أمريكا يجب أن تأخذ تهديدات إسرائيل للبنان على محمل الجد
تاريخ النشر: 24th, December 2023 GMT
ترجمة: أحمد شافعي -
في حين تواصل إسرائيل عمليتها العسكرية المدمرة في غزة وسط تدفق مستمر لهجمات حزب الله على طول الحدود اللبنانية الإسرائيلية المتنازع عليها، يشير بعض المسؤولين الإسرائيليين الآن علنا إلى أن الغزو ضروري لقمع الجماعة المدعومة من إيران. ويمثل هذا الخطاب تحولا عن الموقف السياسي الإسرائيلي الرسمي (وهو أن إسرائيل لا ترغب في فتح جبهة شمالية) فيمثل تهديدا مباشرا لأهداف السياسة الأمريكية المتمثلة في منع انتشار الصراع.
ولا ينبغي أن تكون هذه الجهود مثار جدل، في ضوء أن مسؤولين إسرائيليين يوضحون نواياهم بشأن مواجهة حزب الله. إذ قال وزير الحرب بيني جانتس مثل هذا في اجتماع مع وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن في 11 ديسمبر في محضر اللقاء الرسمي: «إن العدوان والهجمات المتزايدين من حزب الله المدعوم من إيران يقتضي من إسرائيل إزالة هذا التهديد الموجه للسكان المدنيين في شمال إسرائيل». وبالمثل، هدد مسؤولون إسرائيليون كبار، لا يقتصرون على قائد الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بضرب لبنان ردا على تصرفات حزب الله منذ السابع من أكتوبر.
وقد أوجز وزير الدفاع يوآف جالانت خطط إسرائيل في أوائل ديسمبر خلال جولة بالحدود الشمالية المتنازع عليها، زاعما أنه «عندما نكمل عملية القتال في غزة، سوف يتوجه الجهد العسكري بشكل رئيسي إلى الشمال». وأضاف إنه «لا يمكننا إقناع سكان الشمال بالعودة إلى منازلهم على طول الحدود ما لم نتأكد من أن وحدة الرضوان [للعمليات الخاصة التابعة لحزب الله]، وهي أقوى من قوة النخبة التابعة لحماس وأفضل تدريبا وتجهيزا، غير قادرة على تعريض سكاننا للخطر».
وقد ردد مستشار الأمن القومي تساحي هنجبي هذه الأقوال خلال مقابلة أجريت معه في 9 ديسمبر في نشرة أخبار القناة 12 الإسرائيلية. لم يترقق هنجبي في كلماته: «لا بد من تغيير الوضع في الشمال. وسوف يتغير. إذا وافق حزب الله على تغيير الأمور عبر الدبلوماسية، فهذا جيد جدا. لكنني لا أعتقد أنه سيوافق». وبالضغط عليه في هذه النقطة، أضاف إنه على إسرائيل أن تتحرك «عندما يأتي اليوم»، إذ يجب على حكومتها ضمان قدرة مواطنيها على العودة إلى منازلهم في الشمال، وهو ما لا يمكن أن يحدث إلا عندما «يتغير الوضع في الشمال».
تأتي هذه التهديدات في أعقاب تصعيد كبير للأعمال العدائية على طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية المتنازع عليها، وهي أعمال تتجاوز نطاق الأعمال المتبادلة التي تسم المنطقة تاريخيا. وأدى القتال إلى نزوح مئات الآلاف من المدنيين على جانبي الحدود حيث ينشر الطرفان بشكل متزايد أسلحة مدمرة في استعراض للقوة يشكل في العادة دورة من الحفاظ على الردع. ويتسم العنف المتصاعد تدريجيا باستخدام حزب الله للأسلحة العسكرية المتزايدة الفعالية، من قبيل الطائرات المسيرة، كما يتسم بقرار إسرائيل بالضرب التدريجي لأهداف في عمق لبنان ردا على ذلك، ويشير الأمران إلى أن الطرفين غير مهتمين بالتراجع.
