كارايكتير عمر دفع الله
تاريخ النشر: 25th, January 2024 GMT
كارايكاتير عمر دفع الله
.المصدر: صحيفة التغيير السودانية
إقرأ أيضاً:
الكوادكابتر! (قصة من وحي المعركة)
ءأنا كصحفي قررت أن أختار قصة من قصص الجوعى طالبي المساعدات الإنسانية من خلال شركة إسرائيلية، أخيرا وبعد تقليب وجوه كثيرة صبغها البؤس والشقاء بكل ألوانه، اخترت سامي السّعيد، أعرفه جيدا، من معسكر جباليا، ظريف صاحب نكتة عفوية حاضرة في كل المناسبات، يُحوّل المآسي إلى نهفات ومسرّات ويعرف كيف يصنع الضحكة في الوجوه الصخرية التي كلّستها كثرة المصائب المذهلة، عندما وصلت أخبار الشركة الأمريكية لتوزيع المساعدات على الطريقة الأمريكية، جعل من ذلك نكتة ورفضها رفضا تامّا، هنا اجتمع نفر من الجيران أمام خيمته المتهالكة وحرارة الصيف تلفح وجوههم، هتف سامي السّعيد:
- قالوا قديما أيام النخوات: تموت الحرة ولا تأكل بثديها. اليوم نموت ألف مرة ولا نأكل بهذه الطريقة المهينة.
ردّ عليه أحد أصحاب الوجوه المتجهّمة:
- يا ابن الحلال دشّرنا من الشعارات. احنا بنموت وأطفالنا نتركهم يموتون؟.
- والله إنك أفحمتني، زمان ما قالوا تموت الحرة وأطفالها ولا تأكل بثيها. آه والله هذه فاتتني. لكن إذا هالحرة خُيرت بين الموت جوعا والا الموت جوعا ورصاصا؟
صرخ آخر:
- يا أبو السعيد هونها بتهون، احنا ما بنصدّق والصبح يطلع عشان نيجي عليك، ما اتعقدها الله يرضى عليك.
- خلص ولا يهمك، روح اتفضّل على المساعدات، أحلى عرض، تنزيلات، كيس الطحين بشيكل وصفر كرامة. أمّا حضرتي فقد اخترت الموت بخيمتي. وقهوة أمّي الله يرحمها، اشتقت كثيرا لقهوتها.
كان مصرا على عدم الذهاب الى الموت هناك، ليس خشية من الموت ولكن خشية من موت ما تبقى من كرامته، أمرّ عليه كل صباح لأجده على ذات الموقف، إلى أن جاء يوم فلم أجده، قالت لي امرأته وهي مطأطئة الرأس، مكسورة العين مخنوقة الصوت، إنه قد خرج من يومين للمساعدات، وقالت:
- ايش نعمل الأولاد بدهم يموتوا من الجوع.
لم أنبس ببنت شفة، دار بي جسمي 180 درجة وقفلت وأنا أحاول قراءة هذا التحوّل بهذه النفسية العزيزة الكريمة، كيف استطاعت قدماه حمل جبال الهمّ التي ركزت ربابتها على كاهله؟ كيف استمر نبض قلبه على وقع جرعات الألم والشعور الضخم بتمريغ الكرامة في رمل هذا الصيف القائظ؟ كيف تحمّل عقله فكرة الذهاب هناك؟ كيف اشتبك في عقله الصراع الإمبريالي المتحالف مع الصليبي المتصهين، والتي كان يحلو له صف هذه المعادلات الاستعمارية الباغية؟ كيف اختزل كل هذه الثقافة الحرة وهذا الإباء العظيم الذي كان يملأ صدره، حشرها في زاوية معتمة وراح يجر ذيول الخيبة والقهر بكل ما تحمل من ألم؟ عدة كيلومترات كيف قطعها وسط عويل الناس وصرخات جوعهم؟ هل وصل فعلا دون نوبة قلبية أو جلطة دماغية تودي به صريعا؟ مجرّد وصوله فقد كتبت له حياة، لعلّه صبّر نفسه من أجل أطفاله ومن أجل أن لا يمنّ عليه أحد فيتبرع له من جهده بعد ظفره بكيس طحين.
