هل نصر الله الحق بأيدي الغرب وأضاعه العرب؟
تاريخ النشر: 31st, May 2025 GMT
تتداعى في زماننا أركان العدالة، وتنزف فلسطين دما تحت وطأة الاحتلال الصهيوني، يتردد صدى حكمة إلهية تهز الضمائر: "إن الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر" (رواه البخاري ومسلم). هذا الحديث، الذي نقله أبو هريرة رضي الله عنه، يفضح حقيقة مريرة: الله قادر على نصرة الحق بأيدٍ لم تكن يوما من أهله، بينما يقف أبناء الأمة، الذين حملوا فلسطين في قلوبهم لقرون، متفرجين أو متخاذلين.
ترفع إسبانيا والنرويج وأيرلندا راية فلسطين، جنوب أفريقيا تتحدى الاحتلال في محكمة العدل الدولية، وشعوب الغرب تهتف في شوارع لندن وباريس وبالمو ولاهاي وامستردام، بينما يرقص بعض حكام العرب على أنغام التطبيع، غارقين في أوهام المصالح، تاركين غزة تنزف وحيدة. أين مروءة الأمة؟ أين صوت العروبة الذي هزّ العالم يوما؟
هل استبدل الله قوما بقوم، كما وعد في قوله: "وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ" (محمد: 38)؟ هذا المقال ليس مجرد تحليل، بل صرخة غضب في وجه التخاذل العربي، ودعوة لاستعادة الكرامة.
إن فلسطين ليست قضية شعب، بل جرح الأمة النابض، واختبار لضميرها. فهل ستظل الأمة صامتة، أم ستستيقظ لتحمل لواء الحق، قبل أن يُسجل التاريخ خيانتها لدماء الشهداء وخذلانها لأهل فلسطين والقبلة الأولى ومسرى رسولها؟
الاستخدام والاستبدال في الإسلام: حكمة إلهية في زمن الأزمات:
يحذر الله في القرآن الكريم بقوله: "وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ" (محمد: 38). هذه الآية ليست عقوبة في حد ذاتها، بل نظام إلهي يعكس عدل الله وحكمته.
مفهوم "الاستخدام والاستبدال" يتجاوز فكرة الجزاء إلى رؤية عميقة: الله قادر على استخدام أي أداة، حتى لو كانت بعيدة عن الإيمان، لتحقيق مقاصده. الحديث النبوي: "إن الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر".. تتجسد هذه الحقيقة هذه الأيام كما شهد التاريخ الإسلامي على قادة وسياسيين لم يكونوا على الصراط المستقيم، لكنهم كانوا أدوات لنصرة الحق.
أما في سياق القضية الفلسطينية، نرى هذا المبدأ يتجلى بوضوح، شعوب وحكومات من أوروبا وجنوب أفريقيا، بل وحتى أفراد من خلفيات بعيدة عن الإسلام، يقفون في طليعة المدافعين عن فلسطين، بينما تتخاذل حكومات للأسف عربية عن دورها التاريخي.
هل هذا استبدال إلهي؟ أم دعوة للأمة لاستعادة مكانتها؟
لا يدعو الإسلام إلى اليأس، بل إلى العمل. فالقضية الفلسطينية، برمزيتها الدينية والإنسانية، اختبار للأمة:
هل ستظل تنتظر نصرا من الخارج، أم ستستلهم قوتها لتكون أداة الله في نصرة الحق؟
الاستبدال ليس نهاية، بل تحذير لمن أضاعوا الأمانة أن يستعيدوا دورهم قبل أن يُسجل التاريخ تخاذلهم.
أوروبا تقود الدفاع عن فلسطين: تحولات غير متوقعة:
أصبحت عواصم أوروبا، وهي التي ارتبطت لعقود بدعم الاحتلال الإسرائيلي أو الصمت حياله، وأحيانا كثيرة كأنها تسمع أخبار عن أناس من كوكب آخر؛ ساحات لنصرة فلسطين، في مشهد يثير الدهشة والغضب.
ففي أيار/ مايو 2024، أعلنت إسبانيا والنرويج وأيرلندا اعترافها بدولة فلسطين، في خطوة هزت الدبلوماسية الغربية. هذا القرار لم يكن مجرد إعلان، بل صرخة ضد عقود من التواطؤ مع كيان يغرق في جرائمه. هذه الدول، التي كانت جزءا من تحالفات داعمة لإسرائيل سواء بالمال أو السلاح الذي لم ينقطع عن دولة الاحتلال لحظة، اختارت الوقوف على الجانب الصحيح من التاريخ، مضحية بعلاقات تجارية وسياسية مع الاحتلال.
