جريدة الوطن:
2025-05-10@12:19:16 GMT

أم المفارقات «2»

تاريخ النشر: 17th, December 2023 GMT

أم المفارقات «2»

ما دام جدل هذه المقالة غير مصمَّم لدحض أو لتشجيع أو لردِّ آراء سابقة، فإنَّه لا يعتمد كثيرًا على مواد نقديَّة شائعة؛ فكما أشرنا في الجزء الأوَّل، ينطوي هذا البحث على جهد تأملي ارتجاعي. تعتمد صِفته الارتجاعيَّة ذات الكاتب وأصداء التجربة الفعليَّة المباشرة، أكثر من استثمار جهود كتَّاب أو مؤرِّخين آخرين، لإطلاق «تيار الوعي» على سبيل التنقيب بحثًا عمَّا هو مُهمٌّ بحقٍّ، مع إشارة خاصَّة إلى الاحتفاظ بصدمات الوعي المتواترة الَّتي تساعد لبلوغ رسالة البحث النهائيَّة عَبْرَ قياس واختبار درجة تحمُّل القارئ الفَطِن.


وبسبب وقوع الإقليم في فخِّ رؤية تاريخيَّة رجوعيَّة مثابرة على بناء الأسيجة وإقامة العوائق لمنْعِ الجديد وحجب الشُّجاع، فإنَّ للمرء أن يلاحظَ، في هذا السِّياق، عوامل تعتمد ذات الحبس الخيالي والرجوعي المذكور أعلاه. هذه هي العوامل الَّتي تمَّ تحديثها وتلميعها لإعاقة تقدُّم شعوب الإقليم، وهي ترتدُّ إلى ماضٍ وسيط يكتنفه الغموض وتلفُّه الغيميَّة، ماضِ لَمْ يزَلْ منبعًا للجدل والخلاف برغم لا جدوى ولا معنى التحقُّق مِنْه. في هذه الحال، لا يبقى الماضي أساسًا للتيقن، كما يرنو الرجوعيون لتصويره.
ولأنَّ هذا الحبس الرجوعي، هو رؤيا قسريَّة موحَّدة تخترق الفرد بعُمق منذ نعومة أظفاره، فإنَّه ينمو على نَحْوٍ جماعي مع الجمهور منذ الوقت الَّذي ينشد فيه الأطفال في المدارس الابتدائية أمجاد ماضٍ متلاشٍ، على ذبذبة عصا مدير المدرسة وهو يقُودُ أوركسترا الحناجر الصغيرة الغضَّة الَّتي تهتف بأعلى الأصوات، «موطني.. موطني»، نَحْوَ السَّماوات، علَّها تسمع من المنادي هناك لِتحيلَ رؤيا الأجيال إلى حقيقة، ولكن عِندما نكبر. ينبغي أن لا ننسى أهمِّية الحكايات والخرافات المنزليَّة الَّتي يعدُّها الآباء والأُمَّهات، عناصر جوهريَّة للتربية والتنشئة «الصحيحة» للأبناء الواعدين. وسوية مع دروس «الدِّين» و»التاريخ» الَّتي تحفر عميقًا في هذه الأذهان الفتيَّة، تُشكِّل رسالة السّلالة الفقاعات الخانقة الأولى الَّتي تحيط بالصغار منذ بواكير وعيهم وتفكيرهم. بل إنَّ الأكثر إسهامًا في صناعة الرؤيا الخياليَّة، يتبلوَر في وسائل الإعلام الَّتي تحتكرها الدَّولة (في أغلب الأحيان) أو الفئات الاجتماعيَّة المتنفِّذة لِتُشكِّلَ وتقوِّيَ الأبعاد الخياليَّة للماضي الفردوسي، منتِجةً، كتائبَ من الحالِمين الَّذين يقطنون المُدُن والقُرى عَبْرَ وجود اجتماعي سائل وغير متيقن تتداخل فيه الحدود درجة الضياع.
تشبه رجوعيَّة الشَّرق الأوسط الَّتي افترضها كثبان رمال صحاريه، في كونها دائمة الحركة، لا تُحسن عملًا، اللهُمَّ سوى «التصحُّر الثقافي» الَّذي يتبلوَر على نَحْوِ منظومات شائكة من المفارقات الَّتي تفاجئ الرَّائي الأجنبي فتقدِّم له صدمات وعي عنيفة من آنٍ لآخر ترغمه أن يتأملَ البون الشَّاسع بَيْنَ «روح العصر» والروح السَّائدة في بعض مُجتمعات ودوَل الشَّرق الأوسط. لذا تتَّسع الفجوة الثقافيَّة النَّاتجة على نَحْوٍ مُطَّرد حدَّ الإعاقة والوجع، خصوصًا في أزمنة الصدام أو مناسبات الاحتكاك مع الثقافات والحضارات التقدُّميَّة الأخرى.
