مكتبات بيوت غزة.. حكاية الوجع المؤجل
تاريخ النشر: 3rd, January 2024 GMT
ترك الغزيون النازحون من الشمال إلى الجنوب في غزة، كل شيء، البيوت والأرض والشجر، والمكتبات وأخذوا معهم فقط نقودهم إذا وجدت و جوازات السفر والأغراض الشخصية وبعض الملابس والحرامات والفرشات، والذكريات، نزح الآلاف من هؤلاء إلى جنوب غزة بحثا عن فرصة للنجاة من الموت الذي يسقط فوق رؤوسهم دون تمييز، من طيار حاقد يريد أن يمحو غزة كاملة ببشرها وشجرها وحجرها.
في الجنوب الغزي غير الآمن أيضا من قصف الطائرات، تحديدا مدينة رفح، يعيش الآن مليون ونصف مليون شخص في مساحة تتسع فقط لبضعة آلاف، لا شيء معهم سوى خيمة رقيقة لا تتحمل عواصف الشتاء.
ما الذي يشعر به الكاتب الغزي وهو يترك مكتبة ضخمة جمعها بحبات العيون على مدى سنوات؟ هذه المكتبة مرتبطة بذكريات عديدة حلوة، منها زيارات الأدباء لمعارض الكتب في فلسطين والعالم العربي، وشراؤهم الكتب من هناك أو تلقيهم الكتب كهدايا، من أصدقائهم الأدباء، أمسيات توقيع الكتب لشعراء من غزة وفلسطين، إعارة الكتاب لآخرين أصدقاء، والمعارك الحلوة البريئة حول إعادة الكتاب، جهود ترتيب المكتبة والزهو بها أمام الأصحاب.
سيبدو أنه أمر فيه من الرفاهية الكثير ونحن نطلب من الأدباء والفنانين في غزة الذين نزحوا من الشمال أن يكتبوا في حمى الجثث وأنقاض البيوت والبرد عن حنينهم وهواجسهم تجاه مكتباتهم التي أفنوا العمر وهم يجمعونها. هذه شهادات عدد من شعراء وفناني غزة ممن وجدوا فسحة للحديث عن مكتباتهم:
ناصر رباح
رفض الشاعر ناصر رباح مغادرة بيته في مخيم المغازي، وسط غزة وفي الحي الذي يسكنه بالمخيم لم يبق أحد سواه، يكتب لنا ناصر تحت وأصوات القصف قربه لا تمنعه من التفكير في أمر يمكن تأجيله:
(حين بدأت في تكوين المكتبة، اتفقت مع صديقي النجار لنبدأ العمل، كنت فكرت في تصميمها كثيرًا ليكون لها شكل وترتيب مختلف يناسبني، فكرت في ذلك طويلًا، وذات مرة وأنا أصلي خطر لي شكل ما للتصميم، ونفذته تمامًا كما خطر لي في الصلاة، ومن يومها اعتبرتها مكتبة لها نوع من القداسة أو على الأقل لها كثير من الحظوة والاحترام. في جلستي هناك جاورني شباك يطل على مشهد لبساتين الزيتون والنخيل ويمتد حتى الأفق حيث حاورتني العصافير والغربان وحمام الجيران، من المكتبة نفسها كنت أطل على العالم كله، من كتب اورويل الانجليزي وكاواباتا الياباني وماركيز الكولومبي. هناك تشاجرت مع درويش وكنفاني وتقاسمت الشاي مع إبراهيم نصر الله وزكريا محمد وحسين البرغوثي. في الليل الطويل تتسلل من فضاء البساتين فراشات الحقول، يجذبها ضوء المكتبة، تدور وتدور وتقف فراشة على حافة كتاب ما، وكأنها تومئ لي أن أقرأه، لم أكن أخيب ظنها وأتواصل مع تلك الإشارات الخفية للغيب وتسري في روحي رعشة المعرفة، مرت مكتبتي بعدة حروب واجتياحات ونجت مثلي، فكنت أدللها بعد كل حرب بمزيد من الكتب، نعم لم يجرحها القصف مثلي، ولكنه مرة بعد مرة كان يغمرها بغلالة من الحزن والغبار، تمامًا كما غمس روحي في دوامة من القلق والهذيان، المكتبة روح البيت، حارسة الليل، صديقة السهر والعزلة، تبكي الآن بين يدي وأنا أقف أمامها مودعًا، أفكر في الخروج من البيت إلى مكان أكثر أمنًا حيث سأتركها وحدها تحدق بعيونها الدامعة نحو شباك يطل على أفق الدبابات).
