سودانايل:
2025-07-03@17:20:47 GMT

معايير النقد الأدبي عند قدماء العرب

تاريخ النشر: 5th, January 2024 GMT

بسم الله الرحمن الرحيم
إن الشعر العذب الذي يبعث المسرة في النفوس، ويحدث النشوة في المشاعر، لا يبرأ من النقد رغم متانته وإحكام صنعته لأن النقد يبتغي النضج وينشد الكمال، فالناقد الذي يدفع عن الشاعر معرّة الابتذال وعن شعره نقيصة الإسفاف أو التكلف يجلو الأفهام ويزكي القلوب ويبصر الناس بالمحاسن والعيوب التي حفل بها القريض.

والنقد الذي يدمغ باطل الشعر بالحق ويدحض مراءه بالمنطق مرّ بعدة مراحل قبل أن يهذبه العلم ويصقله التمدن. ولعل الحقيقة التي لا يغالي فيها أحد أنّ الأدباء والكُتّاب على مرّ العصور قد استقرّ رأيهم على أن النقد كان في بدايته قوامه الذوق الفطري فالجاهلي المتمكن من ناصية اللغة والذي ينداح في كل ضرب ويستفيض في كل حديث يستطيع أن يمحص بقريحته الجياشة مواطن الضعف والقوة ثم يصدر حكمه من غير حزازة أو اعتساف، ومن أهم المظاهر التي تبرهن أن الجاهليين أصلحوا ما فسد من خطل الشعراء وسددوا ما إعوج من نظام الأدباء القصص المترعة بالجمال التي نقلتها إلينا أمهات الكتب والتي تدل على قوة الطبع، وجلاء الذهن، وحدة البادرة.
لقد أخبرتنا تلك الكتب التي لا تخلق ديباجتها أو يخبو بريقها عن تلك المجالس النقدية التي لا تحول عن أدائها عقبة، ولا يسوغ في تركها معذرة، والتي كان يعقدها الشعراء في الأسواق الأدبية كسوق عكاظ، وفي غير الأسواق الأدبية مثل تلاقي جهابذة الشعر بأفنية الملول في الحيرة وغسان، والباعث على ذلك هو الاستماع والتحاور وإصدار الأحكام، من ذلك ما نجده عند النابغة صاحب السمت الرزين والمنطق المتئد في سوق عكاظ فقد كانت «تضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، فأول من أنشده الأعشى ميمون بن قيس أبو بصير، ثم أنشده حسان بن ثابت الأنصاري:

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى *** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما.

ولدنا بني العنقاء وابني محرّق *** فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما.

فقال له النابغة: أنت شاعر، ولكنك ما صنعت شيئاً، أقللت جفانك وأسيافك، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. لأنه قال: ولدنا بنى العنقاء وابنى محرق، فترك الفخر بآبائه، وفخر بمن ولد نساؤه. ويروى أن النابغة قال له: أقللت أسيافك ولمّعت جفانك يريد قوله: «لنا الجفنات الغر» والغرة لمعة بياض فى الجفنة، فكأن النابغة عاب هذه الجفان وذهب إلى أنه لو قال: لنا الجفنات البيض فجعلها بيضاً كان أحسن».

ويقال بأن تماضر الخنساء صاحبة القصائد الجياد والتي يتدفق شعرها رقة وسلاسة حضرت إلى مجلس النابغة حائلة اللون، كاسفة البال، ترثي أخاها صخراً الذي أضمرته الأرض وطوته الغبراء، فأنشدت قصيدتها: «قذى بعنيك أم بالعين عوار«، حتى وصلت إلى قولها:

وإن ضخراً لتأتم الهداةُ به *** كأنه علم فى رأسه نار.

وإن صخراً لكافينا وسيدنا *** وإن صخراً إذا نشتو لنحّار.

فقال النابغة بعد أن استمع لقصيدتها التي تستدر العيون وتذيب شغاف الأفئدة: لولا أنّ أبا بصير أنشدني قبلك لقلت إنك أشعر الناس، فلم يرق ذلك لحسان رضي الله عنه فقال: أنا أشعر منك ومنها.. فقال النابغة: حيث تقول؟ قال: حيث أقول: «لنا الجفنات يلمعن بالضحى....« فيقر له النابغة بالشاعرية ثم يصدر حكمه الذي أصاب شاكلة الصواب.

ونجد أن الناقد الراحل الأستاذ طه أحمد إبراهيم يطعن في صحة هذه الرواية من عدة وجوه:

1- فالجاهلي «لم يكن يعرف جمع التصحيح وجمع التكسير، وجموع الكثرة وجموع القلة، ولم يكن له ذهن علمي يفرق بين الأشياء كما فرّق بينها ذهن الخليل وسيبويه، ومثل هذا النقد لا يصدر إلا عن رجل عرف مصطلحات العلوم، وعرف الفروق البعيدة بين دلالة الألفاظ، وألمّ بشيء من المنطق.

