لجريدة عمان:
2025-12-13@22:50:17 GMT

عبء الصمود

تاريخ النشر: 14th, February 2024 GMT

بطريقتين مختلفتين تمامًا تلقّى الناس الصورة -التي نشرها الجندي الإسرائيلي يوسي غامزو- لفلسطيني تحت التعذيب. جاءت صورة الرجل -جالسا على كرسي في إحدى مدارس مدينة غزة، وهو مقيد اليدين ومجرد من ثيابه باستثناء ملابسه الداخلية- كتوثيق آخر للانتهاكات المستمرة في القطاع. بشكل خاص لأن الحساب نفسه كان قد نشر قبلها مقطع فيديو للرجل وهو يسير بمرافقة الجند مقيدا لكن سليمًا، مما عنى أن جراحه تسبب بها تعرضه للتعذيب من قِبل آسريه.

حتى الرئاسة الأمريكية وجدتها -كما تجد «أحيانا» أمورا تحدث هذه الأيام في غزة- مزعجة للغاية!

أعادت هذه الصورة، وصور أخرى لأسرى فلسطينيين إلى الذاكرة فضيحة أبو غريب. الصور المنشورة للسجناء مثّلت بالطبع أدلة إدانة. الأوضاع المهينة التي ظهروا بها، جعل من يتناقلونها، أو من ينظرون إليها يحسون بالعار وبانقباض القلب. العار قادم من تماهٍ مع الضحية، خصوصا بالنسبة لمن يشتركون مع الضحايا في اللون والملامح، ومن يعتقدون أنه من غير المستبعد أن يكونوا محلهم يوما ما، ما دامت مصائرهم مرتبطة بأهواء أقوياء العالم المتنمرين. لكن العار أيضا قادم من الفرجة. من كون المرء يرى شخصًا ما يُهان، دون أن يدفعه ذلك لأن يتحرك، فيما يُشبه التواطؤ. والمُنكر الذي استعصى تغييره باليد واللسان، يُستنكر بالقلب، ويُصبح أضعف الإيمان أن يعمل جهده لئلا تُدوّر الصور.

حين نُفكر بمنطقية، نعرف أن العار يُفترض أن يلتصق بأولئك الذين يقفون -في الحقيقة- برأس مرفوع، بثقة وفخر في أزيائهم العسكرية الناصعة، حاملين أدوات التعذيب الصقيلة. لكنه لا يفعل. ما يحدث في الواقع هو أن الضحية تُعيّر بالجوع والإنهاك واليتم وقلة الحيلة في المعادلة غير المنصفة للعالم المتهكم. والمراقب المتعاطف، الذي يشعر أن هذه الصور تصرخ في وجهه لأن يفعل شيئا، يبحث عن وسيط يمرر عبره خزيه، هوانه، وانعدام حيلته. فتراه يتبنى مرة خطاب التباكي، من نوع «اعذروا تهاوننا وجبننا»، أو خطاب الأمثلة «يا لكم من أمثلة للبطولة والصمود».

عندما يُشاد بالصمود أو يُشجع على التحلي به من أفراد لا ينتمون للمجموعة التي يقع عليها الظلم -ليس بشكل مباشر على أي حال- ففي هذا إزاحة للمسؤولية من المتفرج إلى الضحية. يطلب المتفرج من الضحية أن تكون صبورة، وأن تتصرف وفق التصور الذي بناه المتفرجون عنها. «الصورة الخالدة للنضال» تتحول بشكل ما عائقًا أمام تغيير ظروف المُنتهكة حقوقهم، إذ إن ردة الفعل (الصمود) متسقة مع الفعل (الاحتلال، القتل، الأسر، التعذيب والإهانة)، ولا يُوجد بعد أي خَرق يستفز المتفرج للتحرك، أو يستلزم تدخله. والتعود على رؤية الضحية في وضع غير إنساني، رؤيتها كجثة، كجسد منتهك، يُرسخ صورة نمطية، تستديم عدم أنسنتها، وتُؤبد معاناتها. فالأم الفلسطينية سوپر-ماما، والطبيبة باسلة، والأسير لا يُمكن تقويضه.