مريم قواش
بينما تعبر الشاعرة مريم قواش عن حسرتها على مصير المكتبة وهي تغادر بيتها نحو الجنوب:
(ينادي عليَّ أبي: يلا يا مريم، يلا يا بابا بدنا نمشي!..
: يلا يلا.. هيني جاي
أقف في غرفة المكتبة، أتفرج على الرفوف رفًا رفًا، في كل زاويةٍ كانت حياة، أتأمل الرفوف: موسوعات تاريخية، كتب أدبية، دواوين شعر، روايات، كتب انجليزية، وثقافة عامة، وهنا قلبي! لا يهون عليَّ أن أغادر، لا يهون عليَّ أن أُنتزَع من هنا، أتأمل مكتبتي. كتبي، كتب أصدقائي، مكتبة جدي، هل سنترك مكتبة جدي وحدها يا أبي؟ هل سأترك كتبي هنا يا أبي؟ سيلسعها البرد والخوف والقلق والشوق، هي مثلنا يا أبي تشتاق ليد قارئها وكاتبها، ستشتاق لي كتبي يا أبي، صدقني ستشتاق!
أحمل الكتب التي سهرت معي في ليالي الشتاء الطويلة، وتلك التي باتت شهورًا تحت وسادتي، وتلك التي شاطرتني شرودي الطويل، وتلك التي كتبت عليها ذكرياتٍ لا تنتهي، وتلك التي سرقتني ونقلتني لعالم آخر، وتلك التي سرقتها من بيتنا وأعرتها لأصدقائي وأعدتها قبل أن ينتبه أبي، يا الله قلبي هنا يارب!
ينادي أبي عليَّ مجددًا: يا بنتي يلا! القصف بيشتد!
لم أدرِ كيف خطفَتْ يدي كتاب جدي عن رحلته من البلد للمنفى، لقد كتبه بيده على فانوس الكاز في ليل المخيم! أجل أريد أن أكمله! أريد أن أكمل سيرة المنفى).
طلال أبو شاويش
وفي مشهد سردي درامي حزين يصف الروائي طلال أبو شاويش إحساسه الفجائعي وهو يكاد يسمع صراخ أغلفة كتبه في طريقه إلى الجنوب:
(وأنا أحزم ما خف حمله وتضاعفت أهميته خلال هذا العدوان، ولدى مغادرة البيت...تسمرت أمام مكتبتي الحبيبة....يا الله! يا أبنائي وبناتي الفوضويين العابثين المتراكضين على مساحات خشبية ضئيلة! كيف أفهم هذه اللحظة المكثفة؟ أن أهرب مذعورا تاركا خلفي أبنائي...وحيدين مهددين بالتمزق أو الحرق دون أية حماية.. هؤلاء الذين احتضنتهم منذ أنجبتهم؟ وداروا بين بيوت أصدقائي وأحبائي وزملائي وجيراني، وفي كل بيت خطوا قصة، ومع كل إنسان صنعوا حكاية...يا لقبح هذا العالم!
حتى كتبنا سيطالها العدوان والتشوه والحرق!
حاولت اصطحاب بعضها في رحلة النزوح لكنها رفضت...صرخت كل كتبي باحتجاج:
أرحل أني شئت أما نحن فسنبقى...نحن لا ننزح...لا نهاجر....لا نموت...سنبقى هنا في البيت...في المخيم لنحرسه و نحميه...خذ أطفالك...خذ أمك وأباك وجدك وجدتك...خذ كل شيء ولكن اتركنا هنا...الأغلفة تبكي وصفحات الإهداء تبدو حزينة ولكنها مصرة على البقاء...غادرتهم وحاولت في طريق هروبي استذكار أية قصة أو حكاية أو مغامرة تخصهم لكني فشلت...ضجيج القصف والمركبات و الناس والأطفال يفقدني تركيزي تماما...آخر غلاف رايته مرتسما أمامي وهو مقلوب على المكتب كان غلاف رواية عالم بلا خرائط).
