معتصم أقرع: الأنجوة والتمويل الأجنبي في السياسة
تاريخ النشر: 6th, February 2024 GMT
لقد تم إهراق الكثير من الحبر عن منظمات المجتمع المدني والدور الذي يلعبه المانحون الأجانب. أدناه بعض النقاط:
1) المجتمع المدني مفهوم واسع جدًا، وبالتالي من الصعب اختزاله في بُعد واحد. ويرى العديد من الناشطين والمفكرين أن المجتمع المدني يلعب دورا مهما ويعددون إيجابياته التي يمكن العثور عليها في الإنترنت بضغطة زر.
ولكن على نفس القدر من الأهمية، يلفت العديد من المفكرين الجادين الانتباه إلى الجانب السلبي لظاهرة الأنجوة، بما في ذلك تقزيم الأجسام والأحزاب السياسية والجماعات النقابية لصالح الأنجوة الممولة من الخارج وفي هذا إضعاف وخصخصة للعمل السياسي. بهذا المعني فإن المجتمع المدني هو المعادل السياسي للقطاع الخاص في الفضاء الإقتصادي. والمجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية لا يخضعون لمساءلة ديمقراطية من مواطني بلدهم بل من الجهات المانحة، ويمكن أن يؤدي هذا التمويل إلى تحيز مواقف بحيث لا تتعارض مع مصالح الجهات المانحة وتوجهاتها الأيديولوجية وفي هذا تشويه للتطور الديمقراطي المستقل.
2) هل منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية جيدة أم سيئة؟
وبما أن هذه المنظمات عالم متسع النطاق، فلا يمكن أن يكون هناك إجابة واحدة تغطي جميع الحالات. تقوم بعض هذه المنظمات بعمل جيد ومهم بدون أجندة سياسية صارخة أو مشكوك فيها مثل تقديم إغاثة وخدمات طبية أو علمية وما شابه في جميع أوجه النشاط الأنساني. لكن بعض هذه المنظمات لا يعدو كونه واجهة لوكالات مخابرات وأجندات خارجية أخرى مشبوهة وخبيثة في نواياها.
3) هل كل منظمات المجتمع المدني عميلة للأجانب؟ لا، بعضها تنطبق عليه المعايير ولكن الكثير منها تقوم بأعمال إنسانية وفي مجالات أخري محترمة.
4) هل جميع منظمات المجتمع المدني في الداخل والخارج نظيفة وشريفة؟ لا، بعضها جيد والبعض الآخر مشبوه ويخدم أجندات خارجية معادية للمصالح الوطنية للبلد المضيف.
5) إن وجود منظمات غير حكومية ومنظمات مجتمع مدني نظيفة لا يعني أن جميع هذه المنظمات نظيفة. ووجود منظمات القذرة لا يعني أن كل هذه المنظمات قذرة. وكذلك التمويل الأجنبي فمنه معقول وكريم ومنه مفسد واستعماري.
6) لا يمكن تحديد ما إذا كانت المنظمة نظيفة أو قذرة بشكل مسبق. يجب تقييم كل منظمة علي وحدها كحالة مستقلة بالرجوع إلي عملها وطبيعتها ومواقفها وطبيعة الجهة المانحة لها.
7) ماذا عن التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني؟
في عالم مثالي، لا ينبغي وجود تمويل أجنبي لعمل سياسي. يمكن للأموال الأجنبية تمويل العمل الإنساني الذي ليس له أجندة سياسية صارخة ومباشرة . ولكننا لا نعيش في عالم مثالي، ونظراً للضعف الاقتصادي الشديد في السودان فإن الأموال الأجنبية سوف تستمر في التدفق سواء شئنا أم أبينا.
