لماذا لا يوجد تفسير نفسي للقرآن الكريم حتى الآن؟
تاريخ النشر: 24th, December 2023 GMT
اختلفت مسالك المفسرين للقرآن الكريم، فمنهم من اتخذ المسلك الفقهي ليكون بابًا لتفسيره، ومنهم من اهتم بالعلوم اللغوية؛ من نحو وصرف وبلاغة، ومنهم من تعددت مواهبه، فجمع بين المسالك اللغوية والفقهية والعقدية، كل ذلك يرجع إلى ثقافة المفسِّر الشخصية، وكذلك ثقافة عصره، وما يموج بها من أفكار، احتاجت لعلاج، فكانت عن طريق النظر في كتاب الله تفسيرًا.
ومع تطور العلوم الإنسانية في العصر الحديث، بدأت حركة الدراسات الإنسانية للقرآن الكريم تخطو خطوات في هذا المجال، وإن لم تخلُ منها كتب التفسير التراثية من قبلُ، من حيث إشارات ودلالات التقطها من عنوا بالبحث في هذا المجال.
ولكنها لم تكن في كتابات التراث بارزة بهذا الشكل الذي وصلت إليه العلوم الإنسانية حاليًا، وبدأت تزداد في القرن العشرين وما تلاه؛ نظرًا لزيادة عدد المختصين بهذه العلوم من المعنيين والمهتمين بالدراسات القرآنية، أو بالقرآن الكريم، سواء من حيث التأمل فيه، أو من حيث التعامل مع ما اشتمل عليه من جوانب تشريعية وقصصية وغيرها.
محاولة الرافعيكتب العالم الأزهري الجليل الدكتور عبد الغني الراجحي ثلاث مقالات في مجلة "منبر الإسلام" تحت عنوان: "التفسير النفسي للقرآن الكريم"، وقد جمعت مؤخرًا مع مقالات أخرى له بعنوان: "في رحاب القصص القرآني"، أصدرتها مشيخة الأزهر ضمن سلسلة كتب لعلماء الأزهر المعاصرين.
اكتفى فيها بالسرد التاريخي للعلماء الذين تعرضوا لهذا الموضوع، سواء من خلال التراث، وذلك بالنظر في تفاسير للقدامى، التقط منها موضعًا من هنا، وآخر من هناك، من تفاسير: "الكشاف للزمخشري"، و"التفسير الكبير" للرازي، أو من خلال بعض كتابات المعاصرين، مثل: قصص الأنبياء لعبدالوهاب النجار، وغيره.
وقد رصد رغبة ملحة كانت لدى الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي، الذي كان له عزم على تأليف كتاب في الإعجاز النفسي، على منهجية يسميها: "الطريقة النفسية في الطريقة اللفظية".
القرآن وعلم النفسلعل أول من التفت لهذه المساحة، وأشار إليها من المعاصرين، حيث أفردها بحديث علمي، الأستاذ عبد الوهاب حمودة، في كتابه: "القرآن وعلم والنفس"، وهو نفس عنوان كتاب صدر فيما بعد عن الدكتور محمد عثمان نجاتي، لكن كتاب حمودة، عَقد فيه فصلًا بعنوان: "التفسير النفسي"، وبدأ يضرب لذلك نماذج مهمة في الموضوع، وأهمية هذا التناول، والإشارات والنماذج التي ذكرها مهمة، وهي هادية لمن يريد السير في هذا المسلك.
أما كتاب الدكتور نجاتي، فقد كان أشبه بالتفسير الموضوعي، حيث تناول النفس البشرية في القرآن الكريم، بناءً على محاور علم النفس الحديث، وتناول الدوافع والنزعات في النفس البشرية من خلال آيات القرآن الكريم، والانفعالات النفسية لدى الإنسان، وأنماط الشخصية باختلافاتها وتنوعها، كل ذلك من خلال ما تناوله القرآن الكريم للنفس البشرية بمختلف مستوياتها.
نجد اهتمامًا كبيرًا لدى سيد قطب بالدراسات القرآنية، ويستعين بخلفيته الثقافية من الدراسات الإنسانية، إضافة لمهارته الفائقة في علوم اللغة والأدب والنقد
علم نفس قرآني جديدأمّا الدكتور مصطفى محمود، فقد حاول الكتابة في الموضوع، وجعل عنوان أحد كتبه: "علم نفس قرآني جديد"، وهو مأخوذ من فصل بعنوان: "علم نفس قرآني"، من كتابه: "من أسرار القرآن"، مع تعديلات طفيفة.