إنَّ حلم الأسلاف الَّذي يلاعب مخيِّلات أطفال المدرسة أعلاه، كما هي حال جميع الأحلام والكوابيس، لا يُقدِّم نمطَ تطوُّر معيَّن؛ لأنَّه يتشعَّب ويتمدَّد أحيانًا، ثمَّ لا يلبث أن يلتويَ على نَحْوٍ غريب لِيتشكَّلَ من جديد فيطفوَ ثانيةً على نَحْوِ قوَّة مهيمنة تبقى تبني قلاعًا في الهواء حتَّى يكتمل بناء عالَم وهمي لا يلبث أن يغدوَ متاهةً قوامها مجموعة من المفارقات، الرئيسة والثانويَّة الَّتي تستحقُّ الرَّصد والبحث واحدة فواحدة، علمًا أنَّ الأولويَّة ينبغي أن تُعطى للمفارقات الأساسيَّة.
لا يُمكِن مناقشة منظومة المفارقات الهلاميَّة الَّتي نرصدها من آنٍ لآخر دفعة واحدة بسبب تعقيدها وتواصل استحالاتها وانشطاراتها رغم إمكانيَّة تصويرها وعكس أبعاد تعقيدها بالكامل. لذا، لا بُدَّ أن يبحثَ رصدها عن محكَّات قابلة للبحث والتحليل على نَحْوٍ منفرد بشيء من العُمق والتفصيل لِتمكينِ القارئ من تطوير فكرة حَوْلَ «منظومة المفارقات»، لتكوينِ انطباع عامٍّ عن تأثيرها المهيمن على الحياة والوجود الاجتماعي عَبْرَ دوَل الإقليم. واعتمادًا على المتاح من المواد وعلى قدرات المؤلِّف المحدودة، فردًا، إذ تغدو هذه المحكَّات الأُسس الوحيدة للتيقن المتاحة لتطوير جدل يستحقُّ المتابعة.
من بَيْنِ المفارقات المتنوِّعة الَّتي تستحقُّ المناقشة بقدر تعلُّق الأمْرِ ببعض أقطار الشَّرق الأوسط، تتجسَّد أمامنا تنافسات القوى العظمى للهيمنة على الإقليم، ومِنْها التنافس الَّذي خذل أقوام الإقليم بسبب عدم منحه شخصيَّة جغرافيَّة متماسكة أو هُوِيَّة ثقافيَّة استثنائيَّة عِندما اكتفت تلك القوى العظمى بدفع الإقليم إلى سلَّة واحدة، عنوانها «الشَّرق الأوسط»؛ بمعنى أنَّه «شرق» من بَيْنِ «شروق» لأخرى: الأدنى والأوسط والأقصى، الَّتي دفعت بعيدًا لِتشتركَ في «عقدة النَّقص» الَّتي تكوَّنت في عصر بناء الامبراطوريَّات الأوروبيَّة البائدة.
ولأنَّ ذلك العصر الكولونيالي (البريطاني والفرنسي، خصوصًا) لَمْ يكُنْ من نتاجات تفاعل سلمي أو تثاقف، فإنَّ أثَرَه السَّام على الإقليم ظهر بعد الحرب العالَميَّة الأولى، أي عِندما توجَّب على أقوام الإقليم الاتِّجاه إلى نخبها الثقافيَّة في سبيل الإجابة عن سؤال مُضنٍ، مفاده أيُّ الطُّرق ينبغي أن نسلكَ نَحْوَ المستقبل؟ ذلك المستقبل الَّذي بدَا غائمًا، يكتنفه الغموض في أجواء تفاعل الأيديولوجيَّات الأوروبيَّة والبرامج السِّياسيَّة المتنوِّعة. وقَدْ تمَّ اختزال السؤال بثلاثة خيارات، وهي: الإسلامي والقومي العربي والاشتراكي. وقَدْ زاد سقوط الدَّولة العثمانيَّة المدوِّي الَّذي توافَق مع اندفاع وهيمنة التفوُّق الأوروبي من عدم تيقن أقوام كان عَلَيْها اتِّخاذ قرار الاختيار التاريخي الصعب، الملخَّص بـ»ما العمل؟»
بقِيَت مُشْكلة اللااستقرار واحدة من أهمِّ معطيات النُّخب الفكريَّة الَّتي ينقصها التَّيقن في إقليم مرتبك كهذا، الأمْرُ الَّذي قاد إلى غياب التواصل في البناء التراكمي، أي البناء الَّذي ابتلعته دوَّامة دوَل الإقليم بسبب توالي الانقلابات والحكومات غير المؤهلة للإدارة وأنظمة حُكم متخلِّفة غير قادرة على إدامة تراكم خبرة متواصل في سبيل التقدم من مرحلة إلى أخرى في سياق مَسيرة مستمرَّة، بلا تعثُّر، نَحْوَ التقدُّم.
