وهذا يرتبط لديهم بقيم عالية أهمها: إدراك القيمة العليا المتحققة، والاندماج مع أنماط مختلفة من الثقافات، ورؤية الأثر لتطوعهم على نطاق واسع وملموس.

لا يمكن إغفال الآثار الاجتماعية - الاقتصادية الأخرى مثل توافر فرص التشغيل، واختبار مهارات جديدة للعاملين مثل العمل تحت الضغوط، وإدارة الأزمات، والعمل في بيئات متعددة الثقافات، وصقل مهارات الذكاء الاجتماعي والانفعالي. عوضًا عن ذلك فإن واحدا من أهم الآثار المحتملة في تقديرنا لاستضافة الأحداث الكبرى يتمثل في كونها «مختبرًا لإعادة تشكيل السلوك الاجتماعي»، حينما يتوحد المجتمع على قواعد سلوكية معينة يفرضها الحدث يصبح لتلك القواعد إلزامها العرفي في المجتمع، وتتحول خلال فترة الحدث -بحكم العادة- إلى سلوك شائع، وبالمثل حينما يرفض المجتمع سلوكًا معينًا. تؤثر الوحدة الاجتماعية بشكل أكبر في دفع الأفراد إلى تغيير أنماطهم السلوكية، أو استبقاء أنماط سلوكية معنية وإبرازها. يمكن سحب ذلك على سلوكيات الصحة البدنية، أو السلوكيات الصديقة للبيئة مثل إعادة تدوير النفايات، واستخدام المواد الأكثر قابلية للتدوير، أو في احترام الثقافات الأخرى وتعظيم قيمة التعددية، أو في سلوكيات الحفاظ على المال العام وسواها. يمكن استخدام دورة الألعاب الأولمبية الصيفية (لندن 2012) مثالًا على ذلك، حيث صممت البطولة بشكل أساسي على مفاهيم وسلوكيات الاستدامة البيئية، بما في ذلك (حسب بيانات هيئة إعادة تدوير المواد العضوية) الاتفاق مع مؤسسات الضيافة (الفنادق والمطاعم) لاستخدام أدوات طعام قابلة لإعادة التدوير والتحلل وبناء أكبر فرع لإحدى المطاعم العالمية الشهيرة باستخدام مواد قابلة لإعادة التدوير/إعادة الاستخدام بنسبة 100% وإعادة استخدام أو إعادة تدوير ما لا يقل عن 90% من حطام البناء والتشييد. إضافة إلى ضخ أكثر من 10 مليارات دولار أمريكي في تحسينات النقل الجماعي. كانت أحد أهم النتائج المتحققة تحقيق مستويات عالية وغير متوقعة من إعادة تدوير النفايات واستجابة السلوك الاجتماعية لهذه التدابير.

هذا لا يعني طبعًا أن الآثار الاجتماعية ستكون إيجابية بالمطلق لأي حدث، هناك مخاوف لا زالت تشير إليها الأدبيات من تأثير هذه الأحداث على إقلاق الحياة العامة للسكان، والتلوث، إضافة إلى انعكاسات وعجوز الموازنات ما بعد الحدث فيما يتعلق بالتنمية المحلية، والتحديات التي سيفرزها الانفتاح المباشر للمجتمع على مجموعة قيم عالمية متداخلة. ولكن الكثير من المراكز والمرجعيات المتخصصة في هذه المسألة بدأت تصميم أدلة ومقاييس استرشادية في سبيل قيمة اجتماعية مضافة من تنظيم هذه الأحداث، وهذه القيم حسب الإجماع تقتضي التركيز على تصميم الحدث من خلال مراعاة عدة أبعاد: (المشاركة الرياضية، والصحة والرفاهية، النمو الاقتصادي والعمالة والابتكار، التنمية الحضرية والاستدامة البيئية، والإدماج الاجتماعي والثقافي) ومن خلال التركيز على موازنة هذه الأبعاد يمكن ضمان تأثيرات اجتماعية مرغوبة تتوازى مع العوائد الاقتصادية والسياسية والبيئية لتنظيم هذه الأحداث. وفي المجمل يمكن القول أن الأحداث الكبرى أصبحت اليوم مساحة للتنافس بين الدول، وباتت جزءا من أجندتها التنموية الوطنية، وذلك لقدرتها على اختصار عديد الجهود التنموية التي تبذل في سبيل «التسويق الوطني» وتحسين البنى الأساسية، وتقوية الثقافة الوطنية، وإرساء مؤسسات إعلامية تشكل قوة نسبية للدولة.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إعادة تدویر هذه الأحداث