الموت أهون من الإهانة - هذا ما نؤمن به. الجوع شيء يُمكن احتماله - نتخيل، البرد لدرجة ما، أما أن يُنال منك، أما انتهاك حرمة جسدك، فهذا يفوق الاحتمال. خطاب الصمود، خطابٌ يُطالب الآخرين باحتمال ما لا يُحتمل، ويضع عليهم وزرًا جديدا، فهم إن ضعفوا لوهلة، يأكلهم التخييب. ليس أصعب من رؤية طفلة تقول «أنا خايفة»، إلا سماعها تقول «أنا ما أخاف».

لنحتفظ بالفكرة المجردة «الموت أهون من الإهانة» الآن في بالنا، ولنُفكر بالواقعين تحت التعذيب والتهديد والإنهاك. إنهم يُفكرون على الأغلب: حسنًا سأموت وينتهي كل هذا. أو إذا كانت الفكرة أكثر تفاؤلا: سينتهي هذا، سأنجو، ويكون كأنه لم يحصل أبدا (لا أظن -بعد كل ما رأيناه ونراه يحدث ويشتد شراسة- أن فكرة القصاص تخطر ببالهم حتى). أقول إن المتعرضين للإهانة يُفكرون بهذا، دون أن يُدركوا على الأغلب أن ثمة متفرجا على تجربته، أن ثمة تذكارا وحشيا سيبقى حيّا إلى الأبد (أعني الصورة الملتقطة)، أن أمهاتهم -إن كان قد بقي لهم أمهات وأُخوة- سيتعرفن عليهم، فقط لتُفطر قلوبهن.

مع هذا، ثمة فارق في الصورة التي نتحدث عنها اليوم، مقارنة بصور أبو غريب مثلا. إذ لا ملمح لهذا العار (الذي قُلنا أنه لا يخضع للمنطق). إن ملامحه -على العكس- مرتاحة، وفي حين أن تأملات المتفرجين على صور أبو غريب لا تذهب أبعد من «أرجو ألا أكون مكان الضحايا»، تفتح هذه الصورة أُفقًا جديدا «لا أُريد أن أكون محلّه، لكني إذا ما حدث وكنت، فأُريد أن أكون مثله»، فتُغيّب الخيالات الجديدة الانفعال التلقائي، فلا يرى المتفرجون فيه بعد جسدًا مُهانًا، ويمضون متغنين بالصمود الذي لم يروا مثله.

لنا بالطبع أن نتأمل في أخلاقيات ذلك، لكن هذا يقع خارج إطار اهتمام هذا المقال. ما حاولتُ رصده هو فرادة هذه الصورة، والاستثناء الذي تصنعه بالرغم من تشككي الدائم -بشكل عام- حول خطاب الصمود.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

محددات العلاقة بين إيران والمقاومة: قراءة في خطاب ظريف حول الهوية الوطنية للفصائل

12 دجنبر، 2025

بغداد/المسلة: تبرز دلالات تأكيد محمد جواد ظريف أنّ فصائل المقاومة في المنطقة لاسيما في العراق لا تتحرك بوصفها أذرعًا لإيران، بل كقوى محلية تنبع شرعيتها من مواجهة الاحتلال على أراضيها، في موقف يقدّمه وزير الخارجية الإيراني الأسبق بوصفه تفنيدًا لسرديات إقليمية ودولية تربط بين نشاط تلك الفصائل ومصالح طهران المباشرة.