ففي أروقة البرلمان الأوروبي ارتفعت أصوات تطالب بتجميد اتفاقيات الشراكة مع إسرائيل، مستندة إلى انتهاكاتها في غزة ورفح، فقادت إسبانيا هذا الحراك، ودعت الاتحاد الأوروبي إلى دعم قرارات محكمة العدل الدولية، التي أمرت في أيار/ مايو 2024 بوقف العمليات العسكرية في رفح. هذه الخطوات كانت مدعومة بحراك شعبي غير مسبوق، من لندن إلى مدريد، ومن برلين إلى لاهاي، خرجت مظاهرات عارمة تحمل أعلام فلسطين وتندد بالإبادة الجماعية. شباب أوروبا، الذين كانوا بعيدين عن هموم الشرق الأوسط، أصبحوا صوتا مدويا للعدالة، مستلهمين قيم الإنسانية التي تجاوزت الحدود، وكيف لا وعلى أرض أوروبا أنشئت حركة مناهضة الصهيونية وغيرها من الحركات والتكتلات التي أفاقت أوروبا من سباتها على جرائم الاحتلال الإسرائيلي، فحرك الطلاب في الجامعات الأمريكية والأوروبية الماء الراكد في بحيرة أسهم الاستثمارات في فلسطين المحتلة.
في مفارقة لتجسد حقيقي للمبدأ الإلهي (الله ينصر الحق بمن يشاء)، أصبحت شعوب أوروبا، التي لا تربطها بالقضية روابط دينية أو قومية، أكثر جرأة من حكومات عربية، لكن هذا الدعم الأوروبي لا يحل محل الدور العربي، بل هو تحدٍ للأمة لاستعادة مكانتها، مستلهمة حكمة الله في نصرة الحق.
جنوب أفريقيا وأمريكا اللاتينية: صوت الحق من أطراف العالم:
برزت جنوب أفريقيا كمنارة للعدالة، حاملة لواء فلسطين أمام محكمة العدل الدولية. في كانون الأول/ ديسمبر 2023، رفعت دعوى تتهم إسرائيل بانتهاك اتفاقية منع الإبادة الجماعية، مستندة إلى مجازر غزة. قرار المحكمة في كانون الثاني/ يناير 2024، الذي طالب إسرائيل بمنع أعمال الإبادة وتسهيل المساعدات، كان ضربة قانونية للاحتلال. وفي أيار/ مايو 2024، أمرت المحكمة بوقف العمليات في رفح، في خطوة أعادت الأمل لمن يؤمنون بالقانون الدولي.
كانت هذه الدعوى تعبيرا عن إرث جنوب أفريقيا في مقاومة الأبارتهايد، الشعب الذي عانى التمييز العنصري يرى في فلسطين مرآة لنضاله.
وعلى الجانب الآخر من الكوكب في أمريكا اللاتينية، قطعت دول مثل كولومبيا وبوليفيا علاقاتها مع إسرائيل، فيما أعلنت تشيلي وهندوراس دعمهما لتحركات جنوب أفريقيا. هذه الدول، من أطراف العالم، أصبحت صوتا مدويا لفلسطين، في وقت يغرق فيه العالم العربي في صمت رسمي ووحل مستنقع التطبيع مع المحتل. إنها لحظة تؤكد أن الله يختار من يشاء ليكونوا أدوات نصره، مستلهمين مبدأ الاستخدام الإلهي الذي لا يعرف حدودا.
العرب وحكوماتهم: خيانة المروءة وتلويث العروبة
ينبض قلب الأمة العربية ووجدانها بفلسطين، وهنا يدوي سؤال يمزق الأحشاء:
أين المروءة؟
أين تلك الروح التي هزت العالم يوما تحت راية القدس؟
فالحكومات العربية، التي كانت صوتا موحدا ضد الاحتلال، أصبحت أسيرة حسابات تجارية وخضوع سياسي، تتخلى عن كرامتها باسم المصالح. باستثناء خطوات محدودة لذر الرماد في الوجوه، مثل دعم مصر لدعوى جنوب أفريقيا أو استدعاء سفراء في الأردن، ظل الموقف العربي الرسمي جبانا، بعيدا عن الجرأة التي تتطلبها دماء الشهداء، وعن موقف الرئيس المنتخب محمد مرسي الذي أوقف حرب في 4 أيام بعد فضل الله وندائه "لن نترك غزة وحدها".