إقرأ أيضاً:

الوحدة.. الحدث العظيم

 

 

رغم تعدد زوايا النظر إلى القيمة الحقيقية للوحدة اليمنية فيما يكتب، إلا أن الرؤية الوحيدة التي تفرض حضورها هي أن عظمة الوحدة اليمنية تكمن في ظروف صنعها وزمن بلوغها.. الوحدة اليمنية لم تمثل يوماً لدى شعبنا اليمني خلقاً جديداً لحالة مستحدثة، بقدر ما هي حالة انتصار على أكبر وأخطر تحدٍ واجهته اليمن على مر التاريخ؛ حيث أن الوحدة لطالما مثلت قدرنا ومصيرنا الحتمي الذي تشكل به وجودنا اليمني، بينما التشطير هو الوضع الطارئ الذي اقتحم مسارنا التاريخي، وفرض علينا تحدياته الخطيرة التي كان لا بد من مقاومتها وإزاحتها عن ذلك المسار، لتستأنف الأجيال رحلتها إلى المستقبل المنشود. ونظراً لهول حجم هذا التحدي الذي أوجده قطباً الاحتلال لليمن-العثمانيون في الشطر الشمالي، والإنجليز في شطرها الجنوبي- لم يكن ممكناً لثوار 26 سبتمبر 1962م إعلان الوحدة مع شطر الجنوب صبيحة ذلك اليوم الخالد، والأمر ذاته لم يكن ممكناً أيضاً لثوار 14 أكتوبر 1963م – رغم تحرر اليمن نهائياً من الاستعمار، لأن إرث التشطير الذي خلفته تلك القوى كان يفوق قدرات تحمل القوى الوطنية، نظراً لحجم الخراب الذي صاحب الحياة المدنية اليمنية تحت وطأة استبداد قوى الاحتلال وقوى الكهنوت الإمامي على حدٍ سواء.. لهذا ظلت الوحدة هدفاً يتصدر غايات جميع القوى الوطنية، وجمع ثوراتها التي فجرتها. وبتقديري، فإن جميع العهود السياسية الوطني التي تعاقبت على حكم اليمن بشطريه، لم تكن إطلاقاً على خصومة مع هدف الوحدة، بل كانت تضعها في مقدمة حساباتها، وتجتهد في سعيها، لكنها لم تتوفق إلى ذلك، بسبب الإرث الثقيل الذي ألقى به الماضي على عاتق الساحة الوطنية، ثم الأهم من ذلك هو القصور في تشخيص آليات العمل المناسبة لما كان ماثلاً على أرض الواقع اليمني؛ حيث أن القفز على بعض معطيات ذلك الواقع فتح الساحة الوطنية لخلافات، وتنامي أيديولوجيات واغتيالات للزعماء، وتصفيات وغير ذلك من الأحداث المعروفة عند الجميع. وفي ظل هذه التطورات التي زجت بالشطرين إلى مواجهات مسلحة ودخول لاعبين خارجيين بدت مسألة إعادة تحقيق الوحدة أكثر تعقيداً وصعوبة.
إلا أنه تم تحديد ثلاثة اتجاهات من قبل القيادة السياسية ومعها كل المخلصين والتي أولها إعطاء الأولوية للوحدة الوطنية لجعلها قاعدة الانطلاق إلى الوحدة اليمنية، وثانياً إعادة القضية إلى طاولة الحوار مع الشطر الآخر، بتفعيل لجان الوحدة المشكلة في مراحل سابقة، وثالثاً إحداث حراك تنموي نوعي يؤسس لمصالح اقتصادية مشتركة بين الشطرين، من شأنها تذويب الجليد في العلاقات