وكتاب محمود ليس فيه عن الموضوع سوى محور واحد، وبقية الكتاب موضوعات أخرى، كشأن كتبه الأخيرة، فقد تحمل عنوانًا، ولا تجد داخل الكتاب ما يعالجه سوى مقالة كتبها في جريدة "الأهرام" التي كانت تنشر مقالاته في أخريات سنوات حياته، رحمه الله. وكان جلّ تركيز محمود في كتابه على معايب علم النفس الحديث، وخاصة سيجموند فرويد، والمدرسة الغربية في علم النفس، وبيان الرؤية القرآنية في النفس وأمراضها، وكيفية النجاة من ذلك.
محاولة محمد البهيحاول المفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد البهي، تقديم تفسير للقرآن الكريم، وإن أطلق على سلسلته عنوان: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم"، وقد فسر عدة سور، ولم يفسر القرآن كله، وإن حمل عنوان السلسلة التفسير الموضوعي، إلا أنه لم يكن تفسيرًا موضوعيًا بالمعنى المعروف علميًا، بل كان يتناول السورة تناولًا عامًا، ويفسرها بما هو أقرب للتفسير التحليلي العام.
ولأن دراسة البهي وتخصصه في الدراسات الإنسانية، فقد برز ذلك بقوة في تفسيره، وبخاصة علوم الفلسفة والنفس والاجتماع، لكنه لم يكمل تفسيره، فقد وافته المنية قبل التكملة.
"ظلال" سيد قطب هو الأقربأما سيد قطب، فإن كتابه: "في ظلال القرآن"، يعد أقرب كتب التفاسير المعاصرة التي اقتربت من هذه المحاولة، حيث نجد اهتمامًا كبيرًا لدى سيد بالدراسات القرآنية، ويستعين بخلفيته الثقافية من الدراسات الإنسانية، إضافة لمهارته الفائقة في علوم اللغة والأدب والنقد، مما مكّنه من إصدار كتاب يمكن أن يكون أرضية مهمة لهذا الموضوع، وذلك من خلال كتابه: "التصوير الفني في القرآن".
ففضلًا عن أهمية الكتاب بوجه عام في موضوعه، إلا أنه في المباحث التي تناول فيها القصة في القرآن، تعرض لما يمكن أن يدخل في التفسير النفسي، ثم طبقه بنموذج تفسير موضوعي في كتابه: "مشاهد القيامة في القرآن"، ثم طبق نظريته بوجه عام في كتابه الكبير "في ظلال القرآن"، ونجد فيه إشارات ونظرات مهمة تدخل في موضوعنا، وإن لم يعره اهتمامًا كبيرًا، بحيث يشمل كل السور والآيات.
تفسير منشودبعد محاولة استقراء تجارب التفسير النفسي للقرآن، نجد جلها كان يتحدث عن أثر القرآن النفسي على الإنسان، أو ما يمكن أن ندخله في باب التفسير الموضوعي، وهو تناول الآيات التي تتحدث عن النفس، واهتدائها، وانحرافها، وعوامل الهدى والانحراف.
وكان جل الاهتمام منصبًا على دراسة النفس البشرية من خلال حديث الآيات المباشرة عنها، لكن المطلوب هنا تفسير ينظر للآيات الكريمات كلها بهذا المنظار، فالقرآن كتاب نزل لهداية البشر، ولخطاب المؤمنين به وغير المؤمنين، ولا شك أن تنوع خطابه، واستهدافه النفس المخاطَبة، سيكون له مجالات مختلفة، وأساليب مختلفة، لا يبرز ذلك من خلال التفسير الموضوعي للنفس، بل من خلال التفسير كاملًا.
فالمطلوب تفسير كامل للقرآن، من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، كما رأينا في التفاسير الأخرى، فتجد تفسير القرطبي، يفسر القرآن كاملًا، لكنه يستخرج من الآيات الأحكام، ولذا أسماه: "الجامع لأحكام القرآن".
والقرآن الكريم لا يخلو منه نص من هذا المعنى النفسي، سواء في خطاب البشر مؤمنين وغير مؤمنين، أو في حواراته، أو قصصه، أو أحكامه وتشريعاته، فكلها تنطوي على كنوز مهمة، استخرجها علماء ومفسّرون سابقون من خلال ثقافتهم، ويمكن لعلماء النفس والاجتماع، أن يستخرجوا منها كذلك، كما رأينا تركيزًا كبيرًا من الإمام محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا، في تفسيرهما: "المنار"، على استخراج السنن الاجتماعية في التفسير.
