عبد الباري عطوان خطاب السيد حسن نصر الله أمين عام “حزب الله” الذي جرى بثه مساء امس الأربعاء بمناسبة الذكرى 17 لبدء حرب تموز 2006، وبعد غياب طويل، هذا الخطاب جاء مختلفا، واهدأ مما توقعه الكثيرون، ونحن من بينهم، بسبب سخونة الاوضاع، وحالة التوتر حاليا ليس على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة فقط، وانما في العمق اللبناني أيضا، وتفاقم الازمات الداخلية.

هل هو الهدوء الذي يسبق العاصفة، او المواجهة الكبرى، ويعكس حالة من “الارتياح” ناجمة عن اتخاذ القرار بالتصدي بقوة للانتهاكات الإسرائيلية على الحدود اللبنانية وفقا لنظرية “آخر العلاج الكي”؟ وبدء عملية التعبئة والتحشيد الشعبي لمقاتلي محور المقاومة بالتالي استعدادا للمواجهة الكبرى وربما الأخيرة؟ لا نملك إجابة على هذه التساؤلات، جزئيا او كليا، فنحن نتحدث هنا عن حرب حقيقية ومصيرية، وليس عن مجرد تحرش هنا او هناك، والقرار بإشتعال فتيلها يحتاج الى معطيات، واستعدادات، ومشاورات، ولا يمكن ان يكون انفرادا، لانها حرب ستتعدى الجغرافيا اللبنانية، وقد تشمل المنطقة برمتها. احتمالات الحرب، بدءا من الحدود اللبنانية هي الأعلى هذه الأيام، منذ حرب تموز عام 2006، بسبب فائض القوة غير المسبوق لدى “حزب الله”، وتصاعد الإمكانيات العسكرية لأذرع المقاومة وخاصة في فلسطين المحتلة، وتفاقم الازمة الداخلية الإسرائيلية، وتضعضع العلاقة بين حكومة نتنياهو وإدارة الرئيس الأمريكي في واشنطن، وتردد أصوات في حكومة نتنياهو تحرض على الحرب باعتبارها المخرج الوحيد من كل ازماتها وكيانها. *** أربعة تطورات رئيسية يمكن رصدها، وتدعم ما قلناه سابقا، وتؤكد ان انفجار الحرب ينتظر الصاعق، قد يطول مجيء هذا الصاعق او يقصر، ولكنه قادم حتما: التطور الأول: سخونة الأوضاع على الحدود اللبنانية الفلسطينية بشكل متسارع واقترابها من مرحلة الغليان والانفجار، وانعكس ذلك في اقتحام مقاتلي المقاومة لها، واصابة ثلاثة منهم في مواجهة “محدودة” مع الجيش الإسرائيلي قبل يومين، وقيام مجموعة منهم، أي المقاتلين، بتفكيك كاميرات مثبته فوق أبراج مراقبة إسرائيلية. التطور الثاني: نصب “حزب الله” خيمتين في مزارع شبعا، احداها في الجزء المحتل، ورفض كل التهديدات الإسرائيلية بتفكيكها وازالتها في تحد علني. التطور الثالث: تأكيد السيد نصر الله في خطابه على ان قرية الغجر التي أعاد العدو احتلالها، قرية لبنانية ولا يمكن السكوت على هذا الاحتلال، وانه اعطى تعليماته للمقاتلين في مزارع شبعا بالرد على أي تحرش او عدوان إسرائيلي. التطور الرابع: اغلاق السيد نصر الله في خطابه كل الأبواب امام مهمة عاموس هوكشتاين المبعوث الأمريكي المتوقعة لإجراء مفاوضات حول ترسيم الحدود البرية اللبنانية مع دولة الاحتلال، على غرار نظيرتها لترسيم الحدود البحرية، عندما قال وللمرة الأولى، من وجهة نظرنا، “الحدود اللبنانية الفلسطينية جرى ترسيمها رسميا في عشرينات القرن الماضي، وإسرائيل تحتل العديد من النقاط داخل أراضي الجانب اللبناني، وعلى رأسها قرية الغجر، وهي نقاط لا يمكن ان نتركها وسنعمل على تحريرها”. عدم رد القوات الإسرائيلية على اقتحام “حدودها”، وتفكيك خيمة المقاومة في مزارع شبعا المحتلة، دليل رعب، والخوف من