علي أبوياسين
المسرحي الكبير علي أبو ياسين الذي يعيش الآن في خيمة بالجنوب مع عائلته الكبيرة يكتب رسالة إلى مكتبته معتذرا عن أخطاء شهادته المطبعية بسبب التوتر والخوف والبرد، وطالبا من المكتبة أن تطعمهم نفسها للجوعى والبردانين من عائلات غزة المشردة:
(إلى مكتبتي الحبيبة: أرجوكِ أن تسامحيني إذا غبت عنك مجبرًا شهور الحرب، فأنت خير من يعلم، وليو تولستوي يقبع بداخلك برائعته (الحرب والسلام) وفيها معنى الحرب وويلاتها، كيف لا وقد راجعنا مرارًا وتكرارًا مسرحية الأم شجاعة وأولادها التي قررت يومًا أن أخرجها مسرحيا، لا أخاف عليك يا مكتبتي من أهوال الحرب فقد بت تملكين شجاعة استبسال الأم في الدفاع عن أبنائها، مكتبتي الحبيبة: تعلمين أن الكهرباء مقطوعه عن أهلي ولا يوجد أي نوع من المحروقات عند الناس لتطهو الطعام وتخبز خبزها، أعلم أن الناس تبحث عن قطعة خشب أو ورقة كرتون كالباحث عن إبرة في كومة قش. أرجوك أن تسمحي للناس بأخذ ما يشاؤون من الكتب إذا كانت سوف تنقذ حياتهم ليطعموا أطفالهم، أعلم أن أصدقائي الكتاب وهبوا أنفسهم من أجل الآخرين. فأصدقائي تشيخوف والبير كامو وجان بول سارتر وجان جينيه وشكسبير ومحمود ودرويش وسميح القاسم وغنام غنام والفريد فرج وعاطف أبو سيف والماغوط وسعدالله ونوس وستانسلافسكي واوغستبوال وكل العظماء القابعين فوق رفوفك يسعدهم أن يكونوا شموعًا تحترق من أجل إسعاد الآخرين).
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: وتلک التی
إقرأ أيضاً:
منخفض القطارة الأخضر.. حكاية حلم راود المصريين قرنا من الزمان
"منخفض القطارة" المشروع الذي ظل حلمًا يراود المصريين لأكثر من قرن من الزمان، عاد للظهور من جديد، وقد جاء الظهور هذه المرة على يد 35 عالمًا وخبيرًا مصريًّا من كل التخصصات عملوا لمدة عام كامل، وخرجوا في النهاية برؤية مقترحة جديدة تخص مشروع المنخفض تختلف كليًّا عن المشروع القديم، وأطلقوا عليه اسم "مشروع منخفض القطارة الأخضر".
مقترح المشروع الجديد كان محور ندوة شارك فيها المهندس طارق النبراوي، نقيب مهندسي مصر، والدكتور المهندس عصام شرف، رئيس الوزراء الأسبق، والدكتور المهندس كمال شاروبيم، محافظ الدقهلية الأسبق.
الندوة نظمتها اللجنة العلمية بالنقابة العامة للمهندسين، وشارك فيها خبراء في الهندسة والاقتصاد والزراعة.
منخفض القطارة الأخضروأكد المهندس طارق النبراوي، أن الندوة تُعد لقاءً علميًّا على أعلى مستوى، بما تضمه من علماء وخبراء، وبما تطرحه من فكرة ومقترح جديد لمشروع متميز وتاريخي، ظل حلمًا يراود المصريين لأكثر من قرن من الزمان.
وقال النبراوي، إن الفكرة الجديدة لمشروع منخفض القطارة، إذا تم التوافق عليها ستكون مشروعًا عملاقًا يضاف لقائمة المشروعات العملاقة التي تشهدها مصر حاليًا، ونفتخر بها، مؤكدا أن "نقابة المهندسين جاهزة لتقديم كل ما يمكن تقديمه لإنجاز هذا المقترح، بما تملكه من عقول وخبرات هندسية كبيرة".