2- لو أن هذه الروح كانت سائدة في الجاهلية لوجدنا أثرها في عصر البعثة يوم تحدى القرآن العرب وأفحهم إفحامًا، فقد لجأوا إلى الطعن عليه طعناً عاماً، فقالوا سحر مفترى، وقالوا أساطير الأولين. ولو أن لديهم تلك الروح البيانية لكان من المنتظر أن ينقدوا القرآن على نحوها، وأن يفزعوا إليها في تلك الخصومة العنيفة التي ظلت نيفاً وعشرين عاماً. هذا إلى أن تلك الروح فى النقد لا أثر لها في العصر الإسلامي لا عند الأدباء ولا عند متقدمي النحويين واللغويين.

3- كما أن هناك من نحاة القرن الرابع من لم يطمئن إلى ما سبق؛ فأبو الفتح عثمان بن جني يحكي عن أبي علي الفارسي أنه طعن في صحة هذه الحكاية. فهذه الزيادات لا تثبت للروح العلمية، ولا للتاريخ. وبعيدة كل البعد أن توجد ملكة الفكر في النقد الجاهلي، وأن توجد على هذا النحو الدقيق الذي يحلل، ويوازن ويفرق بين الصيغ تفريقاً علمياً.

ويرى الأستاذ طه أن هذا النقد وجد في أواخر القرن الثالث بعد أن دونت العلوم ودرس المنطق وعرف شيء من رسوم البلاغة، وتعرض البلاغيون للكلام على الغلو في المعاني والاقتصاد فيها. ولذلك نجد قدامة بن جعفر أسبق المؤلفين لذكر شيء من القصة السابقة فى كتابه نقد الشعر».

وأحسب أن ما ذهب إليه الأستاذ طه أحمد إبراهيم افتئات على الحقائق وتعدياً على سيرة الجاهليين فكلامه معتسف عن جادة الصواب، وبعيد عن مرمى السداد، لأن الجاهليين نشأوا في مهد الفصاحة، ودرجوا في فنائها الرحب، وعاشوا في مرعاها الخصب، فالبدوي الذي تنزه كلامه عن شوائب اللبس، وخلص من أكدار الشبهات، كان يدرك بسليقته الخطأ الذي تمجه الأسماع، واللحن الذي تستك منه الآذان، نعم لقد كان يدرك بفطرته التي لم تكن ضعيفة المغمز، ولا هشة الحشاشة جمع التصحيح وجمع التكسير، وجموع الكثرة وجموع القلة، دون الحاجة لذهن علمي يفرق بين الأشياء، ودون الحاجة لتسميتها ونعتها بتلك النعوت التي دعا إليها تفشي الدخيل في اللسان العربي وظهور آصار العجمة التي استشرت في شبه جزيرة العرب نسبة لأقوام خلعوا عِذَار الكفر، واستشعروا الخوف من الله ودخلوا فى دينه الخاتم أفواجا، وما لا يندّ عن ذهن أو يغيب عن خاطر أن الخليل وسيبويه وغيرهما من فطاحلة اللغة والأدب عاشوا كلاً على القدماء الذين ذللوا سُبُل البلاغة، ومهدوا مذاهب الخطابة وكانت لهم قدرة مذهلة على تطويع اللغة وابتكار المعاني ونظم اللآلى والعقود، الأمر الذي دعا أصحاب العقل الراجح، والفكر القادح، كالخليل وسيبويه يتكاكأون حول تركة القدماء بالدراسة والتحصيل ليستخرجوا تلك الفروق الدقيقة بين الألفاظ ليسدوا بها عوز أجيال تفتقر إلى الفصاحة وتعاني من ضعف الإدراك وضمور المعرفة باللغة، فالنحوي الثبت سيبويه الذي يُرْجع إليه في المُشكلات، و يُسْتْصبح بضوئه في المعضلات، هو في حقيقة الأمر من المولدين الذين «كان بهم قصور فى الطبع واللغة اضطروا بسببه إلى التعلم، والوقوف على الوسائل التي تؤدي بهم إلى صنعة الكلام الجيد الذي يوازي كلام السابقين، ولقد سعت تلك الطائفة لتتبع نماذج الخطابة والشعر والأمثال القديمة ليستخرجوا منها القواعد والمقاييس ثم يضعوها بعد ذلك أمام ناشئة الكتاب ليحتذوا حذوها».

