طوفان اليمن.. من الغزو الثقافي إلى التحول الجيوسياسي المرتقب.!
تاريخ النشر: 16th, December 2023 GMT
أمران لفتا انتباهي وأنا أقرأ كتاب انتقام الجغرافيا الذي نشره كاتبه روبرت كابلان بالإنجليزية عام 2012م ، ونشر مترجماً للعربية ضمن سلسلة عالم المعرفة في عدد فبراير 2015م.
الأمر الأول، إن كابلان يعقد فيه مقارنة بين رجال الدين الشيعة « الملالي» ورجال الدين السنة، يؤكد على تفوق الأولين وانفتاحهم على الفكر الإنساني بمختلف مشاربه وأنهم يقرأون الفلسفة بمختلف مدارسها وليسوا محصورين بالفكر الديني « لا شك في أن رجال الدين الشيعة هم أكثر انفتاحا على مجموع النصوص غير الإسلامية من علماء السنة [العرب؛ فآيات الله هم من كبار القراء بما في ذلك قراءتهم لفكر ماركس وفيورباخ Feuerbach، ففي نفوسهم شيء من الرهبان اليسوعيين أو الدومينيكان، وبالتالي فهم يجمعون بين التوفيق الواضح بين المعتقدات الفلسفية وبين التقيد الصارم بالفتاوى الدينية… تتسم الثقافة المزدوجة لرجال الدين الشيعة بكونها لافتة للنظر فهي متمسكة بالتقاليد للغاية … ومع ذلك منفتحة للغاية على العالم الحديث»،( انتقام الجغرافيا ص 327).
بينما رجال الدين السنة عكسهم منغلقين ، ويسيطر عليهم هاجس الرفض لكل وافد تحت ذريعة حماية أنفسهم من أي غزو ثقافي أو غزو فكري.
وهذا لا يعني أن رجال الدين الشيعة لا يعيرون مثل هذا الهاجس أهمية ، وإنما ينظرون للمسألة من منظور مختلف يقوم على النقد ، وتوفير الحماية من خلال معرفة الآخر الغربي والدخول معه في سجال ونقد، أو بعبارة أخرى من خلال تفعيل حركة استغراب معاكسة لحركة الاستشراق التي قام بها الغرب ضد الشرق، وعلى قاعدة إذا أردت أن تهزم خصومك وتفشل مشاريعهم ، فعليك فهمهم ومعرفتهم من داخل نسقهم المعرفي ومعرفة أساليبهم وطرائق تفكيرهم.
وفي أوج ما عُرف بالصحوة الإسلامية انتشر تحذير وهابي من الغزو الثقافي والغزو الفكري الذي يشبه إلى حد بعيد التحذير الراهن من الحرب الناعمة.
وكلا التحذيران لم يقودا إلى الانغلاق والتحوصل حول الذات ورفض معرفة الآخر، وإنما يقودا إلى الكسل الذهني وتوفير ذريعة إعفاء عقلي بسبب فقدان الكفاءة والمَلكة.
وهذا التحوصل حول الذات ثقب أسود دمّر الفكر الديني السني، وبدلا من الإصلاح الديني ذهبت السلطة السياسية إلى إزاحة الفكر الديني المأزوم والقبول بالقيم الغربية، وبذلك يكون الغرب حقق غزوه الثقافي والفكري، الأمر الذي يحول دون قيام دولة تستمد مقوماتها من خصائصها الثقافية المحلية وبالتالي تآكلها على المدى البعيد.
والأمر الثاني، حديثه عن اليمن من واقع زيارته لها وبعد وصفه الأثنولوجي وجغرافية البلد، خلص إلى أن اليمن سيلعب دوراً كبيراً في إحداث تغييرات داخل المملكة، حيث خلص كابلان قائلاً « خلاصة القول أنه في شبه الجزيرة العربية، يبقى جنوب غرب البلاد ذو الكثافة السكانية العالية هو المنطقة التي تكون المملكة العربية السعودية فيها غير حصينة بالفعل، فمن هنا تتدفق الأسلحة، والمتفجرات والمخدرات، وأوراق القات عبر الحدود اليمنية. إن مستقبل اليمن المزدحم بسكانه، وذي الطبيعة القبلية سيمارس دوراً كبيراً في تحديد مستقبل المملكة العربية السعودية»، ( انتقام الجغرافيا ص 303 ) ، لكنه يعزوه للجغرافيا وحسب.
ويبدو بعد ما مر به اليمن من عدوان بربري همجي قاس وما نشهده اليوم من دعم شعبي بفعل قرار قيادته الثورية والسياسية الدخول إلى معركة طوفان الأقصى نُصرةً لأهلنا في غزة، أن دور اليمن في التغيير لن يكون مقتصراً على المملكة وحسب ، بل سيلعب دوراً في تحولات جيوسياسية عالمية يرافقها هزات ارتدادية إقليمية ومحلية..!!
