أخبارنا:
2025-06-29@08:48:57 GMT

هنيئاً لمن أدرك رمضان وتاب إلى الرحمن

تاريخ النشر: 13th, March 2024 GMT

هنيئاً لمن أدرك رمضان وتاب إلى الرحمن

مِنْ أعظم نعم الله تعالى على عباده أن فتح لهم باب التوبة، وأمرهم بها ورغَّبهم فيها، ووعدهم بقبولها وغفران ذنوبهم مهما كثرت وعظُمت، رحمة ولطفاً بهم، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(الزمر:53).

قال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة مِنَ الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر. ولا يصح حمل هذه الآية على غير توبة، لأن الشرك لا يُغْفَر لمن لم يتب منه"..

وقد جعل الله تعالى لعباده في التوبة والإنابة إليه ملاذاً آمناً، يلِجْه المُذنب، معترفاً بذنبه، نادماً على فعله، ليجد فيه ما يغير حياته من شقاء وظلمة المعصية، إلى نور وسعادة التوبة والطاعة، ولذا أمر الله تعالى بها أهل الإيمان، فقال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(النور:31). قال السعدي: "{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة، وهي الرجوع مما يكرهه الله، ظاهرا وباطنا، إلى: ما يحبه ظاهرا وباطنا، ودل هذا، أن كل مؤمن محتاج إلى التوبة، لأن الله خاطب المؤمنين جميعا"..

ومِنَ المعلوم أن مِنْ أجَلِّ وأعظم نعم الله تعالى على عباده المؤمنين أن يُبَلغهم شهر رمضان، فقد فضَّل الله هذا الشهر المبارك على سائر الشهور والأيام، فهو شهر تتنزل فيه الرحمات، وتُغْفَر فيه الذنوب والسيئات، وتُضاعف فيه الأجور والحسنات، وتُفتح فيه أبواب الجَنة، وتُغلق أبواب النار، ويعتق الله فيه عباده من النيران.

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يُبَشِّر أصحابه رضوان الله عليهم بقدومه، لِمَا فيهِ مِنَ الخيرِ الكثير، والفضائل والبركات العظيمة، فكان يقول لهم: (أتاكم شهر رمضان، شهرٌ مبارَكٌ، فرض اللهُ عليكم صيامَه، تُفتح فيه أبوابُ الجنَّة، وتُغلَق فيه أبوابُ الجحيم.. وفيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حُرِم) رواه النسائي.

وقد وردت الكثير من الأحاديث النبوية الصحيحة التي تبيّن فضل شهر رمضان وما فيه من خيرات ورحمات، وفضائل وبركات، ومن ثم فالمسلم ينتظره بلهفة وشوق، ويفرح ويستبشر به، ويُحْسن استقباله والاستعداد له بتوبة صادقة، وعزم على الاجتهاد والعبادة فيه، حتى يَعُمَّ عليه خيره وفضله، ويكون فيه من المقبولين الفائزين الرابحين..

ولِعِظَم شهر رمضان وما فيه مِن خيرات وبركات وعِتق من النار، أمَّن النبي صلى الله عليه وسلم على دعاء جبريل عليه السلام حين دعا على مَنْ أدرك رمضان وأصر على معصية الله، وعدم التوبة إليه، ولم يستغل أوقاته وأيامه في طاعته وعبادته. كما في حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل فقال: يا محمد ! من أدركَ أحدَ والديْهِ فمات فدخل النار فأبعدَه الله، قُل: آمين، فقلتُ: آمين، قال: يا محمد ، مَن أدرك شهرَ رمضانَ فماتَ فلم يُغْفَرْ لهُ فأُدْخِلَ النَّارَ فأبعدَه الله، قُل: آمين، فقلتُ: آمين، قال: ومن ذُكِرْتَ عندَه فلم يُصَلِّ عليكَ فماتَ فدخلَ النَّارَ فأبعدَه الله، قُل: آمين، فقلتُ: آمين) رواه الطبراني.

هذا الحديث النبوي فيها دعاء بالخسران على مَن بلَغ أبَواه سِنَّ الكِبَرِ فلم يَجتَهِدْ في بِرِّهما، وكل مَن أدرَك شهر رمضان فلم يتب إلى الله، ولم يحافظ ويَجتَهد في طاعته وعبادته حتَّى انتَهى الشَّهرُ ولم يُغفَرْ له، وكذلك مَن ذُكِر عِنده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُصَل عليه.. قال الطيبي في "الكاشف عن حقائق السنن": "وكذا شهر رمضان شهر الله المُعَظَّم، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}(البقرة:185)، فمَنْ وجد فرصة تعظيمه بأن قام فيه إيمانا واحتسابا عَظَّمَه الله، ومَنْ لم يعظمه حقَّرَه الله تعالي".. وأي خسارة وحِرْمان أعظم مِنْ أن يدخل المرء فيمن عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ورَغِمَ أنفُ رجل دخل عليه رمضانُ ثُم انْسَلَخ قبل أن يُغفرَ له) رواه الترمذي .فالمُصر على معصية الله عز وجل في رمضان، وعدم التوبة والإنابة إليه سبحانه، مستحقٌّ لدعاء جبريل عليه.