واحدة أخرى من المفارقات المعيقة تجسَّدت في العلاقة المكهربة بَيْنَ الدَّولة والنُّخب الثقافيَّة، وهي علاقة تزداد تعقيدًا لِتتجسَّدَ في صيغة السُّلطة نقيضًا للثقافة. وقَدْ كانت هذه واحدة من أكثر العلاقات إرباكًا وتوتُّرًا؛ لأنَّها تخضع شراكة الدَّولة مع الدِّين للاختبار. وهي الشراكة الَّتي اعتمدها بعض الحكَّام الَّذين استحوذوا على التاريخ الحديث للإقليم، خصوصًا وأنَّهم وظَّفوا الدِّين لمصالحهم، علمًا أنَّها شراكة تيسِّر ضمَّ الاستبداد ذاته إلى طرائق الخالق نَحْوَ الإنسان. هنا يتمُّ استخدام الدِّين في صناعة وإدامة الاستبداد.
والحقُّ، فإنَّ الأكثر إحباطًا وإثارة للهواجس وللمخاوف، يتجسَّد في شراكة المنظورات وأنماط السلوك بَيْنَ الحكومات والمعارضات، أي في الخلل الَّذي تشترك به الحكومة مع أحزاب وجماعات المعارضة في آنٍ واحد. لذا استحالت الآمال المعقودة على المعارضات خيبات أمل بسبب سقوطها في ذات الأخطاء.
والحقُّ، فإنَّه في مقدِّمة العوامل الَّتي أدامت هيمنة «حلم الأسلاف» المعيق انطلق من التشكيل الغريب للأنظمة التربويَّة من المراحل الابتدائيَّة صعودًا حتَّى مراحل الدِّراسات العُليا. هذه الأنظمة، كما لاحظنا أعلاه، تبذر بذور الرجوعيَّة في تربة الطفولة الخصبة، ثمَّ تحصد أثمارها المؤسفة في الجامعات، بل وحتَّى فيما بعدها من مراحل التنشئة. وتخضع هذه المفارقة التربويَّة كلًّا من الثقافة الشائعة ووسائل الإعلام لسطوتها في سبيل تكوين أُطر خانقة توصد جميع أبواب الخروج من سُلطة قِيَم العصر الوسيط وتقاليده الشَّائعة بَيْنَ جميع شعوب إقليمنا.
وأخيرًا، يتجسَّد أمامنا رهاب الأجنبي والحساسيَّة المفرطة مِنْه، عائقًا، خصوصًا مع التحسُّس من التأثيرات الغربيَّة، وهي حال يُمكِن أن تبررَ إخفاق رؤيا تحرير أُمم الشَّرق الأوسط من الغلاف القديم المتكلِّس الَّذي يلفُّها منذ عصور. وإذا كان قَدْ تمَّ استفزاز هذا التعقيد بواسطة الاحتلال الأميركي للعراق سنة 2003، فإنَّه قَدْ أماط اللثام عن محرِّكات لا واعية تَدُور عميقًا في دواخل النفسَيْنِ الأميركيَّة والرافدينيَّة في ذات الوقت على طريق بلوغ رؤيا عالَم جديد يتبلوَر من قلب الإبحار «الكولومبي» من العالَم القديم إلى «العالَم الجديد» في سياق مطاردة أسطورة جماعيَّة أميركيَّة ترنو إلى زواج الشَّرق من الغرب لولادة نَوْع جديد من البَشَر، لأنَّ هذا الاقتران الثقافي لا يُمكِن أن يخلوَ من الثمار المُهمَّة، خصوصًا بقدر تعلُّق الأمْرِ بالمقاومة الارتداديَّة الَّتي جسَّدها الكتَّاب والمؤلِّفون العراقيون من خلال دواخل «الفضاء المؤنث» للأرض المحتلَّة، أي من العراق في هذه الحال. لا رَيْبَ في أنَّ استجاباتهم المُهمَّة في سياقنا هذا لأنَّها تجسِّد «الضوابط الثقافيَّة» الكابحة على أوضح صوَرها، خصوصًا عِندما توظَّف تلك الضوابط المرتكنة إلى ذات الحلم الوسيط، أداةً، لمقاومة وصدِّ القوَّة الغربيَّة «الذكوريَّة» المهاجمة.

أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: على ن ح ع ندما خصوص ا

إقرأ أيضاً:

المركز الثقافي الكوري ينظم قافلة ثقافية في بورسعيد

نظم المركز الثقافي الكوري في مصر قافلته الثقافية الثانية في مكتبة مصر العامة ببورسعيد، واستقطبت الفعالية حشودًا من رواد المكتبة وطلبة المدارس بمختلف الفئات العمرية.

وأوضح المركز، في بيان اليوم، الخميس، أن هذه المبادرة الثقافية المتنقلة تهدف إلى التعريف بالتقاليد الكورية في المناطق البعيدة بمختلف أنحاء مصر، من خلال تقديم مزيج نابض بالحياة من ورش العمل والمعارض التفاعلية والعروض الحية، ومن خلال تعزيز التبادل الثقافي، وزيادة الوعي باللغة والثقافة الكورية بكل مقوماتها.

وقال مدير المركز الثقافي الكوري في مصر أوه سونج هو، "بورسعيد، بإرثها العريق كملتقى طرق عالمي، كانت الاختيار الأمثل لاستضافة قافلة الثقافة الكوري التي نأمل في أن تسهم في تعزيز التبادل الثقافي وتقوية التفاهم المتبادل بين البلدين ".

وأضاف: "مع احتفالنا بهذه المناسبة، نعمل جاهدين من أجل توسيع نطاق البرامج والفعاليات التي تبني جسورًا للتواصل بين بلدينا، من خلال تعليم اللغات، والتعاون في الفنون، وغيرها".

وتضمنت القافلة مجموعة شيقة من الأنشطة، بما في ذلك، دروس تمهيدية في اللغة الكورية، بالإضافة إلى ورش عمل للحرف التقليدية، حيث صنع المشاركون مجسمات لزهور قرنفل وهي من المظاهر المميزة لعيد الوالدين الكوري الذي يجري الاحتفال به سنويا في 8 مايو، كما تدربوا على فن الخط الكوري، وصنعوا الأقنعة المزخرفة.

واستمتع المشاركون بتجارب الألعاب الكورية التقليدية، والواقع الافتراضي والسينما الكورية، وعرض الموسيقى التقليدية بالإضافة إلى ارتداء "الهانبوك" حيث اتيحت لهم الفرصة لارتداء الزي الكوري التقليدي الشهير، كما تعرف المشاركون على أهم الآلات الموسيقية الكورية التقليدية والورق الكوري التقليدي (الهانجي).

ويتزامن تنظيم القافلة مع الاحتفال الكوري بـ "عيد الوالدين"، حيث تعرف المشاركون على الجذور الثقافية لهذا العيد، وطقوسه المميزة للتعبير عن الحب والامتنان للوالدين، وبصفة خاصةً وضع شارات جميلة بها زهور القرنفل على الملابس، ففي كوريا يوجد لكل لون من ألوان زهرة القرنفل دلالة خاصة، فاللون الأحمر يعني أن الوالدين، لا يزالا على قيد الحياة، أما اللون الوردي فيدل على أن أحدهما فقط ما زال على قيد الحياة، أما اللون الأبيض فيدل على كلاهما قد فارقا الحياة.

كما يُعرف شهر مايو بـ "شهر الأسرة"، حيث يُصادف عيد الطفل (5 مايو)، وعيد الوالدين (8 مايو)، وعيد المعلم (15 مايو)، وذلك للاحتفاء بالعائلة وتعزيز سلوكيات الاحترام عبر الأجيال.

ويعتزم المركز الثقافي الكوري توسيع نطاق القافلة الثقافية لتشمل مدنًا إضافية في أنحاء مصر، استجابةً للطلب المتزايد على تعلم اللغة والتعرف عن قرب على الثقافة الكورية بكل مكوناتها، ومن المقرر أيضًا تنظيم المزيد من الفعاليات التي تقام احتفاءً بهذه المناسبة على مدار العام.

مقالات مشابهة

  • نادي المضيبي يناقش آليات التسجيل في مسابقة الأندية للإبداع الثقافي
  • دعوى قضائية ضد رئاسة الإقليم لعدم حلها البرلمان لفشله في تشكيل الحكومة الجديدة
  • ربيع شهاب حالة مستفزة في المشهد الثقافي
  • طنجة تمد جسر الحوار والتبادل الثقافي والإقتصادي مع تاراغونا الإسبانية
  • تطابق سياسي مصري يوناني في قضايا الإقليم .. تفاصيل
  • اربيل: الحكومة الاتحادية قررت تقليص مبالغ تمويل رواتب الإقليم
  • المركز الثقافي الكوري ينظم قافلة ثقافية في بورسعيد
  • تعيين وصفي البطاينة مديراً للمركز الثقافي الملكي
  • الاعيسر: من المفارقات الساخرة أن يطالع المرء بياناً صادراً عن حكومة إمارة قُطعت علاقاتها من قِبل دولة ذات سيادة
  • جولات "تروية" تنطلق في المشاعر المقدسة لتعزيز الوعي الثقافي للطلاب