النتائج، والرغبة في تجنب المواجهة العسكرية، محدودة كانت او موسعة، مع مقاتلي الحزب، ولهذا لا نستبعد ما ذكرته وسائل اعلام إسرائيلية عن ارسال حكومة نتنياهو رسائل الى “حزب الله” عبر وسطاء بالرغبة بالتهدئة وعدم التصعيد. ما تخشاه دولة الاحتلال ويدفعها الى تجنب المواجهة حتى الآن على الأقل، مجموعة من العوامل: أولا: القوات الخاصة عالية التدريب التابعة لحزب الله، وأبرزها “كتائب الرضوان” البرية المجهزة لاقتحام الجليل وتحريره، والبقاء فيه، واخذ رهائن. ثانيا: الترسانة الصاروخية الهائلة التي يملكها “حزب الله” وتضم مئات الآلاف من الصواريخ الباليستية والمسيّرات الدقيقة، وهذه الترسانة ما زالت امكانياتها المحدثة أحد الاسرار الكبيرة التي لم تنجح المخابرات الإسرائيلية في كشفها لأنها لم تستخدم بعد، ولم يتم اسر أي منها والوصول الى اسرارها بالتالي. ثالثا: تهريب تكنولوجيا الصواريخ والمسيّرات الى الضفة الغربية عبر “ثغرات” في الحدود الأردنية الفلسطينية والتي يصل طولها اكثر من 600 كم، وهناك مؤشرات قوية في هذا الصدد، واعترف مسؤول أردني كبير جدا في لقاء مباشر معه بهذه الحقيقة واعطانا معلومات مذهلة في هذا الصدد وتقلق الحكومة الأردنية، وامريكا، ناهيك عن “إسرائيل”. رابعا: تثوير عرب الأراضي المحتلة عام 1948، وهناك مؤشرات قوية تؤكد هذه المخاوف، وشاهدنا كيف انضمت مدن عديدة بينها اللد ويافا وكفرقاسم الى كتائب المقاومة في حرب “سيف القدس” في آيار (مايو) عام 2021. خامسا: عدم استبعاد مشاركة ايران في أي حرب قادمة، والحال نفسه ينطبق على اذرع المقاومة في العراق واليمن وسورية وفلسطيني المحتلة. *** السيد نصر الله، ذكر في خطابه “ثلاث عبارات” لا يمكن المرور عليها مرور الكرام، وتعكس مزاجا حربيا أكثر من كونه مزاج تهدئة: الأول: انه “ملّ من الكلام.. ودق الماء” ولهذا طال غيابه هذه المرة. الثانية: لم يعد لبنان ضعيفا ويمكن اجتياحه “بفرقة موسيقية”. الثالثة: المس بسلاح المقاومة أكبر خدمة لإسرائيل ولن يتم التساهل معه. ربما يجادل بعض المشككين من داعمي التطبيع والاستسلام، بأن دولة الاحتلال ما زالت قوية، ونحن نتجاهل هذه الحقيقة في مقالاتنا وتحليلاتنا، وردنا على هؤلاء هو ما ورد في أكثر من وسيلة إعلامية إسرائيلية على لسان الخبراء ويتمثل في قول أحدهم “ربما ننتصر في الحرب القادمة فإسرائيل قوية عسكريا واستخباريا، ولكن ثمن هذا النصر سيكون باهظا جدا، من حيث تدمير البنى التحتية، وإنهيار المعنويات الى الحضيض، وفقدان الأمن، وهبوط مستوى المعيشة”. انتصار “الالفين”، أنهى إسرائيل الكبرى، وانتصار تموز عام 2006 أنهى إسرائيل العظمى، مثلما قال السيد في الخطاب نفسه، فكيف سيكون الانتصار القادم هذا العام او في الأعوام القادمة؟ وهذا السؤال من عندما. فاذا كانت كلمة “إخفاق” وردت 156 مرة في تقرير لجنة “فينوغراد” التي حققت في هزيمة الجيش الإسرائيلي في حرب تموز، فكم ستتردد في الهزيمة القادمة وبعد 17 عاما؟ الإجابة على السؤال الأول، أي كيف سيكون انجاز الانتصار القادم للمقاومة هو نهاية المشروع الصهيوني قبل اكماله الثمانين عاما من تطبيقه على الارض، اما الإجابة على السؤال الثاني فهي ان عدد الإخفاقات ستكون أضخم من ان تحصى.. والأيام بيننا.