ومن جانب آخر يشرح ظريف، خلال مشاركته في ندوة حول الدبلوماسية في زمن الحرب على هامش معرض العراق الدولي للكتاب في بغداد، أنّ إيران تكبدت أثمانًا سياسية واقتصادية باهظة نتيجة هذا الدعم، مؤكدًا أن ما يُوصف بـوكلاء إيران لم يطلقوا رصاصة واحدة على مدى 45 عامًا لخدمة مصالحها، بل قاتلوا من أجل أراضيهم وحرياتهم، معتبرًا أنّ المقاومة تنشأ بصورة طبيعية من سياقات الاحتلال والقمع، وأن دعم بلاده لها لا يعني احتواءها أو القدرة على إنهائها.

وتشير تصريحات ظريف إلى محاولة إعادة صياغة العلاقة بين طهران والفصائل الإقليمية في إطار مفهوم التكلفة والالتزام، لا الوصاية أو التوجيه، مع تسليط الضوء على ما يراه الوزير الأسبق دورًا ممتدًا لبلاده في دعم القضايا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، التي يقول إن إيران قدمت لها دعمًا يفوق ما قدمته دول عربية، في إشارة تعكس رغبة طهران في تثبيت سردية المسؤولية الأخلاقية والسياسية تجاه الصراع.

وأيضًا يلفت ظريف، في سياق حديثه عن مستقبل المنطقة، إلى أنّ بلاده لا تبحث عن هيمنة، بل عن “منطقة قوية” تستند إلى دول قادرة على حماية نفسها، من العراق إلى السعودية، مشددًا على أنّ إيران راضية بحدودها وجغرافيتها وتطمح إلى العيش بين محيط من “الأصدقاء والإخوة”، في خطاب يعكس تصورًا لتوازن إقليمي يقوم على الشراكات لا على مراكز النفوذ.

ويواصل الوزير الأسبق استحضار المبادرات الإقليمية التي طرحتها إيران، من بينها مبادرة مودّة للحوار الإسلامي، ومبادرة منارة للتعاون في استخدام الطاقة النووية السلمية، باعتبارهما إطارين لحلحلة الأزمات الممتدة، مع تأكيده أنّ جذر المشكلات يبقى الاحتلال الإسرائيلي الذي يعيد إنتاج توترات الشرق الأوسط وفق تعبيره.

وعلى صعيد أوسع تتقاطع هذه الرسائل مع نقاشات دبلوماسية وإعلامية عربية عن مآلات الحرب في غزة وتمدد الصراع في الإقليم، إذ تتفاعل على المنصات الرقمية تدوينات تربط بين خطاب ظريف ومحاولات إعادة ضبط صورة إيران إقليميًا، وسط سجالات حول دور طهران وحدود نفوذها، في مشهد يعكس حجم الاستقطاب الذي تفرضه دورة الصراع المتجددة في الشرق الأوسط.

 

 

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author زين

See author's posts

مقالات مشابهة

  • الإعيسر: رسالة شعبنا اليوم من كل أرجاء المعمورة واضحة، الصمود خيار، والانتصار إرادة
  • الأرصاد تحذر: أمطار قادمة وثلوج غير متوقعة هذا الأسبوع
  • سنابل الصمود .. كيف حول الشعب اليمني ’’الزراعة’’ إلى سلاح لمواجهة العدوان والحصار
  • رئيس منظمة السياسات الأمريكية في إفريقيا: لدينا شكوك جدية في قدرة اتفاق السلام بين الكونغو ورواندا على الصمود
  • محددات العلاقة بين إيران والمقاومة: قراءة في خطاب ظريف حول الهوية الوطنية للفصائل
  • تحسّن الموسم المطري بنسبة وصلت إلى 16% بفعل المنخفض الأخير
  • من عالم العقارات إلى الدبلوماسية الفظة.. كيف انعكست النزعة الفوقية في هفوات خطاب توم براك؟
  • تواكُلُ المعارضة التونسية على الغرب.. إعادة إنتاج العجز في خطاب جديد
  • النيابة العامة تطلق الدليل الوطني الجديد للتحري في ادعاءات التعذيب
  • الضفة الغربية: ساحة اشتعال مفتوحة.. تصعيد مستمر ومواجهة يومية مع الاحتلال