الذكاء الاستراتيجي والعالم المتقلب
تاريخ النشر: 29th, January 2024 GMT
جانب كبير من الأخبار والتقارير التي نتابعها ونطالعها على مدار السنوات القليلة الماضية، وبشكل مكثف في العامين المنصرمين، عن الذكاء الاصطناعي تدور أو تتعلق أو تحذر من أثر الذكاء الاصطناعي السلبي على مستقبل الوظائف، أو شكل العلاقات الإنسانية، أو الخلط المذهل بين الحقيقة والخيال، أو التصويب المميت في الحروب والصراعات، وقائمة المخاطر الذكية والأهوال الحاذقة للذكاء الاصطناعي في حياتنا لا تتوقف.
والحقيقة هي أن الذكاء الاصطناعي، الذي ابتكره ويطوره ذكاء بشري، متعدد الأوجه. وتعدد الأوجه نعمة لا نقمة، لكن النقمة تنمو وتتمدد حين نغض الطرف عن كل الجوانب الإيجابية وسبل الاستفادة وطرق تعظيم الفوائد. في الوقت نفسه، يتمكن الأذكياء من البحث عن الفوائد والتركيز على كيفية الاستفادة منها، وذلك بدلاً من مناطحة طواحين الهواء ومحاولة وأد الذكاء الاصطناعي في مقتل ليبقوا في أمان.
فرق كبير بين أن تبقى في حالة من الأمان المصطنع الناجم عن التظاهر بعدم رؤية ما يحيط بك من مخاطر وأضرار، وبين أن تنعم بقدر معتبر من الأمان لأن «تؤمن» نفسك جيداً، وتقوم بتحديث هذا التأمين بشكل دائم ومستدام، وحبذا لو كان قادراً على استشراف مستقبل الأمان، أي مكوناته التي تتغير من زمن إلى آخر ومن ظروف إلى أخرى.
وحين أطلقت حكومة الإمارات والمنتدى الاقتصادي العالمي «دافوس» منصة «نحن الإمارات للذكاء الاستراتيجي 2031» قبل أيام، قدمت نموذجاً يحول توليفة فعلية لكل ما سبق. هو نموذج رقمي يعتمد على الذكاء الاصطناعي أداة تقنية، وعلى الأدمغة والخبرات المتخصصة كل في مجاله وسيلة بشرية، تعمل في تناغم من أجل دعم صناع السياسات والاستراتيجيات في الإمارات.
المنصة قاعدة معرفية استراتيجية تحتوي على المعارف والخبرات اللازمة للتخصصات ذات الأولوية في رؤية «نحن الإمارات 2031».
وحين تكون رؤى الدول لمستقبلها خليطاً من الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية والأمنية والابتكارية، لا يطغى أحدها على آخر أو ينفيه أو يؤجله بدافع أو بحجة الأولويات الآنية أو الطارئة، فإن هذا يضمن نصف النجاح.
نصف النجاح الآخر يعظم احتمالاته الاستخدام الصحيح للأدوات المتاحة، والسعي للحصول على المزيد المناسب منها، ما يحقق تفرداً وتقدماً وتميزاً.
ما يحدث في العالم من حولنا من تقلبات رهيبة يؤكد أن «المضمون» وهم، وأن عوامل خارج إرادتنا قادرة على أن تعصف بما كنا نعتقد أنه أمر مفروغ منه، لأنه منطقي أو واقعي، لذلك فإن المستقبل لمن أيقن وأتقن منظومتي الجاهزية والاستباق.
هاتان المنظومتان أقرب ما تكونان إلى ضمان المستقبل. لماذا؟ لأنهما قائمتان على المرونة والبعد عن الأطر التقليدية الجامدة، بالإضافة إلى اعتمادهما على مبادئ علمية وتطبيقات عملية تعتنق روح الابتكار والعلم. بمعنى آخر، إنه الذكاء الاستراتيجي.
ثمة أيام ليست بعيدة كان فيها الذكاء الاستراتيجي حكراً على العمل الاستخباراتي بين الدول وبعضها وفي داخلها. اليوم، الدول الذكية هي من تهرع إلى الذكاء الاستراتيجي لصياغة وصناعة مستقبلها. إنها الدول والوزارات والمؤسسات والهيئات والإدارات والجمعيات، بل والبيوت أيضاً، التي تجمع وتعالج وتحلل المعلومات اللازمة لتشكيل سياسات وخطط المستقبل.
إنها الدول والهيئات والأفراد التي تعتنق مبدأ الاستباق. إنها من يبحث عن الفرص الكامنة في المشكلات والمصاعب، والقادرة على حساب المخاطر واستشرافها، والمعتمدة على المعلومات والحقائق لرسم الخطط والاستراتيجيات. والاستعانة بإمكانات الذكاء الاصطناعي في الاستشراف والتحليل والتخطيط قيمة مضافة في كل الأحوال.