صور الأطفال الممزقين والأمهات الثكالى لم يحرك ضمير الحكام العرب لنجدة إخوانهم. بدلا من ذلك، سارع بعضهم إلى التطبيع مع المحتل، في خيانة صارخة لدماء غزة. الإمارات، التي كانت يوما رمزا للعزة العربية، رمت نفسها في أحضان الاحتلال الصهيوني، فاتحة أسواقها وموانئها لكيان يغرق في دماء الفلسطينيين. بل نادت أصواتها الرسمية باستئصال المقاومة الفلسطينية، واصفة إياها بالإرهاب، في محاولة لقتل روح الصمود التي تحمل راية القدس. هذا التطبيع ليس مجرد تخلٍ عن المروءة، بل طعنة نجلاء في قلب الأمة، وتلويث لعروبتها، وإهانة لكل شهيد سقط دفاعا عن الأرض. أين صوت "بالروح بالدم نفديك يا أقصى"؟ أم أن بريق الذهب ووهم القوة قد أعمى البصر والبصيرة، تاركا غزة وحيدة تنزف تحت سماء صامتة؟
علي النقيض، لا تزال الشعوب العربية تحمل فلسطين في قلبها. من عمان إلى بيروت، ومن تونس إلى الرباط، خرجت مظاهرات عارمة تندد بالاحتلال، لكن هذا الحراك يصطدم بحواجز القمع السياسي والتردد الحكومي. دول وقّعت اتفاقيات تطبيع، مثل الإمارات والبحرين ودول في طريقها للتطبيع، واجهت غضبا شعبيا عارما، مما يكشف الفجوة بين الشعوب وحكامها. استطلاعات رأي على مدار 17 عاما عن طريق مؤسسات رسمية وغير رسمية عربية وأجنبية بعد ما يزيد عن 4 عقود على اتفاقية العار كامب ديفيد، أظهرت أن ما يزيد عن 85 في المئة مثلا من المصريين أن الاحتلال هو العدو الأول ويجب القضاء على الاحتلال ومحاربته، كما زادت شعبية المقاومة على عكس ما كانت في 2015 من نسبة 60 في المئة إلى 88 في المئة.
فالمروءة التي يرددها الناس ليست شعارا عاطفيا، بل التزام إسلامي بمناصرة المظلوم، لكن هذا الالتزام غائب عن حكومات يقال إنها عربية تخشى مواجهة قوى تدعم إسرائيل، مفضلة الخضوع على الكرامة. هل استُبدل العرب؟ الشعوب لا تزال حية، لكنها مكبّلة بقيود حكامها.
الحديث النبوي يذكّرنا بأن الله قد ينصر الحق بغير المؤمنين، لكنه دعوة للأمة لاستعادة دورها قبل أن يسجل التاريخ عار تخاذلها.
المقارنة بين الشعوب: استبدال أم استنهاض؟
تعد فكرة "الاستبدال" قاسية، لكنها تحدٍ للتأمل. شعوب أوروبا، التي خرجت في مظاهرات في لندن وباريس وبرلين ولاهاي، أظهرت تعاطفا غير مسبوق مع فلسطين. شباب الغرب، عبر منصات مثل إكس، ينشرون صور دمار غزة، صارخين ضد الظلم. هذا الحراك ليس تضامنا عابرا، بل وعي إنساني يتجاوز الحدود.
لم تفقد الشعوب العربية شغفها بالقضية، مظاهرات الأردن ولبنان وتونس والمغرب تثبت أن فلسطين نابضة في وجدان الأمة، لكن هذا الحراك مقيد بقيود سياسية، مما يجعل تأثيره ضعيفا مقارنة بالزخم الدولي.
إن الاستبدال، إن وُجد، ليس للشعوب، بل للأدوار الرسمية. حكومات أوروبية ودول الجنوب العالمي أخذت زمام المبادرة، بينما تخاذل حكام عرب. وهنا يأتي قول الله: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد: 11)، يدعو الشعوب العربية للانتفاضة لاستعادة دورها بالضغط على حكوماتها. التضامن العالمي فرصة، لا بديل عن الدور العربي.
نحو تضامن عالمي يقوده العرب:
فلسطين ليست قضية، بل جرح الأمة النازف منذ 8 عقود واختبار ضميرها. مواقف أوروبا وجنوب أفريقيا تؤكد أن الله ينصر الحق بمن يشاء، لكن هذا النصر لا يعفي العرب من مسؤوليتهم. الاستبدال الإلهي تحذير، وليس حكما نهائيا. الأمة التي حملت راية القدس مدعوة لاستعادة مكانتها، ليس بالشعارات، بل بالأفعال.