والحقيقة أن الردع لا يجدي نفعا. إذ إن واشنطن تواصل استعراض قوتها في شكل مجموعتين هجوميتين من حاملات الطائرات، ومشاة البحرية في وضع الاستعداد، وغواصات نووية محملة بصواريخ كروز تم إرسالها إلى المنطقة في أكتوبر ونوفمبر لردع توسع الحرب. وحتى الآن، أثمر هذا النهج نتائج مشكوكا فيها. والأسوأ من ذلك أن حزب الله يمثل التهديد الأعظم لدولة إسرائيل اليوم خارج إيران، حيث يقدر عدد قواته المقاتلة بنحو 100 ألف جندي وما يزيد عن 150 ألف صاروخ موجه نحو إسرائيل. أي أن الجماعة، ببساطة، أقوى بكثير من حماس وهي جماعة أصغر حجما تدعمها إيران وتصادف إسرائيل مشقة في اجتثاثها من غزة.
في هذا السياق، فإن أي حرب بين إسرائيل وحزب الله ستكون كارثة تضاهي الصراع السابق في عام 2006. لقد أدت هذه الحرب إلى طريق مسدود، إذ تسببت في مقتل ما يقرب من 2000 شخص معظمهم من المدنيين وتشريد أكثر من تسعمائة ألف شخص وتدمير أغلب الجنوب اللبناني. ومن شأن صراع من هذا القبيل اليوم أن يضاهي ذلك أو يتردى عنه، نظرا للمشاعر المتصاعدة بعد السابع من أكتوبر، وأن تكون له تداعيات خطيرة لن يتم احتواؤها في شرق المتوسط. ومما يؤكد هذا التقدير أن ثمة العديد من العوامل التي تسهم في إضعاف لبنان اليوم، ومنها على وجه التحديد أحد أسوأ الانهيارات الاقتصادية في العصر الحديث، وأزمة دستورية مستمرة منذ عام وصراع على سلطة الرئاسة، وما بين ثمانمائة ألف إلى 1.5 مليون لاجئ سوري يعيشون في ظروف مزرية في جميع أنحاء البلد.
تدرك واشنطن هذه المخاطر، ويعارض المسؤولون الأمريكيون بشدة الإجراءات التي قد تؤدي إلى مثل هذه الحرب. فقد أعرب وزير الدفاع لويد أوستن عن قلقه من تصرفات إسرائيل على طول الحدود المتنازع عليها ونقل قلقه هذا إلى جالانت في وقت مبكر هو11 نوفمبر، وأشار إشارة واضحة إلى مخاوف الرئيس الأمريكي جو بايدن. ويواصل مسؤولون أمريكيون آخرون الإعراب عن مخاوف مماثلة، وبلغ ذلك ذروته في زيارات متعددة قام بها مبعوث الطاقة الأمريكي عاموس هوشستين في نوفمبر إلى بيروت والقدس للحث على ضبط النفس. وتتبين أهمية هوشستين في هذه الجهود الدبلوماسية بحقيقة أنه هو الذي بذل من قبل الجهود الناجحة لترسيم الحدود البحرية لإسرائيل ولبنان في أكتوبر 2022، فضلا عما تردد عن جهود لتوسيع هذا التفاهم ليشمل الحدود البرية.
تصيب إدارة بايدن الحكمة إذ تتخذ هذه الخطوات. ففي نهاية المطاف، لن يكون نشوب حرب أخرى بين إسرائيل وحزب الله في مصلحة الولايات المتحدة، وهي في الوقت نفسه تخاطر بحرب إقليمية أوسع قد تؤدي إلى مقتل عدد لا يحصى من المدنيين. فضلا عن أن هذه النتيجة تضع القوات الأمريكية في طريق الخطر. وعلى هذا النحو، فقد عمل المسؤولون الأمريكيون بلا كلل لضمان عدم توسع الحرب بين إسرائيل وحماس، فعدموا إلى دبلوماسية مباشرة واسعة النطاق مع قادة في المنطقة شملت تمرير رسائل إلى إيران. إن لدى الولايات المتحدة أصولا عسكرية ومدنيين في جميع أنحاء غرب آسيا، والعديد منهم في قواعد معرضة للخطر في أماكن من قبيل سوريا. وسوف تواجه الولايات المتحدة صعوبة في الدفاع عن هؤلاء في البداية إذا واجهت حربا أوسع من المؤكد أنها ستنجر إليها بسبب الضغوط السياسية الداخلية في عام الانتخابات وبسبب تقارب بايدن مع إسرائيل.