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
طوفان الأقصى.. تحولات في الداخل الأمريكي
منذ تأسيس كيان العدو الإسرائيلي عام 1948، كانت الولايات المتحدة أول دولة تعترف بهذا الكيان، وأصبحت راعية رئيسية له في مختلف المجالات. يتنوع الدعم الأمريكي للعدو الإسرائيلي بين الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية، مما أدى لتطور العلاقة لتكون من أكثر العلاقات الثنائية استمرارية وتأثيرًا على الساحة الدولية.
قدمت الولايات المتحدة مساعدات لكيان العدو الإسرائيلي تقارب 158.6 مليار دولار، وقد يتجاوز الرقم 260 مليار دولار عند احتساب المساعدات غير المسجلة. يشكل الدعم العسكري جزءًا كبيرًا من هذه المساعدات، إذ بلغ أكثر من 114.4 مليار دولار، بالإضافة إلى أكثر من 9.9 مليارات للدفاع الصاروخي. الدعم السياسي يتجسد في استخدام الولايات المتحدة الفيتو 45 مرة لصالح إسرائيل، بينما بلغ الدعم الاقتصادي أكثر من 34.3 مليار دولار لتعزيز الاقتصاد الإسرائيلي وتطوير البنية التحتية.
يلعب اللوبي الصهيوني دورًا محوريًا في الحفاظ على هذا الدعم؛ حيث يضغط بقوة على صانعي القرار الأمريكيين لتعزيز العلاقات مع كيان العدو الصهيوني وتوجيه السياسة الأمريكية نحو دعم غير مشروط لهذا الكيان. الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة متجذرة بقوة في النسيج الاجتماعي والسياسي، حيث يتمتع اليهود بتمثيل سياسي بارز في الكونغرس ويتلقون دعماً قوياً من اللوبيات الصهيونية. كذلك، تسيطر الحركة الصهيونية على وسائل إعلام كبيرة ومؤثرة، مما يعزز قدرتها على تبرير سياسات وجرائم العدو الإسرائيلي في فلسطين المحتلة.
ومع ذلك، بدأ هذا الدعم المطلق لإسرائيل يواجه انتقادات وانقسامات متزايدة، سواء على الصعيد الدولي أو داخل الولايات المتحدة. تعود جذور هذا التغير إلى الجرائم التي ارتكبها الكيان الصهيوني والتي شوهت صورته الأخلاقية على مر السنين. وفقاً لاستطلاع أجرته مؤسسة “غالوب” في 2013، تماهى 64 % من الأمريكيين مع إسرائيل، بينما تماهى 12 % فقط مع فلسطين. في 2017، انخفضت النسبة لصالح إسرائيل إلى 62 % وارتفعت لصالح فلسطين إلى 19 %. وفي 2021، تماهى 25 % من الأمريكيين مع الفلسطينيين وانخفضت نسبة المتماهين مع إسرائيل إلى 58 %. كما ارتفعت النظرة الإيجابية إلى فلسطين من 12 % في 2013 إلى 30 % في 2021.
يمثل السابع من أكتوبر 2023 نقطة تحول مفصلية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. في هذا اليوم، تمكنت المقاومة الفلسطينية من توجيه ضربة قوية لجيش العدو الصهيوني، مما كشف عن ضعف هذا الكيان الذي طالما اعتبر حصينًا.
لم تكن هذه المعركة مجرد انتصار عسكري، بل كانت أيضًا انتصارًا فكريًا أسفر عن تغيرات جوهرية على الصعيدين الإقليمي والعالمي. حرب الإبادة الجماعية في غزة، التي قام بها العدو الصهيوأمريكي رداً على ملحمة طوفان الأقصى، تمثل واحدة من أكثر الفصول دموية في الصراع. بدعم سياسي ودبلوماسي وعسكري كامل من الولايات المتحدة، شن العدو الإسرائيلي حملة واسعة النطاق استهدفت قطاع غزة، مما أسفر عن سقوط عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى الفلسطينيين وتدمير شامل للقطاع وبنيته التحتية، بالإضافة إلى موجة نزوح غير مسبوقة.
في هذا السياق، أشارت استطلاعات الرأي إلى أن كثيراً من الأمريكيين أصبحوا أكثر انتقادًا لجرائم العدو الإسرائيلي ضد الفلسطينيين.
استطلاع غالوب في عام 2023 كشف عن أن دعم إسرائيل تراجع إلى 58 %، وهو أدنى مستوى منذ أكثر من 20 عامًا، بعد أن كان 68 % في 2022، مما يعكس تراجعًا عامًا في التأييد.
هذا التراجع يتزامن مع نتائج استطلاع وول ستريت جورنال في العام 2023، الذي أظهر أن 54 % من الأمريكيين يرون أن إسرائيل تستخدم القوة المفرطة ضد الفلسطينيين، مما يعكس تزايد الانتقادات لسلوك الكيان العسكري ويعزز الشكوك حول دعمه.