المصدر: رأي اليوم

كلمات دلالية: الحدود اللبنانیة نصر الله حزب الله لا یمکن

إقرأ أيضاً:

لماذا لا تستطيع إسرائيل أن تنتصر في غزة؟

عندما بدأت إسرائيل حربها على غزة في أكتوبر 2023، لم يكن الهدف المعلن أقل من «القضاء التام على حماس». بدا ذلك، لحظة انفعالية، وكأنه مهمة ممكنة. فإسرائيل دولة ذات تفوق عسكري لا يُضاهى في المنطقة، وتتمتع بدعم غربي سياسي وتسليحي ضخم، بينما تقاتل حركة محاصَرة، محدودة الموارد، ومعزولة جغرافيا. لكن أكثر من 20 شهرا من القصف والدمار والإبادة الجماعية لكل ما يدب على الأرض، لا يبدو النصر، وفقا للتوجيه السياسي المعلن والصادر للمؤسسة العسكرية، في الأفق، بل إن إسرائيل نفسها باتت أبعد من أي وقت مضى عن تحقيق أهدافها في الحرب.

ما الذي يحدث إذن؟ ولماذا لم تعد القوة العسكرية كافية لتحقيق الانتصار؟ ولماذا تصبح كل حرب تشنها إسرائيل على غزة أطول، وأكثر دموية، وأقل فاعلية؟

في عمق العقيدة العسكرية الإسرائيلية ـ كما هو الحال في كثير من العقائد العسكرية الغربية ـ ترسّخت فكرة الحرب الخاطفة، التي تحقّق النصر السريع من خلال الضربة الأولى الساحقة، وقد نجحت هذه العقيدة في حرب 1967، لكنها فشلت مرارا منذ ذلك الحين، خصوصا في مواجهة الخصوم غير النظاميين الذين يتقنون حرب المدن والأنفاق، ويجيدون تحويل نقاط ضعفهم إلى أدوات استنزاف طويلة الأمد.

تشبه الحالة الإسرائيلية في غزة ما يسميه بعض الاستراتيجيين «مغالطة الحرب القصيرة»؛ حيث يُفترض أن صدمة القوة ستدفع الخصم إلى الانهيار، لكن الواقع يُثبت أن الخصم ـ عندما يكون متجذرا شعبيا، وعقائديا، ومتحركا جغرافيا ـ لا يُهزم بهذه الطريقة، بل على العكس، كلما طال أمد الحرب، زادت فاعليته، واهتزت صورة القوة المتفوقة أمام جمهورها.

تُظهر تجربة إسرائيل في غزة أن التفوق العسكري وحده لا يكفي؛ فإسرائيل دمرت معظم البنية الأساسية في القطاع، وقتلت عشرات الآلاف، وهجّرت الملايين في غزة لأكثر من مرة، لكنها لم تستطع إقناعهم بالتخلي عن المقاومة، ولم تستطع فرض سيناريو «ما بعد حماس» رغم أنه كان شغل العالم الشاغل أكثر من شغلهم بإنهاء الحرب ووقف الإبادة. وفي غياب هذا السيناريو، تبدو الحرب بلا غاية واضحة سوى التدمير، وهذا ما يحدث الآن، فلا هدف واضح لجيش الاحتلال إلا التدمير والاستمتاع بالقتل والتجويع.. لكن هذا الأمر رغم فظاعته إلا أنه بات يفقد إسرائيل زخمها السياسي ويقوّض مشروعيتها الأخلاقية التي كانت توهم العالم بها.

وبينما تبحث إسرائيل عن «نصر كامل»، تواصل حماس الظهور والاختفاء، القتال والتكتيك، مقاومة القصف وممارسة الإعلام. لم تعد المعادلة تقتصر على مَن يملك الطائرات والدبابات، بل مَن يملك القدرة على الصمود، وعلى إدارة زمن طويل من القتال غير المتكافئ.. ومن يستطيع أن يقنع العالم بسرديته، ويبدو أن غزة تحقق تقدما عميقا في هذا الجانب رغم أنه بطيء جدا بسبب عملها منفردة في ظل غياب المشروع العربي الموحد في هذا الجانب.

وإذا كانت حرب إسرائيل الظالمة تفشل فإن السبب لا يعود كما يعتقد البعض إلى ضعفها العسكري ولكن إلى حجم التناقض بين الوسائل والغايات؛ فبينما تُستخدم القوة التدميرية بأقصى درجاتها، يبقى الهدف السياسي ـ القضاء على حماس ـ أو بمعنى آخر القضاء على المقاومة هدفا مجردا وغير واقعي بالنظر إلى عقيدة المقاوم الفلسطيني الذي ما زال متمسكا بحقه في أرضه وبأن مشروعه الأول هو تحرير أرضه من المحتل الإسرائيلي.