ولكي يتم ذلك لا بد من مواصفات أو شروط فيمن يقوم بهذا العمل المهم، وهي: ألا يسعى وراء إثبات نظرية من النظريات النفسية بآيات قرآنية، وهو ما يخطئ فيه من يتناول القرآن الكريم، في ضوء نظريات العلم، فالنظريات قد تصح وتبطل، وبخاصة في مجال كعلم النفس، وهو من أعقد المجالات البحثية على مدار التاريخ، وعلى مدار مسيرته العلمية.
وألا يستحضر المفسر ما يقوله الغربيون، سواء من باب إثبات صحته، أو الرد عليه، فعليه التعامل مع القرآن من حيث مخاطبته للإنسان، وليس الهدف من عمل كهذا هو الرد، بل استجلاء ما يحتويه هذا الكتاب العظيم من مخاطبة للنفوس، وقراءة لها، وبحث عن كل وسيلة لهديها سواء السبيل.
القيام بعمل ضخم ومهم كهذا، يحتاج من صاحبه تضلّعًا في اللغة العربية، أو تمكنًا منها، وعلى الأخص في علوم البلاغة العربية؛ لأن عمله سيتم من خلال تأمله في مفردات الآيات، وفي مراميها، ومعانيها، وما أثر هذا الخطاب على النفس، ولماذا كان ختام الآيات بعبارات معينة، وسياق الآيات، وابتداء وانتهاء السور، وما إلى ذلك من تمكن من الخطاب القرآني، حتى يستطيع القيام بهذه المهمة.
لعل من المجالات- التي يمكن أن يضرب بها النموذج أو المثل في التقريب لعمل تفسير نفسي للقرآن الكريم- مجالَين من مجالات القرآن، وهما: القصة في القرآن الكريم، وآيات الأحكام والتشريع، وهو ما نفصل فيهما- إن شاء الله تعالى- كمداخل لهذا اللون من التفسير المنشود.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الدراسات الإنسانیة التفسیر النفسی القرآن الکریم للقرآن الکریم فی القرآن علم النفس فی کتابه القرآن ا ا کبیر ا یمکن أن تناول ا فی کتاب تفسیر ا من خلال من حیث ذلک من
إقرأ أيضاً:
بذور الشجرة السامة
لم يمض يومٌ مذ خُلِق الإنسان إلا وكان فيه شيءٌ جديد، معرفةٌ جديدة، اقترابٌ جديد. حتى جاء اختراع الآلة الطابعة باعتباره الفتح الأكبر وكُرة الثلج الحسنة التي جعلت التطورات المعرفية في شتى العلوم تتسارع وتتوالى، إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه من طفرة في التقدم والتطور البشري. هذه الطفرة الهائلة طالت جميع العلوم دون استثناء، عدا منطقة ظلَّت عصيّة على الحسم العلمي، وظل العلم يعالجها ويقاربها فيصيب تارة ويخطئ تارات كثيرة، وذلك لديناميكيتها المستمرة وحركتها الدائمة التي لا تتوقف؛ وهي المنطقة الشائكة لفهم النفس الإنسانية. فقد ظل حقل علم النفس بأشواكه الحادة وحقله الصعب الذي يشبه حقل الألغام، عصيًّا على الاختزال والحصار، وظل التأسيس فيه مستمرًّا وقائمًا، فهو بناء لم يكتمل رغم السنوات التي مرت والأبحاث التي نُشرت، والعلماء الذين أفنوا حياتهم فيه.
تغريني عدة فنونٍ لفهمها والتعمُّقِ فيها واكتساب مزيد من المعرفة عنها، وكلما تعمّقتُ؛ وجدتني أشد ظمأً للمزيد منها، وعلم النفس أحد هذه الفنون الخلّاقة دائمة التطور والنمو. يكتسب المرء، بعد فترة من تجربته القرائية الناقدة، مهارة جديدة، وهي المقاربات التي يشاهدها في واقعه والتمثّلات التي تبدأ بالظهور مرة بعد أخرى؛ فكأنما يرى التجسيد الآني للآية الكريمة: «فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ»، حيث ترتفع الحُجُب وتغدو الأشياء واضحة جليّة مهما أُلبِسَت من أقنعة ووجوه.