والعرب الأقحاح الذين اشتهروا بدقة الفهم، وشدة الحجاج، وبُعد النظر، وقفوا مبهوتين أمام معجزة الله الخالدة بل وأقروا في خنوع واستسلام بأنه: «كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه». فإذا عجز أساطين البلاغة وملوك البيان الذين انبروا في حملات محمومة تشكك في صحة القرآن فإن سواهم أعجز، ولا يعدم المرء منا حجة للاعتقاد بأن المتأخرين الذين لا ينطقون إلا عن علم، ولا يقولون إلا عن دراية، والذين ثقفوا علوم الكلام، وحذقوا أصول المنطق، استشعروا اليأس من النيل من ذلك الكتاب المحكم النسج، الدقيق السبك، الجزل
العبارة، المتناسق الأجزاء، والذى يأخذ بعضه برقاب بعض، وأدركوا أنهم يرومون أمراً دونه خرط
القتاد.
د.الطيب النقر

nagar_88@yahoo.com
/////////////////////  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

اليوم.. طلاب الأدبي بالثانوية الأزهرية يؤدون امتحان مادة التوحيد

امتحان التوحيد للثانوية الأزهرية 2025.. بدأت المعاهد الأزهرية في عقد امتحان التوحيد للثانوية الأزهرية 2025 لطلاب الشعبة الأدبية على مستوى محافظات الجمهورية، وذلك وسط إجراءات أمنية مشددة.

انطلاق امتحان التوحيد للثانوية الأزهرية 2025

ويؤدي طلاب الثانوية الأزهرية بالشعبة الأدبية في كافة المحافظات، امتحان التوحيد من الساعة التاسعة صباحًا وحتى الساعة الحادية عشر صباحًا، وبذلك تكون مدة أداء امتحان التوحيد ساعتين.

امتحان التوحيد للثانوية الأزهرية 2025 عدد طلاب الثانوية الأزهرية بالشعبة الأدبية

ويبلغ عدد الطلاب المتقدمين لأداء امتحانات الثانوية الأزهرية هذا العام نحو 173.808 طالبا وطالبة على مستوى الجمهورية، موزعين على 577 لجنة امتحانية، ويبلغ طلاب القسم الأدبي 100714 البنين 60147 طالبا، والفتيات 40567 طالبة.

محظورات امتحانات الثانوية الأزهرية 2025

- يحظر على الطلاب اصطحاب التليفون المحمول وسماعات البلوتوث أوالنظارات الحديثة.

- في حالة حيازة الهاتف المحمول، يتم تحرير محضر غش وتوقيع عقوبة الحرمان من الامتحان.

- يحظر على الطلاب إحضار كتب أو مذكرات أو أي أوراق تخص المادة في اللجنة أثناء انعقاد الامتحانات.

امتحان التوحيد للثانوية الأزهرية 2025

- ينبه على الطلاب الإجابة بالقلم ذي المداد الأزرق فقط.

- يحظر استخدام أي قلم بلون آخر عدا الرصاص في المسودات فقط.

- عدم كتابة عبارات خارج سياق الإجابة عن أسئلة امتحانات الثانوية الأزهرية 2025.

- عدم تدوين أو كتابة أي علامات في كراسات الإجابة وخاصة في الأسئلة المقالية

- يحظر على الطالب ترك بياناته فارغه بورقة الإجابة لأن ذلك يؤدي إلى رسوبه في المادة.

متى تنتهي امتحانات الثانوية الأزهرية 2025؟

وبحسب جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2025 للشعبة الأدبية، ينتهي الطلاب من أداء امتحانات الثانوية الأزهرية 2025، يوم الخميس الموافق 10 يوليو، وذلك في عقد مادة التفسير، والتي تبدأ من الساعة التاسعة صباحًا، وتستمر لمدة ساعتين حيث تنتهي الساعة الحادية عشر.

اقرأ أيضاًبدء توافد طلاب الثانوية العامة 2025 «النظام القديم» على اللجان الامتحانية

نموذج امتحان الأحياء الثانوية الأزهرية 2025 بنظام البوكليت

قطاع المعاهد يعلن تفاصيل امتحانات الثانوية الأزهرية 2025

مقالات مشابهة

  • انتظام امتحانات القسم الأدبي بالثانوية الأزهرية بشمال سيناء
  • إجابات امتحان الرياضيات توجيهي 2025 في فلسطين الفرع الأدبي
  • بعد موافقة مجلس النواب.. معايير تصنيف الشقق في قانون الإيجار القديم
  • خبير موارد بشرية يوضح معايير نجاح المدير الجديد مع فريق العمل
  • ٣٠/ يونيو، ليلة القبض علی جَمْرَة!!
  • منال بنت محمد: «دبي للمرأة» ترسي معايير عالية المستوى للعمل المؤسسي
  • تطبيق اندرايف يطلق معايير جديدة من الأمان لضمان سلامة السائقين والمستخدمين
  • إجابات امتحان اللغة العربية تخصص 2025 في الأردن - الأدبي
  • بـ 10 معايير.. مشروع جديد يمكّن ذوي الإعاقة من التدريب والاندماج المهني
  • اليوم.. طلاب الأدبي بالثانوية الأزهرية يؤدون امتحان مادة التوحيد