وفي كلمته، أوضح الدكتور رضا عبد السلام، الأستاذ بكلية الحقوق جامعة المنصورة، وأحد قيادات الفريق البحثي الذي وضع المشروع الجديد لمنخفض القطارة، أن المشروع الجديد يتلافى كل الانتقادات التي تم توجيهها للمشروع القديم، كما أنه ليس فقط مشروعًا لتوليد الطاقة من المساقط المائية بالمنخفض، ولكنه مشروع حضاري يبدأ من ساحل البحر المتوسط ويمتد حتى نهاية منخفض القطارة، ويُحوِّل المنخفض إلى كنز وثروة وطنية في كل مناحي الحياة.
يوفر المشروع، بحسب الأستاذ بكلية الحقوق، 5 ملايين فدان زراعية، ويتيح مجتمعًا عمرانيًّا جديدًا يستوعب 20 مليون نسمة، ويضم مشروعات سياحية واستثمارية، ومشروعات طاقة متجددة، وكلها مشروعات خضراء تتوافق تمامًا مع البيئة الخضراء.
وأشار "عبد السلام" إلى أن مقترح المشروع الجديد نتاج عمل 35 عالمًا من كل التخصصات، أجروا لمدة عام كامل، دراسات وأبحاث جيولوجية وبيئية وزراعية وفي مجالات الطاقة والتخطيط العمراني، وغيرها، وانتهت إلى وضع هذا المشروع الذي نقدمه للدولة المصرية، ليكون مشروعًا قوميًّا يحقق نقلة حياتية هائلة للمصريين وقفزة اقتصادية غير مسبوقة.
وقال الدكتور حمدي العوضي، أستاذ العلوم البيئية، إن "المشروع الجديد بمثابة عودة الروح لمنطقة منخفض القطارة وإحياء لجزء أصيل من أرض مصر بالصحراء الغربية".
فيما أكد الدكتور عبد الفتاح الشيخ، الأستاذ بمركز بحوث الصحراء، أن المشروع الجديد لن يكون له أي تأثير سلبي على المياه الجوفية في الصحراء الغربية.
وقال الدكتور حمدي الغيطاني، أستاذ الطاقة بالمركز القومي للبحوث، إن المشروع سيوفر طاقة جديدة ومتجددة تكفي إقامة مجتمع متكامل من البحر المتوسط وحتى عمق 60 كيلو في قلب الصحراء الغربية، كما سيضمن نظام تحلية مياه أخضر صديق للبيئة، وبلا أي مخلفات.
وأكد الدكتور زكريا الحداد، أن المشروع الجديد سيوفر مساحات زراعية تمكِّن مصر من تحقيق الاكتفاء الذاتي من كل المحاصيل الزراعية والزيوت، كما يمكنها أيضًا من تحقيق الاكتفاء الذاتي من اللحوم والأسماك، كما يمكن تصدير كل منتجاته الزراعية والحيوانية، لأنها تتوافق مع أفضل المعايير العالمية.
واستعرض الدكتور الخطيب يسري جعفر، الأستاذ بالمركز القومي للبحوث، إمكانات الاستزراع المائي في المشروع، وعلى رأسها الاستزراع السمكي والقشريات، فضلًا عن زراعة غابات المنجروف، مؤكدًا أنه يمكن استغلال بِرَك المياه المالحة في بناء هياكل عمرانية مستدامة.
وأوضح الدكتور أشرف عمران، الخبير الزراعي، أنه سيتم التحكم في كمية المياه التي يتم إدخالها إلى المنخفض، بحيث يتم استخدامها جميعًا في التحلية، وتوليد الطاقة، والباقي سيتم تبخيره، وبالتالي لن يرفع منسوب المياه في البحيرة.
وأشار إلى أن المشروع يضم إنشاء مدينة طبية عطرية، ومدينة لإنتاج الأسماك ومدينة للؤلؤ، ومدينة للمحاريات ومدينة لإنتاج عسل النحل باستغلال غابات المنجروف، إضافة إلى زراعة ما تحتاجه مصر لإنتاج الأعلاف والمحاصيل الغذائية.
فيما استعرض الدكتور المهندس إيهاب وجيه، أستاذ العمارة بالجامعة المصرية اليابانية، التصميم العمراني للمدن الذكية التي يشملها المشروع، مؤكدًا أنها جميعًا مدن ذكية، وتُمثل الجيل الخامس من المدن وتعتمد على التكنولوجيا المتقدمة والموارد المحلية.