في ضوء هذا السياق، لا بد أن يستمر المسؤولون في التصريح علنا بأن الولايات المتحدة لن تنخرط في صراع موسع وأنها لا تريد نشوبه أصلا. وفي حال استمرار المسؤولين الإسرائيليين في الإشارة إلى أن الحرب مع حزب الله قادمة، فيجب على واشنطن أن تنفصل تدريجيا عن إسرائيل أو تخاطر بخوض المعركة. ولا بد لأي نهج من هذا القبيل أن يراعي أيضا آليات الضغط لمنع عملية إسرائيلية، ومن ذلك توجيه النقد العلني، وتقليص الغطاء الدبلوماسي، وربط مبيعات الأسلحة بشروط أو تجميدها.
لقد حان الوقت لأن يتخذ قادة الولايات المتحدة موقفا سياسيا أقوى من حرب الشرق الأوسط. سيكون من الحكمة أن تتخذ إدارة بايدن، التي تدعي أنها تنهي «الحروب الأبدية»، إجراءات ملموسة تمنعها من السير نائمةً إلى الحرب التالية. ففي نهاية المطاف، لا يريد الشعب الأمريكي الدخول في حرب أخرى، وهي نقطة يجب أن يأخذها بايدن على محمل الجد وهو يرجو الفوز بإعادة انتخابه في عام 2024 وسط أرقام استطلاعات الرأي الرهيبة.
ألكسندر لانجلوا محلل للسياسة الخارجية يركز على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
عن ناشيونال إنترست.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة المتنازع علیها على طول الحدود بین إسرائیل حزب الله
إقرأ أيضاً:
أمريكا ترامب: سلامٌ بالقُوّة (القوّة الذّكيّة[1])
يعتبر جوزيف ناي أن الاستراتيجيّات الأكثر فاعليّة في السياسة الخارجيّة اليوم تتطلّب مزيجا من موارد القوّة الصلبة والقوة الناعمة، وتوظيف القوة الصلبة فقط أو القوة النّاعمة فقط في موقف معيّن عادة ما يكون غير كافٍ. ويرى أنه لا بد من تطوير العلاقات مع العالم الإسلامي من خلال القوّة الذّكيّة. ويقول تشستر آرثر كروكر إن القوّة الذّكيّة تشمل الاستخدام الاستراتيجي للدبلوماسيّة، والإقناع، وبناء القدرات، وفرض القوة والنفوذ بطرائق فعّالة من ناحية التّكلفة ولها مشروعيّة سياسيّة واجتماعية، لا سيّما في اشتراك القوّة العسكريّة وجميع أشكال الدّبلوماسيّة الأخرى.[2]
فمنذ بدء الحرب على غزّة بعد عمليّة طوفان الأقصى، مارست إسرائيل بدعم أمريكي وغربي كل أنواع القوة وأشكالها، ولم تستطع تحقيق الأهداف الكبرى التي أعلنتها مثل، تحرير الرهائن، وإنهاء حماس، واحتلال غزة وتشكيل سلطة تابعة لأوامر الكيان الصّهيوني، وجل ما حقّقته خلال قرابة العامين من الحرب، على غّزّة، ولبنان، وإيران، واليمن، هو التّدمير، والاغتيال، والمجازر، بدعم أمريكي، وباكتفاء الغرب بالتّهديد النّاعم لإسرائيل، دون خطوات حقيقيّة فعّالة وناجزة.
وعند عجز القوّة الصّلبة عن تحقيق الأهداف المنشودة من الحرب، عادة ما تقوم أمريكا بمحاولة ترجمة مفاعيل القوّة الصّلبة باستخدام القوة النّاعمة مثل اللّجوء إلى الدّبلوماسيّة المَرِنَة والمفاوضات، والخداع والغموض الاستراتيجي، أو ما أسماه دونالد ترامب "السّلام بالقُوّة"، وهو مصداق القُوّة الذّّكيّة التي تدمج بين القوة الصّلبة والقوّة النّاعمة.
والخداع الاستراتيجي يتشابك مع القوة النّاعمة أحيانا، لكنهما أيضا يستخدمان في سياقات مختلفة، ويمكن أن يكون الخداع الاستراتيجي أداة في يد القوّة النّاعمة، إذ يمكن استخدام التضليل والتّلاعب بالمعلومات للتأثير على الرّأي العام الدّولي وتعزيز صورة الدّولة.
فبالمفاوضات أو الحوارات، كانت الولايات المتّحدة الأمريكيّة تحاول ترجمة ما أنجزته على مستوى العسكر لتحقيق مكاسب سياسيّة.
ومن خلال قناع الدّبلوماسيّة، وممارسة الخداع الاستراتيجي قام ترامب الذي رفع شعار السّلام في المنطقة، بالبدء بعقد جلسات تفاوض مع كلّ من روسيا وإيران، الأولى لوقف الحرب في أوكرانيا، والثّانية للتوصل لاتفاق حول ملّفها النّووي.