بين نظامي السطرين، والدفع بزخم شعبي مؤثر في حسابات القرار السياسي، وفرض حقيقته التاريخية عليه. من هنا بدأت مرحلة جادة من السير على طريق إعادة تحقيق الوحدة اليمنية التي سرعان ما دخلت نطاق الاتفاق على مشاريع مشتركة كمؤسسة النقل البحري، وغيرها ومن ثم الاتفاق على تنقل المواطنين اليمنيين بين الشطرين بالبطاقة الشخصية، وشيئاً فشيئاً اتضحت معالم المستقبل اليمني، حتى وصلت الأمور يوم الثلاثين من نوفمبر 1989م الذي تم فيه توقيع اتفاقية الوحدة، ثم يوم 22 مايو 1990م الذي أعلن فيه عن قيام الجمهورية اليمنية وإعادة تحقيق الوحدة اليمنية، وإنهاء حقبة تاريخية مريرة استنفذت خلالها اليمن الكثير من التضحيات، والمعاناة، وفقدت الكثير من أبنائها الشرفاء الذين حملوا الوحدة أمانة، ومسؤولية، ومشروعاً للنضال والغداء.
إن عظمة الوحدة اليمنية تكمن في أنها تحققت بإرادة وطنية خالصة، ورغماً عن كل الظروف الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية الصعبة التي كانت اليمن خلالها ترزح تحت فقر وتخلف ومرض وانعدام موارد طبيعية، وغياب أي بنى مؤسسية للدولة.
كان لحالة الوعي الحقيقي التي دفعت بالأحداث في غضون حوالي عشر سنوات إلى منعطفها التاريخي الكبير يوم 22 مايو، وإلى جانب هذا فإن إعادة تحقيق الوحدة حدثت في زمن كان العالم فيه يتجه إلى التشرذم والشتات، ويعلن انهيار القوى الشرقية العظمى-الاتحاد السوفيتي- واشتعال الفتن في كثير من دول العالم، حتى إذا ما تحققت الوحدة اليمنية مثلت أنموذجاً قريباً فتح شهية الألمان للإعلان عن وحدة الألمانيتين وانهيار جدار برلين بعد أقل من شهرين من قيام الجمهورية اليمنية.

* رئيس مجلس الشورى

مقالات مشابهة

  • التضامن الاجتماعي تنظم برنامجا تدريبيا للعاملين حول آليات ومستجدات العمل الأهلي
  • 50 مليون درهم من «بيور هيلث» لحملة «وقف الحياة»
  • 50 مليوناً من «بيور هيلث» لحملة وقف الحياة
  • «الوطني للتخطيط» ينظّم ملتقى التكامل الإحصائي.. آل خليفة: تعزيز العدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية ورفاه المجتمع
  • خطيب الأوقاف: الأسرة سر تماسك المجتمع والملاذ من قسوة الحياة | فيديو
  • «دبي البحري» يحصل على شهادة إدارة الأحداث المستدامة
  • الوحدة.. الحدث العظيم
  • ماذا يجري في طرابلس الليبية وكيف تطورت الأحداث؟.. نخبرك ما نعرفه
  • فرنسا: تقرير رسمي يحذّر من تأثير جماعة الإخوان المسلمين على "التماسك الوطني" في البلاد
  • لقجع: المغرب يطمح إلى إحداث فضاء لترسيخ منطق التعاون جنوب- جنوب من خلال مونديال 2030