رب الأسرة القادر على استشراف أزمة اقتصادية تلوح أماراتها في المستقبل بناءً على معطيات من الوضع الاقتصادي أو الأمني العالمي، فيعمد إلى ادخار أو استثمار مبتكر في قنوات مأمونة نسبياً وبناءً على معلومات ذكية، مع الأخذ في الاعتبار أولويات أسرته، هو شخص ينتهج مبدأ الذكاء الاستراتيجي.
والدولة التي تعتبر الذكاء الاستراتيجي أسلوب عمل لتحقيق الازدهار لشعبها، وضمان معدلات نمو اقتصادي مرتفعة، وبلورة التعاون الدولي الذي هو البوابة الحقيقية لتحقيق السلام العالمي، وصناعة منظومة مرنة تحقق الريادة والتفوق هي دولة ذكية استراتيجياً وفعلياً.
أمينة خيري – جريدة البيان
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی
إقرأ أيضاً:
كيف ينبغي للشركات ــ ولا ينبغي لها ــ توظيف الذكاء الاصطناعي
فينسيان بوشين ـ أليسون بيلي
برغم أن ما يقرب من نصف العاملين في المكاتب الآن يستفيدون من الذكاء الاصطناعي التوليدي في عملهم اليومي، فإن أقل من واحد من كل أربعة رؤساء تنفيذيين يصرحون بأن هذه التكنولوجيا نجحت في تحقيق قيمتها الموعودة على نطاق واسع. تُـرى ما الذي يحدث؟
قد تكمن الإجابة في حقيقة مفادها أن الذكاء الاصطناعي التوليدي جرى تقديمه في البداية كأداة لتعظيم الإنتاجية، الأمر الذي أدى إلى ربطه بقوة بخفض التكاليف وتقليص قوة العمل. في ضوء هذا الخطر، أعرب نحو 42% من الموظفين الذين شملهم استطلاع في عام 2024 عن قلقهم من أن وظائفهم قد لا يكون لها وجود في العقد القادم. في غياب التدريب وصقل المهارات للاستفادة من إمكانات التكنولوجيا، ليس من المستغرب أن تكون المقاومة أعظم من الحماس. فمثل الأجسام المضادة التي تقاوم جسما غريبا، ربما تحدث «استجابة مناعية» داخل المؤسسات، حيث يقاوم الموظفون والمديرون على حد سواء التغيير ويبحثون عن أسباب «عدم نجاح» الذكاء الاصطناعي معهم.
وبالإضافة إلى إبطاء عملية التبني، حالت هذه المقاومة دون الاستكشاف الأكثر اكتمالا لفوائد محتملة أخرى، مثل تحسين عملية اتخاذ القرار، وتعزيز الإبداع، والتخلص من المهام الروتينية، وزيادة الرضا الوظيفي. نتيجة لهذا، كانت دراسة كيفية «إعادة استثمار» الوقت الذي قد يوفره الذكاء الاصطناعي متواضعة. مع ذلك، وجد بحثنا أن الموظفين الذين يستخدمون الذكاء الاصطناعي التوليدي بانتظام يمكنهم بالفعل توفير خمس ساعات في الأسبوع، وهذا يسمح لهم بمتابعة مهام جديدة، أو إجراء مزيد من التجريب مع التكنولوجيا، أو التعاون بطرق جديدة مع زملاء العمل، أو ببساطة إنهاء العمل في وقت مبكر.
يتمثل التحدي الذي يواجه قادة الأعمال إذن في التأكيد على هذه الفوائد المحتملة وتقديم التوجيه والإرشاد حول مواضع إعادة تركيز وقت المرء لتعظيم خلق القيمة. لنتأمل هنا مثال إحدى شركات الرعاية الصحية العالمية التي قامت مؤخرا بنشر الذكاء الاصطناعي التوليدي (GenAI) عبر موظفيها الذين يبلغ عددهم 100 ألف موظف.. أنشأت الشركة برنامجا قابلا للتطوير لتعلم الذكاء الاصطناعي مع ثلاثة أهداف: إلمام عال بالذكاء الاصطناعي في مختلف أقسام المنظمة، حتى يتسنى لجميع الموظفين تحقيق أعظم قدر من الاستفادة من التكنولوجيا؛ ومجموعة واسعة من أدوات الذكاء الاصطناعي لكل سيناريو عمل؛ والاستخدام المتوافق. وبفضل هذا النهج الشامل، سرعان ما نجحت الشركة في تحسين رضا الموظفين وإنتاجيتهم في الوقت ذاته.
لكن تبني الذكاء الاصطناعي لا يتعلق بتوفير الدقائق، إنه يدور حول إعادة اختراع العمل لصالح الموظفين والمنظمة. عندما تتعامل أي شركة مع الذكاء الاصطناعي التوليدي على أنه مجرد أداة لتوفير الوقت، فسوف تلاحق في الأرجح حالات الاستخدام المجزأة ــ توفير عشر دقائق هنا، و30 دقيقة هناك ــ والتي لن تخلف تأثيرا ملموسا على الأعمال في عموم الأمر. ففي نهاية المطاف، من الصعب إعادة استثمار تطبيقات الذكاء الاصطناعي الصغيرة النطاق التي تحقق مكاسب إنتاجية مُـوَزَّعة أو تسجيلها في بيان الأرباح والخسائر.