دعوة الإسلام للمروءة هي دعوة للوحدة والعمل، فلتتحد الشعوب العربية مع التضامن العالمي، ولتهز أركان الظلم. فلسطين تنتظر أبناءها، لا ليبكوا عليها، بل ليحملوا رايتها بكرامة، مستلهمين حكمة الله في نصرة الحق، ومؤمنين بأن الأمة قادرة على قيادة العدالة والحرية.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات فلسطين العرب غزة أوروبا التضامن فلسطين غزة أوروبا تضامن عرب مدونات مدونات قضايا وآراء مدونات مدونات مدونات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشعوب العربیة جنوب أفریقیا هذا الحراک نصرة الحق الله ینصر لکن هذا الله فی
إقرأ أيضاً:
هل خسر الاحتلال معركة الشرعية؟.. تأثير الدومينو يصل أوروبا بعد موجة الاعترافات بفلسطين
في مشهد دبلوماسي غير مسبوق، يشهد العالم الغربي تحولات متسارعة نحو الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين، في خطوات قد تغيّر من ملامح الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وتزيد من عزلة الاحتلال على الساحة الدولية. ورغم الطابع الرمزي لتلك التحركات، فإن التوقيت والسياقات السياسية والإنسانية التي تتزامن معها تجعل منها تطوراً استثنائياً.
وخلال الأسبوع الأخير، أعلنت 15 دولة غربية من بينها فرنسا وبريطانيا وإسبانيا وهولندا، أنها تدرس بجدية الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين، داعية باقي دول العالم إلى السير على النهج ذاته.
وفي بيان مشترك صدر عقب مؤتمر "حل الدولتين" في نيويورك أمس الأربعاء، أكدت تلك الدول أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية يمثل "خطوة أساسية نحو تحقيق حل الدولتين"، ودعت إلى اعتماده قبيل انعقاد الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر المقبل.
وتوالت التصريحات من لندن وأوتاوا، حيث أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أن بلاده ستعترف بفلسطين إذا لم يستجب الاحتلال الإسرائيلي لشروط محددة، أبرزها وقف إطلاق النار، وتسهيل دخول المساعدات، والتخلي عن خطط ضم الضفة الغربية.
أما رئيس الوزراء الكندي مارك كارني، فأكد هو الآخر أن الاعتراف سيتم في أيلول/سبتمبر المقبل، منتقداً إدارة نتنياهو لتحويلها غزة إلى "كارثة إنسانية".
وكان مكتب رئيس الوزراء البرتغالي لويس مونتينيغرو٬ قد أعلن الخميس نية الحكومة التشاور مع البرلمان والرئاسة بشأن الاعتراف بدولة فلسطين خلال فترة الجمعية العامة.
هذه التصريحات، الصادرة عن حلفاء تقليديين للاحتلال٬ فُسرت إسرائيلياً على أنها انقلاب سياسي. وعبر رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو عن استيائه من هذه الخطوات، واصفاً إياها بأنها "عقاب للضحية"، محذراً من قيام ما سماه بـ"دولة جهادية" على حدود الاحتلال الإسرائيلي قد تُهدد أوروبا نفسها.
أما رئيس الكنيست أمير أوحانا فقد ذهب أبعد من ذلك، معتبراً الاعتراف المزمع بدولة فلسطين بمثابة "مكافأة لحماس"، موجهاً كلامه للأوروبيين بقوله: "إذا أردتم إقامة دولة فلسطينية، فأقيموها في لندن وباريس"، محذراً من أن هذا المسار سيقود إلى مزيد من الحروب.
لكن التحول الغربي لا يأتي من فراغ٬ فالضغوط المتزايدة من الرأي العام، والانتقادات الأممية والدولية لانتهاكات الاحتلال في غزة، خاصة مع اتساع المجاعة وارتفاع أعداد الضحايا المدنيين، دفعت هذه الدول إلى مراجعة مواقفها. ووصفت تقارير صحفية هذه الخطوة بأنها تعكس "تآكل الدعم التقليدي الغربي لإسرائيل"، وتحولاً في المزاج الدولي.
وتحذر صحف إسرائيلية من أن استمرار موجة الاعترافات قد يفضي إلى محاسبة تل أبيب دولياً في حال حصول فلسطين على اعتراف رسمي من مجلس الأمن، ما من شأنه أن يشكل غطاءً قانونياً وأخلاقياً لعزل الاحتلال وفرض عقوبات عليها.