ومن ضمن استراتيجية دونالد ترامب الرئيس الأمريكي أيضا الغموض الاستراتيجي، إذ ذكر في كتابه "فنّ الصّفقة" الذي يقول فيه: "يمكنك أن تكون غير مُتَوقّع قدر الإمكان، وعندما لا يعلم أحدٌ ما هي خطوتك التّالية، تكون لك اليد العليا".
إن البُعد الأمني والمستوى التكتيكي لمفهوم الخداع والذي يمكن تعريفه على أنَّه "المعلومات التي تُبث عبر بيان أو فعل لدفع الآخرين لقبول تصور مزيف للواقع بهدف التأثير على سلوكهم"، وهو تعريف المؤرخ العسكري والضابط السابق بوحدة استخبارات الحرب النفسية بالجيش الأمريكي بارتون وايلي. التعريف السابق للخداع يضع المفهوم في قالب إجراءات التزوير والتضليل وهو المعنى اللغوي للمرادف الإنجليزي"Deceptio"، بينما تشير تصورات أخرى -تتبنى المعنى العملي والفني- إلى تضمنه لممارسات أشمل تنطوي على توظيف الحقائق ضمن أدوات أخرى لنسج واقع أو صورة محددة، حيث يقوم الخداع -كما يعرفه بعض خبراء علوم الأمن- على أربعة مبادئ أساسية وهي: الحقيقة، والتعمية، والتمويه، والتضليل. وتعتمد المبادئ الثلاثة الأولى على عرض معلومات حقيقية بشكل معين يحول دون تكوين الخصم لتصورات دقيقة، في حين يخدم المبدأ الأخير (التضليل) هدف توجيه الخصم إلى بديل أكثر جاذبية.
فمثلا تضخيم حقيقة معينة والترويج لها بشكل مكثف يساهم في إسقاط حقائق أخرى من الاعتبار ما يعزز صورة خاطئة للواقع، وهو ما يلخصه كبير محللي سي آي إيه الأسبق (1970-1984م) ومؤلف مجموعة كتب في علوم الأمن والاستخبارات، روبر م. كلارك، حيث يجادل بأنَّ "كل أنواع الخداع تعمل في إطار ما هو حقيقي، فالحقائق تضع اللبنة الأولى للتصورات والمعتقدات؛ ثم تُوظف تلك الحقائق لخداع الخصم".[3]
لكن ممارسة الخداع خصوصا في السياق الاستراتيجي كثيرا ما يتطلب إقحام الدبلوماسية والاتصال السياسي كقنوات لبث الرسائل ونسج الوهم، ويشير التعريف الساخر للدبلوماسي الإنجليزي هنري ووتن للسفير أو الدبلوماسي باعتباره "رجل صادق يرسل للخارج ليمارس الكذب لصالح دولته" إلى تأصل المفهوم والممارسة في العلاقات الدولية والتفكير الغربي.
تتميز طبيعة العمل الدبلوماسي بحساسية عالية تجاه التصريحات والمعلومات المتناقلة، وذلك لأنَّ أسس العلاقة في المجال السياسي وحقل العلاقات الدبلوماسية لا تقوم على الخداع وإنما على "المصداقية والثقة"، ما يجعل من ممارسة الخداع مهمة خطيرة وحرجة لما لها من تداعيات مباشرة على سمعة الدولة وعلاقتها الخارجية؛ ليس بالطرف الممارس عليه الخداع فقط، وإنما مع الأطراف الدولية الأخرى، وهو ما يحد من نطاق تطبيق المفهوم في هذا المجال ويميز طريقة تنفيذه عن المجالات الأخرى التي تتسم بسرية أكبر، كما يضفي عليه طبيعة نوعية، إذ غالبا لا يُمارس الخداع إلا في سياق استراتيجي أو في بيئات ذات طبيعة عدائية. وبالرّغم من ذلك مارست الولايات المتحدّة الأمريكيّة الخداع بالدّبلوماسي مع الجهورية الإسلاميّة الإيرانيّة، في مفاوضاتها الأخيرة 2025م، وهو ما دفع نخبا سياسيّة في أمريكا وغيرها من الدّول باعتبار أمريكا طرفا غير موثوق دوليّا، بسبب استخدامها الخداع في دبلوماسيّتها الدوليّة.[4]
ويمكننا ذكر كثير من النماذج التّطبيقيّة بعد طوفان الأقصى حول الخداع الاستراتيجي وأهمها:
1- من خلال تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي كانت تعطي إشارات إيجابية للطّرف المقابل، وترفع بذلك سقف توقّعات المُفاوِض الآخر حول نتيجة المفاوضات، وتدفعه لمنطقة الرّاحة السيّاسيّة في تقييم الوضع مع الطرف الآخر المُفاوِض، وتبقيه خارج احتمالات الحاجة إلـى التّأهّب العسكري، كما حدث بين أمريكا وإيران في المفاوضات، حيث تأرجح الموقف الأمريكي بين مدّ وجزر، فتارة ترتفع التّوقعات بإمكانيّة توقيع اتفاق قريب حول الملف النّووي، وتارة أخرى تتراجع الاحتمالات كثيرا حول إمكانية التّوصّل لهذا لاتفاق، وتصبح المسافة بعيدة.