كنا في حوار عميق وصادق صديقي وأنا، عن علم النفس، الطبيعة البشرية، الجوانب المظلمة والخفية للنفس البشرية، وكيف يستعمل البعض الشر بوعي أو بغير وعي منهم عبر علم النفس. فانقدحت في ذهني شرارةٌ ما، وانكشف لي شيء خشيت أنني سُبِقت إليه، وانتهى الأمر بفرحة الاكتشاف ولذته. فقد ابتكرت مصطلحًا جديدًا لم أجد له أي استعمال أو نحت من قِبَلِ أي مختص أو أديب، وسميّته «بذور الشجرة السامة». فما هي الشجرة السامة؟ وما بذورها؟ وكيف يتبدى الشر في بعض المواقف والأحداث التي تبدو عفوية وطبيعية؟
يتفاعل الناس مع بعضهم وفق مسؤوليات وحاجات معينة، وتحدد تلك المسؤوليات والحاجات طريقة التعامل وسُبُلَها، والخبايا التي تندسُّ في شقوق النفس البشرية، فإما أن يدركها صاحبها، وإما أن تتمدد تلك الشقوق حتى يتصدع المرء وتتبدى للجميع هشاشة موقفه ومنطلقاته، حتى ليتمثّلَ المرء بشطرِ بيتِ زُهير بن أبي سُلمى: «وإن خالها تَخفى على الناسِ تُعلَمِ».
لا يستطيع الإنسان أن يقصر تعامله على من يعرفه ويروق له فحسب، فهو يعتمد على الناس كاعتماده على النباتات في غذائه، فبعض الأغذية لا بُدَّ من تناولها حتى وإن لم تعجبنا أو تَلذُّ لنا، وهكذا البشر. فبعض الناس في هذه الحياة أناس من المجموعة الأساسية التي لها حقوق ومكانة ومقام يمنحها الحق والقدرة في التأثير علينا ومناقشتنا ومحاكمتنا أخلاقيًّا أو قِيَميًّا؛ وهم الدائرة الأقرب من العائلة والأصدقاء. بينما تغدو المجموعات الثانوية، من زملاء وأناس نتعامل معهم لمرات محدودة، شيئًا خارج نطاق اختيارنا، وإنما تضعنا وتضعهم الحياة في ذات الطريق الذي يجب أن نخطوه سويًّا.
تنمو العلاقات الإنسانية بالتغذية المستمرة من لقاءات ومعرفة وتصاحُبٍ وحديث، وقد تصبح حديقةً غنَّاء وارفة الظلال، أو حقلًا مليئًا بالأشواك الظاهرة والخفية. فالظاهرة أمرها سهلٌ ويسير، ولكنَّ أُمّ المشكلات تكمن في تلك الخَفِيَّة المتوارية عن العيون. كيف تنمو العداوات؟ وكيف تذبل الروابي النَّضِرَة إذن؟ هناك خلل ما طرأ في العلاقة وجعلها تحذو هذا الحذو، فما الخلل؟
بينما يفسل المرء الفسيلة برغبة وعن قصد ونيّة، في موضعٍ ما وفسيلةً من نوعٍ ما، تتميز بعض الأشجار بأنك تستطيع أن تنثر بذورها في المزرعة دون زراعة أو غرس، ولا تشعر إلا وقد نمت تلك الأشجار وناولتك ثمارها، وهكذا العلاقات الإنسانية أيضًا، فالكلمات التي نقولها للآخرين أو عن الآخرين تمثّل بذورًا تَعِدُ بشجرةٍ قادمة، وبينما يغرس المرء بذرةً خيِّرة ككلمةٍ طيبةٍ في نفسِ طفلٍ ليكبُرَ وهو أقرب إلى الخير، أو لصديقٍ أو محتاجٍ لتلك الكلمة الطيبة ليغدو أفضل حالًا وأقل ألمًا أو مشكلةً أو مأزقًا؛ يعمد البعض إلى نثر البذور السامة في الآخرين، أو عن الآخرين إلى آخرين غيرهم!
تمثّل الغيبة والنميمة وحديث السوء عن شخصٍ ما، بذرةً واضحةَ المعالم لشجرة تعد بانقطاع علاقة، أو انفصامها في التوِّ واللحظة، أو في الغد القريب المنتظر، أما البذور الخفية فهي تلك التي تلبس ثيابًا أنيقة وتبدو حسنةً جميلةً بل وخَيِّرَةً أحيانًا! ثم ما يلبث أن تنمو في تلك الدهماء، فلا ندري كيف نمت واستطالت، أو متى ارتوت وطالت. إن الكلمات التي تتخلل ثنيّات الكلام، كلمات تترسّخ وتثبُت في موضع ما في نفوس سامعيها. ويستعمل البعض تلك الكلمات بوعي كامل، فنسميهم أُناسًا «سَامِّين»، لكن الخطر يكمن من الآخرين الذين تبدو عليهم مظاهر البراءة والوداعة في كلامهم، وهم يدسون بذور الشجرة السامة في أرض طيبة النشر.