حتى أيار/مايو الماضي٬ اعترفت 147 دولة من أصل 193 في الأمم المتحدة بدولة فلسطين، أي ما يعادل نحو 75% من المجتمع الدولي. ومن بين دول مجموعة العشرين، اعترفت 10 دول بفلسطين، منها الصين وروسيا وتركيا والبرازيل والسعودية، بينما لم تعترف بها دول كفرنسا وألمانيا وكندا وأمريكا.
ويرى محللون أن الاعتراف بدولة فلسطين يحمل في طياته عدة أبعاد:
أولاً: رمزية سياسية وأخلاقية
رغم أن الأراضي الفلسطينية لا تزال تحت الاحتلال، فإن الاعتراف يمثل دعماً سياسياً وأخلاقياً لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وتؤكد الأكاديمية جولي نورمان من جامعة كولدج لندن٬ في إحدى مداخلاتها الإعلامية أن هذا الاعتراف يُشكل رسالة سياسية قوية، حتى لو لم يُغير من الواقع الميداني.
ثانياً: تعزيز زخم حل الدولتين
يُنظر للاعتراف على أنه خطوة لترسيخ حل الدولتين في وجه البدائل المطروحة مثل الضم الكامل أو الدولة الواحدة. وكتب جوش بول، المسؤول السابق في الخارجية الأمريكية، أن الاعتراف بدولة فلسطين "يعيد الصراع إلى مساره كقضية بين كيانين متساويين".
ثالثاً: رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي
قد يؤدي الاعتراف إلى تحويل البعثات الدبلوماسية الفلسطينية إلى سفارات كاملة، كما تخطط بريطانيا لفتح سفارة في الضفة الغربية، في إشارة إلى دعم السلطة الفلسطينية.
رابعاً: مراجعة العلاقات مع المحتل
الاعتراف قد يدفع بعض الدول إلى إعادة النظر في علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع تل أبيب، بما في ذلك احتمال حظر منتجات المستوطنات، كما رجح القنصل البريطاني السابق في القدس فنسنت فين.
خامساً: تهديد لعزلة الاحتلال الدولية
أشار تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال إلى أن هذه الخطوة تعكس تصدعات متزايدة في الدعم الغربي للاحتلال الإسرائيلي، خاصة مع ازدياد الانتقادات الموجهة لسلوكها في غزة. وتوقع التقرير أن يؤدي استمرار الحرب إلى تعميق هذه الفجوة، نتيجة الغضب الشعبي في الدول الغربية.
ووصف السفير الإسرائيلي السابق في الأمم المتحدة، جلعاد إردان، الاعترافات بأنها أخطر على المدى البعيد، قائلاً: "إنها تروّج لرواية خطيرة تُظهر إسرائيل كدولة تنتهك حقوق الإنسان وتقتل الأطفال"، محذراً من حملة نزع شرعية قد تؤدي إلى عقوبات دولية.
أما محرر الشؤون الدولية في القناة 12، عيران نير، فاعتبر ما يجري بمثابة "تسونامي سياسي"، مشيراً إلى أن هذه التحركات تهدف للضغط على الاحتلال الإسرائيلي لإنهاء الحرب والدخول في تسوية، تحت ضغط الرأي العام الأوروبي الغاضب.
في المقابل، وصفت مراسلة موقع "زمان يسرائيل" بيرنيت غورين الاعترافات بأنها رمزية ولا تقدم مساعدة ملموسة للفلسطينيين، لكنها تشكل "إذلالاً سياسياً" للاحتلال في الساحة الدولية.
وبينما تتردد الحكومات الغربية في التدخل العسكري أو استقبال لاجئين فلسطينيين، ترى غورين أن أقصى ما تقدمه تلك الدول هو إسقاط "الفطائر بالمظلات"، في مفارقة سخرية تشير إلى عجز المجتمع الدولي أمام المأساة المتفاقمة في غزة.
وفي ظل انسداد الأفق السياسي، واستمرار المجازر بحق المدنيين، يبدو أن الاعتراف بدولة فلسطين بات أداة بيد الدول الغربية للضغط على الاحتلال الإسرائيلي، وإجباره على التراجع، بعدما فشلت كل الوساطات في وقف حربٍ خلفت عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، وأدخلت غزة في أسوأ كارثة إنسانية بتاريخها.
ومع اقتراب موعد الجمعية العامة للأمم المتحدة، تترقب الأوساط الدولية ما إذا كانت هذه الاعترافات ستُترجم إلى خطوات سياسية وقانونية، أم ستبقى في حدود الرمزية، وسط دعوات فلسطينية لاعتبارها فرصة تاريخية لتحصين الحقوق الوطنية على الساحة الدولية.