8 ) لكن قبول تدفق الأموال الأجنبية المسيسة كفضيلة أو كمصير لا نستطيع إيقافه ليس نهاية القصة إذ أن الشفافية مسألة هامة ذات صلة. وحتى لو تم قبول دور الأموال الأجنبية، فهناك حاجة إلى حوار حول ضرورات الشفافية كما هو الحال في بلدان أخرى حيث يتعين على متلقي الأموال الأجنبية الإعلان عن الجهات المانحة بالاسم، وكم يتلقي منها وكيف ينفق الأموال. وعليه أن يدفعوا الضرائب التي تأتي من أنشطة مرتبطة بالأموال الأجنبية أيضاً. ومع الشفافية الكاملة، لن يمكن تشويه سمعة النظيفين المستفيدين من الأموال الأجنبية الذين يصرفونها في أنشطة مقبولة تخدم مجتمعاتهم. وفي غياب الشفافية لا نستطيع لوم مواطن لو لعب الفار في عبه.
في الولايات المتحدة علي سبيل المثال، يمكن لأي شخص أو شركة تقديم خدمات لحكومات أو جهات أجنبية، بما في ذلك التاثير علي القرار السياسي الأمريكي لصالح الجهات الأجنبية، ولكن علي تلك الجهة أن تسجل نفسها عند الحكومة الأمريكية كوكيل لجهات أجنبية وان تحدد الجهة الأجنبية التي تعمل لصالحها وان تكشف عن تمويلها وصرفها وتدفع ما عليها من ضرائب وتكون خاضعة لمراقبة السلطة الأمريكية وتدفع الثمن لو خرقت القانون الأمريكي.
9) ينبغي مناقشة الموضوع بالرجوع إلى محاسن المال الأجنبي المسيس ومفاسده، وعدم حصره في مناقشة الكيانات السياسية الأخرى التي تلقت أموالاً قذرة لأن محمد أحمد فعل أيضًا دفاع ضعيف، متهافت وفي أحسن الأحوال هو قتال سياسي ضيق يذهل عن أهمية التاسيس النظري. فلو قتل الأخوان أو الشيوعيون الناس فهذا لا يبرر قيام الآخرين بمقتلة أخري.
معتصم أقرع
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: منظمات المجتمع المدنی الأموال الأجنبیة هذه المنظمات
إقرأ أيضاً:
الاقتصاد سياسة.. ولا يمكن فصلهما
سهام بنت أحمد الحارثية
harthisa@icloud.com
منذ أن تشكّلت الدول وبدأت تمارس وظائفها، ظل الاقتصاد جزءًا لا يتجزأ من أدواتها السياسية، فالسياسات الاقتصادية ليست مجرد قرارات تقنية تُتخذ بمعزل عن الواقع، بل هي في جوهرها قرارات سياسية تعكس مصالح، وأولويات، وتوازنات قوى. القول إن الاقتصاد محايد أو مستقل عن السياسة يتجاهل حقيقة أن كل قرار مالي أو استثماري أو تجاري يتطلب إرادة سياسية لتوجيهه، وتحمل تبعاته.
في التاريخ القديم، كانت السيطرة على الموارد الاقتصادية تُعد بمثابة إحكام للسيادة السياسية. الإمبراطورية الرومانية لم تكن لتصمد دون تأمين تدفق القمح من مستعمراتها، وعلى رأسها مصر، التي شكّلت “سلة الغذاء” للإمبراطورية. وفي ذلك الزمن، لم يكن الغذاء مجرد سلعة؛ بل أداة للحكم، والاستقرار السياسي كان رهناً بالوفرة الاقتصادية.
أما في العصر الحديث، فقد تجلّت العلاقة بين الاقتصاد والسياسة بوضوح في أزمة النفط عام 1973، حين قررت الدول العربية المنتجة للنفط خفض الإنتاج وفرض حظر على الولايات المتحدة وهولندا بسبب دعمهما لإسرائيل. أدى ذلك إلى ارتفاع أسعار النفط بنسبة 300%، وانزلاق الاقتصاد العالمي في موجة تضخم وركود حاد. وهنا لم يكن النفط مجرد مادة خام؛ بل أداة سياسية أثَّرت في مواقف دول، وساهمت في إعادة تشكيل النظام الدولي.