ومثال البذور السامة، أن يجمع مجموعة من الأصدقاء أو المعارف جامع مشترك، وكلّهم على القدر نفسه من المكانة والتأثير في المجموعة. ففي مجموعة تضم -على سبيل المثال- جون، مايكل، وفريدريك؛ يقول جون، لمايكل، متحدثًا عن فريدريك: «صحيح أنه صديق جيد، لكنه لا يلتزم بوعوده للأسف، أتمنى لو أستطيع تغييره؛ لأننا نحبه حقًّا، هل علمتَ أنه خسر شريكه التجاري لأنه لم يفِ بالتزاماته المالية تجاه الشركة؟ والمشكلة أنه لا يصارحني بهذه الحقيقة لأساعده! يعزُّ عليَّ حاله، ليتني أستطيع مساعدته فحسب».
تبدو تلك العبارة لطيفة تمثل ألم صديق على حال صديقه، ولكنها في الحقيقة تخفي بذرة سامة تعد بشجرة مؤجلة للغد.
ينكشف جون أمام فريدريك، ويكتشف فريدريك أن جون لم يكن صديقه أساسًا؛ بل كانت تختبئ خلف تلك الأقنعة مصالح ونوايا أخرى، وهنا يكتشف فريدريك أن بذرةُ الأمس صارت شجرة. فحين يذهب فريدريك إلى الصديق المشترك «مايكل» ليشكو من جون ويطلب المساعدة في تحسين علاقتهما؛ يكتشف أن مايكل منحاز تمام الانحياز إلى جون وروايته للمسألة والحدث. فتلك العبارة الأولى رسّخت في مايكل -حتى وإن كان في عقله اللاواعي- عدة صفات سيئة عن فريدريك، رغم أنها لم تظهر إلى السطح إلا حين حدث الخصام بين الباذر والمبذور عنه. فالكذب وانعدام الثقة والمسؤولية، كلها بذور غرستها يدٌ ما في ظلام النفس، وها هي تخرج للوعي شجرة مكتملة النمو!
خشيت أن يكون استعمال الأسماء العربية، في المثال، ضربًا من ضروب البذور السامة غير المقصودة التي قد يتلقفها شخص ما لتشابه الأسماء أو تشابه المواقف. ولكن هذا المثال يعيدنا إلى الواقع الصعب في التعامل مع علم النفس وتمثلاته في أفعال المرء وأقواله، فضلًا عن تفكيره وما يعتمل في دماغه. ففي فهم الآخر، تغدو للكلمة معانٍ كثيرة ولا نهائية من الاحتمالات، وفي حين يبدو أن بعض تلك الكلمات واضحة جلية؛ تختبئ الكلمات السامة في شقوق الحديث، متوفرة ومتأهبة للخروج عند أدنى استعداء وأول صفارة إنذار.
ففي حين أن الكتب والبحوث هي مادة المعرفة في شتى المعارف والعلوم؛ يمثل التعامل مع البشر ومراقبة تصرفاتهم وأقوالهم وأفعالهم ونتائج ذلك كله وتجسيداته، النتيجة المباشرة للمراقبة والمشاهدة والتجربة في هذا الحقل الشائك. أما عن علاج كل هذا، فالصدق والصراحة هما الحل الناجع والعلاج الحقيقي. فما يدعو المرء إلى أخذ الكلام على عواهنه ليس إلا الكسل المعرفي وبطالة الذهن والروح التي تدفعه لأن يتناول أقرب ما تصل إليه يده من «الرَّف» القريب، دون تفحّص أو تمحيص لما يتناوله أو يصل إليه.
ثم ما فائدة العلاقات الإنسانية كلها إن لم نملك الشجاعة على السؤال؟ فإذا كان السؤال يمس أعظم ما في الحياة، الإله، كما في: «الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ»، فهل يخشى أحدنا أن يتثبت ويسأل من يكترث ويهتم لأمره من عائلة أو صديق أو حبيب؟ وهل سيتنبه إلى البذور السامة في حينها؛ أم أنه سيعمي عينيه عن الفيل الذي في الغرفة؟