وأثبتت التجربة أن قتل القادة وتدمير المباني لا يعني نهاية المقاومة، بل إن رفض المحتل الإسرائيلي لأي شكل من أشكال الحل السياسي وإمعانه في التدمير والإبادة يحفز المقاومة ويوسع قاعدتها الشعبية وحاضنتها الاجتماعية وتغلغلها في العقيدة الفلسطينية. وما حدث في غزة خلال العامين الماضيين من شأنه أن يعمق الحقد ويحفز مشاريع الانتقام حتى عند أولئك الذين آمنوا في لحظة من اللحظات بفكرة «السلام» مع إسرائيل.

ومن الواضح أن الحروب بين الاحتلال والمقاومة في العقدين الماضيين لا تنتهي إلى نتيجة واضحة، إنها أقرب إلى «صراعات بلا نهاية»، لا اتفاقات سلام واضحة ولا بيانات استسلام، بل جولة تضع بذورا لجولة أخرى، وكل هدوء هش يفضي إلى انفجار عنيف جدا وهو ما يجعل من الصعب قياس النصر والهزيمة.

رغم ذلك فإن «حماس» في نظر الفلسطينيين والكثير من العرب تنتصر بمجرد بقائها على قيد الحياة، واستمرارها في المقاومة أو نجاحها في تنفيذ عملية نوعية مهما كانت نتائجها، وهذا يعكس الفارق بين من يُقاتل من أجل بقاء دولة، ومن يُقاتل من أجل بقاء القضية.

ربما كان الدرس الأهم من هذه الحرب ـ والحروب التي سبقتهاـ هو أن الاستراتيجية العسكرية يجب أن تكون امتدادا لرؤية سياسية واضحة، وليس بديلا عنها، وحين تنفصل عن السياسة، تتحول إلى عبث.

تستطيع إسرائيل أن تُلحق أذى هائلا بغزة كما تفعل الآن، لكنها لا تستطيع فرض السلام من طرف واحد، ولا بناء واقع دائم بالقوة فقط.

لكن ما يعيق إسرائيل عن تحقيق النصر في غزة ليس فقط قدرة حماس على القتال، بل غياب الاعتراف الإسرائيلي بأن هذا النوع من الحروب لم يعد يُنتصر فيه بالطريقة التقليدية، وقد آن الأوان أن تعترف بأن قوة السلاح وحدها لا تكفي، وأن غزة ومن فيها واقع لا يمكن أن تمحي وجوده أبدا وإن لم تبدأ بقراءة هذا الواقع بعيون سياسية لا عسكرية، فستظل تدور في حلقة حرب لا تنتهي، وتتحول حربها الظالمة بالضرورة إلى مجرد إبادة إنسانية.

عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة عمان

مقالات مشابهة

  • بالفيديو.. شاهد “سد المال” والهدايا التي قدمها الفنان مأمون سوار الدهب لزوجته الجديدة الحسناء حنين محمود عبد العزيز
  • دعاء النبي للتخلص من الأرق .. يجلب لك نوماً هادئاً
  • إيران تحذر من أن أي خطأ ترتكبه “الترويكا الأوروبية” سيدفعها إلى رد حاسم
  • “الشعبية” تنعي الشهيد القائد الأسير المحرر رايق بشارات وتؤكد أن الاغتيالات لن تُرهب شعبنا
  • “OpenAI” تؤكد وجود عطل بـ”شات جي بي تي” وتقول إنها تعمل على حل
  • دعوة إسرائيلية لإعادة ترسيم الحدود مع لبنان وفق نتائج المواجهة مع حزب الله
  • عضو لجنة السلم الأهلي السيد حسن صوفان خلال المؤتمر الصحفي المنعقد في وزارة الإعلام بدمشق: الضباط الذين تم إطلاق سراحهم “ضباط عاملون” منذ عام 2021 وسلّموا أنفسهم طوعاً على الحدود العراقية ومنطقة السخنة ضمن ما يعرف بحالة “الاستئمان”
  • رسالة من الحوثيين لكتائب القسام تؤكد الالتزام بدعم المقاومة
  • لماذا لا تستطيع إسرائيل أن تنتصر في غزة؟
  • “الصحفيين” تؤكد اعتزازها بنهج الملك في تعزيز حرية الصحافة ودعم الإعلام المهني