وقبل موعد انعقاد المفاوضات الأخير يوم الأحد الموافق 15 حزيران/ يونيو 2025م، سرّب البيت الأبيض عن وجود خلافات بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو تتعلق بطبيعة المفاوضات مع إيران، فأعطت هذه التّصريحات إيحاءات لإيران بوجود خلاف فعلي مردّه المفاوضات بينها وبين أمريكا. وهذا لا ينفي عدم قراءة إيران الحذرة للتّصريحات، إلا أن طبيعة التّصريحات، وتوقيتها، إضافة إلى السيّاق التاريخي للسّلوك الأمريكي مع إيران، قد يكون دفعها مبدئيّا لاستبعاد الخيار العسكري من قبل إسرائيل، باعتبار أن هناك خلافا حول مطلب نتنياهو للقيام بعمل عسكري ضد إيران، وأنه كان يلح على أمريكا لإعطائه الضّوء الأخضر، بل ومشاركة أمريكا في الحرب مع إسرائيل لضرب مفاعلات إيران النوويّة، لأن أمريكا هي من تملك القذائف الخارقة للتّحصينات، وكان نتنياهو يحاول بشتّى السّبل لاستدراج أمريكا إلى حرب عسكرية ضد إيران لضرب مفاعلاتها النّوويّة. لكن إيران ونتيجة التصريحات الأمريكية حول وجود خلاف بين نتنياهو ودونالد ترامب قد تكون استبعدت الخيار العسكري.
واستخدام أمريكا للقوّة النّاعمة، وسلاح المفاوضات والدّبلوماسيّة الخدّاعة، دفع لانخفاض مستوى توقّعات إيران بوقوع الحرب، ثم فاجأ الكيان الصّهيوني إيران بضربة مباغتة في فجر يوم الجمعة 13 حزيران/ يونيو 2025م، أي قبل انعقاد المفاوضات بين أمريكا وإيران بيومين، وصرّح ترامب أنه أعطى مدّة 60 يوما للتوَصّل لاتفاق، وأن هذا اليوم الذي اندلعت فيه الحرب علـى إيران هو اليوم الواحد والسّتون، وأنه يقول ولا يتراجع عن كلامه، ثم صرّح دونالد ترامب خلال الحرب، بأنهم استخدموا الخديعة من خلال تسريب تصريحات تفيد بوجود خلاف بين ترامب ونتنياهو لخداع إيران، ثم مباغتتها بالحرب.
2- تأخير ضربة إيران للكيان الصّهيوني الانتقاميّة لاغتيال رئيس المكتب السّياسي لحركة إسماعيل هنيّة على أرضها، هذا التّأخير أيضا جاء تحت تأثير الخداع الأمريكي والمماطلة الأمريكيّة، التي عطلت مفاعيل الرّد بحجة قرب التّوصل لاتفاق بين حماس والكيان الصهيوني لوقف الحرب، وتبادل الأسرى، وهو ما جعل إيران تتريّث حتى لا تفوّت الفرصة على حماس، ولأنها تهدف من هذه الضّربة الضّغط لوقف الحرب على غزة، فإن كانت ستتوقّف الحرب دون الحاجة للرّد الإيراني، فلن تقف إيران حجر عثرة في طريق ذلك، ومارست أيضا أمريكا في هذا الوقت خداعا استراتيجيّا، عطّلت فيه ردّة الفعل الإيرانيّة لخدمة الصهّاينة وحمايتهم.