في غياب استراتيجية شاملة لإعادة تصميم عملياتها الأساسية حول الذكاء الاصطناعي، تخاطر المنظمات بتحسين مهام معزولة بدلا من تحسين كيفية إنجاز العمل بشكل جوهري والنتيجة، في كثير من الأحيان، هي ببساطة انتقال الاختناقات إلى أجزاء أخرى من العملية أو سلسلة القيمة، على النحو الذي يحد من مكاسب الإنتاجية الإجمالية. على سبيل المثال، في مجال تطوير البرمجيات، من الممكن أن يؤدي الذكاء الاصطناعي الذي يسرع عملية الترميز إلى مزيد من التأخير الشاق في تصحيح الأخطاء أو غير ذلك من أشكال التأخير، وهذا يلغي أي مكاسب في الكفاءة. إن القيمة الحقيقية تأتي من دمج الذكاء الاصطناعي عبر دورة حياة التطوير بأكملها.
يطرح هذا المثال أيضا مشكلة أكبر: حيث تسعى منظمات عديدة إلى التوسع دون أن تقدم أولا إعادة تصور للهياكل وتدفقات العمل اللازمة للاستفادة من المكاسب التراكمية. والنتيجة المعتادة هي فرصة ضائعة، لأن الوقت الـمُـوَفَّـر الذي لا يُعاد استثماره بشكل استراتيجي يميل إلى التبدد. فبدلا من تبني نهج يسمح بتفتح مائة زهرة، ينبغي للمؤسسات أن تسعى إلى تنفيذ بعض المبادرات التحويلية الكبرى التي تركز على إعادة تصور العمل من طَـرَف إلى الطَـرَف الآخر. يكمن وعد الذكاء الاصطناعي التوليدي الحقيقي في إطلاق ما نسميه المثلث الذهبي للقيمة: الإنتاجية، والجودة، والمشاركة/البهجة. يجب أن تعيد استراتيجية الذكاء الاصطناعي تخيل سير العمل للقضاء على أوجه القصور؛ وتكميل عملية صنع القرار وعمليات تشجيع الابتكار والإبداع؛ وتعزيز العمل وليس ميكنته. يصبح الموظفون أكثر ميلا إلى تبني الذكاء الاصطناعي بحماس عندما يقضي على الكدح، ويغذي الإبداع، ويسرع عملية التعلم. والاهتمام اللائق بترقية المهارات من شأنه أن يضمن عمل التكنولوجيا على زيادة الإمكانات البشرية، على النحو الذي يعزز المشاركة في محل العمل والرضا الوظيفي.
بالتركيز على المشاركة وجودة التجربة إلى جانب الإنتاجية، يصبح بوسع المنظمات تجاوز المنظور القائم على التكلفة إلى منظور يخلق مزيدا من القيمة لصالح الشركة وموظفيها وعملائها، فالذكاء الاصطناعي أكثر من مجرد آلية للتشغيل الآلي(الأتمتة)، شريطة أن تتبنى الشركات استراتيجية شاملة لنشره وتوظيفه.
ينبغي لقادة الأعمال أن يضعوا خمس حتميات في الاعتبار، الأولى التركيز على أكبر مجمعات القيمة مع أفضل حالات الأعمال تحديدا لدمج الذكاء الاصطناعي. والثانية إعادة تصور العمل، بدلا من الاكتفاء بتحسينه ببساطة، يجب أن يُـسـتَـخـدَم الذكاء الاصطناعي لتحويل سير العمل بالكامل، وليس فقط أتمتة بعض الخطوات. ثالثا، يتعين على المديرين الاستثمار في رفع مستوى المهارات، بحيث يفهم الجميع التكنولوجيا وإمكاناتها. رابعا، يجب أن يكون المثلث الذهبي، بالتوازن الذي يوجده بين الإنتاجية والجودة ومشاركة/بهجة الموظفين، القاعدة الذهبية للشركات.
أخيرا، ينبغي للمنظمات أن تقيس القيمة بما يتجاوز التوفير في التكاليف. فالشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي التوليدي بشكل أكثر فاعلية يجب أن تتتبع تأثيراته على تمكين قوة العمل، وخفة الحركة، وتدفقات الإيرادات الجديدة، وليس التكاليف التشغيلية فحسب. وبمراعاة هذه الضرورات، يصبح بوسع الشركات استخدام الذكاء الاصطناعي كقوة لإعادة الاختراع، بدلا من كونه مجرد أداة لزيادة الإنتاجية.
في هذه العملية، تحدد الشركات وتيرة الحقبة القادمة من الأعمال.
فينسيان بوشين المديرة الإدارية والشريكة في BCG، حيث تعمل كقائدة عالمية في مجال الذكاء الاصطناعي البشري.
أليسون بيلي شريك أول ومدير عام في مجموعة بوسطن الاستشارية، وتشغل منصب نائب الرئيس العالمي لممارسات الأفراد والمنظمات.
خدمة بروجيكت سنديكيت