كما يعكس استطلاع مركز بيو للأبحاث من العام 2023 هذا الاتجاه، حيث أظهر أن 69 % من الأمريكيين، خاصة بين الشباب من 18-34 عامًا، يدعمون القضية الفلسطينية، بينما 38 % فقط يحملون آراء إيجابية تجاه إسرائيل، مما يدل على أن الشباب أكثر انتقادًا لها.
بالإضافة إلى ذلك، أظهر استطلاع مركز أبحاث السياسة العامة 2023 أن 60 % من الأمريكيين يفضلون فرض قيود على الدعم العسكري لإسرائيل في حال استمرت بارتكاب الجرائم ضد الفلسطينيين، مما يشير إلى زيادة الوعي ويعزز النتائج السابقة حول تراجع التأييد لكيان العدو الإسرائيلي.
أكدت صحيفة “واشنطن بوست” أن مواقف الأمريكيين من “إسرائيل” شهدت تحولاً جيلياً، حيث أن الجيل الأصغر من الأمريكيين بات ينظر إلى إسرائيل كقوة استعمارية، وليس كدولة مضطهدة.
أظهرت استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسات مثل “يوغوف” و”بيو” أن هناك تحولاً ملحوظاً في توجهات الشباب الأمريكي تجاه الصراع العربي الإسرائيلي. فبينما يظل الدعم لإسرائيل قوياً بين الأجيال الأكبر سناً، يُظهر الشباب الأمريكيون (خاصة الطلاب) دعماً أكبر للقضية الفلسطينية مقارنة بالأجيال السابقة.
الاحتجاجات التي حدثت في الجامعات الأمريكية كانت من أبرز مظاهر هذا التغير. الطلاب عبروا عن مواقفهم بشكل جريء؛ هذه الاحتجاجات لم تكن مجرد رد فعل عابر، بل كانت تعبيرًا عن وعي متزايد ورغبة في التغيير. هذه التحركات أظهرت تباينًا واضحًا بين الطبقة السياسية والطبقة الشعبية، حيث بدأ الطلاب في تحدي السرديات التقليدية، مما يعكس تحولًا في آراء الشباب تجاه السياسات الأمريكية الداعمة لإسرائيل.
رغم سلمية الاحتجاجات، واجهتها السلطات الأمريكية بقمع شديد شمل اعتقالات وعقوبات تأديبية، ولعب اللوبي الصهيوني دوراً محوريًا في هذا السياق؛ حيث مارس الضغط على الجامعات لقمع هذه الاحتجاجات من خلال التهديد بقطع التمويل والضغط السياسي. كما قدم الدعم القانوني للجامعات في مواجهة المحتجين، وعمل على ربط الاحتجاجات بخطاب معاداة السامية عبر الإعلام والتأثير على الرأي العام.
ورغم القمع، استمر الطلاب في التعبير عن آرائهم، وتوسعت الاحتجاجات إلى عواصم ومدن وجامعات في الدول الغربية، جميعها تؤكد وجود تحول جذري في تفكير الجيل الجديد حول الصراع العربي الإسرائيلي.
في هذا السياق، يُظهر القمع الذي واجهته الاحتجاجات عدم احترام الولايات المتحدة لحرية التعبير وحقوق الإنسان، مما يزيد من شعور عدم الثقة في الحكومة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاتهامات الموجهة للطلاب بمعاداة السامية تعكس محاولات لتقويض المطالب المشروعة، نتيجة لذلك، تجد الإدارة الأمريكية نفسها في موقف صعب للحفاظ على صورتها كمدافعة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي القيم التي لطالما تغنت بها.
لعبت معركة “طوفان الأقصى” دورًا محوريًا في زيادة وعي الأمريكيين ونقطة تحول في كيفية فهمهم للصراع العربي الإسرائيلي. فجرائم العدو الإسرائيلي في غزة بحق الأطفال والنساء وكبار السن أثرت بشكل عميق على الرأي العام خاصة الشباب الأمريكي، حيث ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في نقل صورة حية للأحداث، مما عزز التعاطف مع الفلسطينيين، بالتزامن مع التجارب الشخصية مثل العنصرية داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
على مر العقود، تلقى الكيان الإسرائيلي دعماً كبيراً من قبل الولايات المتحدة، ويعود ذلك جزئيًا إلى الروايات التاريخية والسياسية التي تم تعزيزها عبر وسائل الإعلام والنظام التعليمي، والتحالفات الاستراتيجية، والتأثير الكبير للمنظمات اليهودية واللوبيات الصهيونية السياسية.
لا شك أن “طوفان الأقصى” لم يكن مجرد حدث عابر، بل إنه يمثل بداية لتحولات عميقة في المشهد الأمريكي الداخلي. فالدعم الأمريكي لإسرائيل يواجه تآكلًا في الأسس التقليدية، ويُظهر الجيل الجديد استعدادًا لإعادة تقييم هذه العلاقة والتي ترتبط بشكل وثيق بالسياسات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، ولا يمكن فصلها عن مستقبل الهيمنة الأمريكية ومستقبل الكيان الصهيوني المؤقت.