3- أما لبنان فقد تعَرّض لخديعة كبرى نتجت عنها خسائر فادحة، حيث توصّلت أمريكا مع لبنان لعمل اتفاق لوقف حرب مساندة غزة التي قامت بها المقاومة في لبنان لدعم غزة في حرب طوفان الأقصى، حيث اتفق بنيامين نتنياهو مع الولايات المتحدة على وقف إطلاق نار مؤقت في لبنان إبان حرب المساندة لمدة 21 يوما، وأُبلغت الحكومة اللّبنانيّة بالاتفاق، ووافق عليه الأمين العام لحزب الله، السّيد حسن نصر الله، على أن يتم الإعلان عن الاتفاق وتفاصيله بعد عودة نتنياهو من الأمم المتحدة، إلا أن نتنياهو استبق هذا الإعلان بضوء أخضر أمريكي بإعطاء الأمر من مبنى الأمم المتحدة باغتيال السيد حسن نصر الله في يوم الجمعة، عند الساعة السادسة مساء 27 أيلول/ سبتمبر 2024م، وأشرف نتنياهو بنفسه على عملية الاغتيال من ذات المبنى وبحضور قيادات أمريكية، وأنجزت عمليّة الاغتيال بعد أن تم قصف الموقع المتواجد فيه السيد حسن نصر الله بما يقارب ثمانين طنّا من المتفجرّات، ثم شُنّت حرب على لبنان بعد ذلك.
وكانت هذه بمثابة خديعة تكتيكية بأدوات ناعمة سياسيّة مثل عقد اتفاقيّات وهدنة، تجعل الطّرف المخدوع يخفف من حذره، ثم يقوم الطّرف الآخر باللجوء مباشرة إلى القوّة الصّلبة لتحقيق خطّته العسكريّة، والانقضاض على الطرف الآخر. وما زالت اليوم تبعات عملية الهدنة التي أقرت لوقف الأعمال العدائية في لبنان تتوالى، إذ إن ما عجز الصهيوني عن تحقيقه بالحرب، يخوض اليوم معركة تحقيقه بالدبلوماسية، إلا أن الدبلوماسية هي مجرد محاولة تمهيدية لحرب المفاجآت التي أقرها الكيان الصهيوني، والتي يسمح من خلالها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمناورات دبلوماسية ناعمة علّها تحدث خرقا في جدار الرفض اللبناني الهش، فتحقق المطالب الصلبة الصهيونية المتمثلة في منطقة عازلة اقتصادية على حدود لبنان وفلسطين المحتلة، ومنطقة منزوعة السّلاح في جنوب الليطاني، وأما شمال نهر الليطاني فوجود الجيش اللبناني بأسلحة خفيفة ليس للدفاع عن لبنان بل لحماية الكيان الصهيوني، وقبل كل هذه الشروط نزع سلاح المقاومة في لبنان.
4- أما غزة فإن الاتفاقية بعنوان السلام ووقف الحرب ما هي إلا توسيع مساحة الاحتلال داخل غزة، وتحويل غزة إلى منطقة غير قابلة للحياة لإجبار أهلها على مغادرتها، ومن ثم البدء بمشروع دونالد ترامب الاقتصادي.
ويبقى السؤال المهم:
هل ستنجح استراتيجية أمريكا في الخداع الاستراتيجي أمام صمود المقاومة، وصمود حواضنها الرافضة لأي تسويات لا ترتقي إلى مستوى التضحيات؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.
__________
[1] هو مصطلح يشير إلى مزيج من استراتيجيّات القوة الصّلبة واستراتيجيّات القوّة النّاعمة. ويعرّفه مركز الدّراسات الاستراتيجيّة والدّوليّة بأنه " منهج يؤكد ضرورة وجود جيش قوي، لكنّه يستثمر بكثافة في أيضا في التحالفات والشراكات والمؤسسات من جميع المستويات، لتوسيع نفوذ الأطراف وإثبات شرعيّة فعلها".
[2] Crocker, Chester A؛ Hampson, Fen Osler؛ Aall, Pamela R. (2007). Leashing the Dogs of War: Conflict Management in a Divided World. US Institute of Peace Press. ص. 13. ISBN:978-1-929223-97-8. مؤرشف من الأصل في 2016-06-03.
[3] Deception: counter deception and counterintelligence, William L. Mitchell, Robert Clark
[4] December 1941: 31 Days that Changed America and Saved the World, CRAIG SHIRLEY (بتصرّف).