في التجربة الصينية، شكّل النمو الاقتصادي منذ نهاية السبعينيات خطة سياسية منظمة، لم يكن تحرير السوق وتوسيع قطاع التصدير هدفًا اقتصاديًا فحسب، بل وسيلة استراتيجية لإرساء شرعية الحزب الشيوعي داخليًا، وتعزيز مكانة الصين في النظام العالمي. خلال أربعة عقود، نجحت الصين في انتشال أكثر من 800 مليون إنسان من الفقر، وفق بيانات البنك الدولي، وأصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وهو إنجاز اقتصادي ما كان ليتحقق لولا رؤية سياسية محكمة.
الواقع الأوروبي يعزز أيضًا هذا الترابط الوثيق، فالاتحاد الأوروبي بُني على فكرة أن التكامل الاقتصادي سيمنع اندلاع الحروب مجددًا بين دول القارة. إنشاء السوق الموحدة، وتبني العملة الموحدة “اليورو”، لم يكن مسعى اقتصاديًا بحتًا، بل هدفًا سياسيًا طويل المدى لتحقيق السلام والاستقرار. رغم التحديات، بلغ الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي نحو 18 تريليون دولار في عام 2023؛ مما يعكس عمق هذا التكامل الذي جمع بين السياسة والاقتصاد.
في منطقتنا العربية، تتضح العلاقة في اعتماد العديد من الدول على السياسات الاقتصادية كأدوات للتماسك الاجتماعي والسياسي. برامج الدعم الحكومي للوقود والغذاء، والتوظيف في القطاع العام، والإعفاءات الضريبية، كلها قرارات اقتصادية تُستخدم سياسيًا لاحتواء التوترات الاجتماعية وتعزيز شرعية الدولة. وفي دول الخليج، مثلًا، لا تُفهم خطط التنويع الاقتصادي بمعزل عن التحولات السياسية والاجتماعية التي تهدف إلى ضمان الاستدامة والاستقرار في عالم ما بعد النفط.
ومن واقع تجربتي، حين ناديت أثناء المقاطعة الشعبية الأخيرة بعد حرب غزة بضرورة تطوير المنتج المحلي ليحل محل السلع المُقاطَعة، اعتبر البعض أن هذا الموقف تعاطف عاطفي لا علاقة له بالاقتصاد، وأن الأجدى هو تغيير سلوك المستهلك فقط. لكن هذا الفهم يغفل عن حقيقة أن الأزمات تخلق فرصًا لإعادة توجيه الموارد، وتعزيز الإنتاج الوطني، وتثبيت السيادة الاقتصادية. وقد وقعت بعض الجهات والدول في هذا الخطأ، حين تعاملت مع المقاطعة كفعل شعبي مؤقت بدل أن تستثمره في بناء بدائل وطنية مستدامة.
حتى في مفاوضات صندوق النقد الدولي مع الدول، يظهر الاقتصاد كأداة ضغط سياسي.. الاشتراطات المصاحبة لبرامج الإصلاح، مثل تحرير سعر الصرف، أو خفض الدعم، أو خصخصة المؤسسات، ليست فقط إصلاحات تقنية، بل تؤثر مباشرة في القاعدة الاجتماعية والسياسية للحكم، وتعيد رسم العلاقة بين الدولة ومواطنيها.
في النهاية.. الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة. لا يمكن فصل الإنفاق عن التمويل، ولا الضرائب عن العقد الاجتماعي، ولا الاستثمار عن رؤية الدولة لمكانتها في الداخل والخارج. كل قرار مالي هو رسالة سياسية، وكل سياسة اقتصادية تعكس هوية الدولة وأولوياتها… لهذا، فإن من يزعم أن الاقتصاد حيادي، يغفل عن واحدة من أهم حقائق التاريخ: الاقتصاد كان وسيظل أداة للسياسة، وأحيانًا جوهرها.