تتبعت أخباره لأني اخترته شخصية لقصة رحلة الحصول على فتات الأمريكان في زمن اللئام.
اتصلت بشباب من صحبته وسألتهم عن آخر نكته في هذه الرحلة اللئيمة، قالوا لي إنه كان سريع الخطوات، ينفّس غضبه في كمية العرق التي يتصبّب جبينه بها، يتجهّم صامتا ساعات طوال ثم تراه يطلق تصريح من كوميدياه السوداء:
- لن أغفر لترامب ونتنياهو هذه اللعبة الحقيرة حتى تطأ قدماي رأسيهما كما وطأت قدما ابن مسعود رأس أبي جهل في أحد.
- قالوا عن الفتات على طاولة اللئام، اليوم فتات الأمريكان على مجازر خير الانام، شعب الله المختار لتنفيذ ابداعات الشيطان.
- سينما هوليود لأفلام الرعب من أمامكم ودبابات الموت من خلفكم، والكوادكابتر من فوقكم، كل شيء ولا هالكواد!
علمت مما وصلني عن سامي السعيد كم كان مهموما مكتئبا بائسا وكأنه خُلق ليحمل كلّ هوم الدنيا، وعلمت أنه بعد يومين من الانتظار وشدة الزحام والنوم في العراء كجراد الصحاري التي لا تجد ما تأكله، افترش الناس أرض الهلاك والتحفوا كل صنوف المذلة والمهانة، وكان من في الدبابات تحلوا لهم التسلية بين الحين والآخر فيفتحون أفواه مدافعهم على مستوى معين ليبقى الجوعى في حالة الانبطاح والعويل والصراخ وتجرع الألم، وعلمت أنه قد قال لن أعيدها مرّة ثانية.
في ظهيرة هذا اليوم القائظ نجحت كاميرات الصحافة من التقاط صورة قالوا عنها أنّها لجائع يحمل كيس طحين أحاطت به مسيّرة الكوادكابتر (الكوّادة على حدّ وصف سامي السعيد)، بالصوت والصورة وغبار المعركة الشجاعة التي على العالم العسكري أن يُدخلها مناهجه العسكرية، تم تحديد الهدف المتحرّك بسرعة، رجل يمشي على قدميه بحمولة كيس طحين، ثم حسابات الذكاء الصناعي العسكري العظيم، التي توائم بين سرعة الصاروخ وحركة الهدف، وتحديد نوع الصاروخ القادر على اختراق سمك كيس الطحين ثم النفاذ إلى جسم الإنسان الفلسطيني واختراق قلبه المثقل بكل الهموم التي عرفتها البشريّة. لا بد من تحديد النوع القادر على اختراق جدر المشاعر المرهفة لهذا الإنسان القادر على تحدّي موتهم القذر. ولا بدّ من النوع الخلّاط القادر على مزج الطحين الأبيض بالدماء الحمراء وإخراج لون موت جديد على الحياة البشريّة، هذا اللون الفوشي الذي يحبّه الأطفال الجياع المنتظرون لعودة أبيهم المحمّل بما يسدّ خواء أمعائهم.
اتصل بي أحد الأصدقاء المشتركين والمشاركين لسامي السعيد في رحلة الموت الفظيع هذه، هتف بمرارة مخنوقة وكأنه ميّت يتصل من عالم الأموات:
- أتدري من الشاب الذي أصابته "الكوّادة"؟
- من؟ أرجوك لا تلعب بأعصابي.
- بكاء ونحيب.
- من يا رجل؟ لا تقل سامي السعيد؟
- هو بلحمه وعظمه، لقد قتلوه لعنة الله عليهم. تخيّل سامي السعيد راح بكيس طحين، يا ويلهم من الله.