وما ذالك إلا لزيادة دواعي الخير في هذا الشهر المبارك، وضعف دواعي الشرِّ، ولِما اجتمع في هذا الشهر المبارك مِنْ فضلٍ وخير ما لم يجتمع في غيره من سائر الشهور والأيام، فهو موسم غفران الذنوب، وتكفير السيئات، شهر تفتح فيه أبواب الجِنان، وتغلق فيه أبواب النيران، ويُنادي فيه منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار في هذا الشهر، وذلك كل ليلة. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كانت أوَّل ليلةٍ من رمَضان صُفِّدت الشَّياطينُ ومَردةُ الجِنِّ، وغلِّقت أبَوابُ النَّارِ فلم يُفتَحْ منها بابٌ، وفُتِحت أبوابُ الجنَّةِ فلم يُغلَقْ منها بابٌ، ونادى منادٍ: يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ، ويا باغيَ الشَّرِّ أقصِر، وللَّهِ عتقاءُ منَ النَّارِ وذلِك في كلِّ ليلة) رواه ابن ماجه..

فالذين يدخلون شهر رمضان بالإصرار على المعاصي، ويخرجون منه مثلما كانوا قبله، ولم يورث هذا الشهر المبارك عندهم توبة صادقة مع الله، ولا إقلاعاً عن الذنوب والسيئات، ولا حرصا على الطاعات والعبادات، فهؤلاء من الخاسرين المحرومين لأنهم لم يستفيدوا من رمضان.. وإذا كان الله تعالى قد دعا عباده إلى التوبة الصادقة النصوح في كل وقت وزمان، فإن التوبة في رمضان أوْلى وآكد، لأنه شهر تُسْكَبُ فيه العَبرات، وتُقال فيه العثرات، وتُعتق فيه الرقاب من النار، ولله في كل ليلة عتقاء من النار، ومن لم يتب في رمضان فمتى يتوب؟! فالخاسر حقاً هو مَنْ أدرك شهر رمضان ولم يتب فيه إلى الرحمن، ولم يحافظ ويسارع فيه إلى العبادات والخيرات.. عن الحسن قال: "إن الله جعل شهر رمضان مِضماراً (سباقاً) لِخَلْقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا"..

فائدة:

1 ـ التوبة الصادقة تمحو الخطايا والسيئات مهما عظمت، فإن الله تبارك وتعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، بل إن الله تعالى بفضله يبدل سيئات التائب إلى حسنات، قال الله تعالى في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}(الفرقان:70:68). قال الطبري: "عن ابن عباس، قوله: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قال: هم المؤمنون كانوا قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن ذلك، فحوّلهم إلى الحسنات، وأبدلهم مكان السيئات حسنات". وقال السعدي: "{فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} أي: تتبدل أفعالهم وأقوالهم التي كانت مستعدة لعمل السيئات تتبدل حسنات، فيتبدل شركهم إيمانا، ومعصيتهم طاعة، وتتبدل نفس السيئات التي عملوها ثم أحدثوا عن كل ذنب منها توبة وإنابة وطاعة تبدل حسنات كما هو ظاهر الآية".. وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل: (يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُون باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ) رواه مسلم. وفي حديث آخر: (يا ابن آدم إنَّكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفَرتُ لَك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبُك عَنان السماء ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لَك، ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ إنَّك لو أتيتَني بقراب الأرض خطايا ثمَّ لقيتَني لا تشرِك بي شيئًا لأتيتُكَ بقرابِها مغفرة ) رواه الترمذي.

2 ـ رمضان من أعظم مواسم التوبة والمغفرة، والعتق من النار. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصّلوات الخَمْس، والجُمعة إلى الجمعة، وَرَمَضَان إلى رَمَضَان، مُكَفِّرَاتٌ ما بيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الكَبَائِر) رواه مسلم. وعن أبي أُمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله عند كل فطر عتقاء، وذلك في كل ليلة) رواه أحمد. وفي صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه)..

3 ـ للتوبة شروط لابد من توفرها لكي تكون صحيحة مقبولة: أولها: أن تكون خالصة لله تعالى. ثانيها: أن تكون في زمن الإمكان، أي قبل أن تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها، لم تنفع معها التوبة، قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} (الأنعام:158)، وقبل أن تبلغ الروح الحُلقوم، فإن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. ثالثها: الإقلاع عن الذنب، فلا يصح أن يدَّعي العبدُ التوبة، وهو مقيم على المعصية. رابعها: الندم على ما كان منه، والندم ركن التوبة الأعظم. خامسها: العزم على عدم العودة إلى الذنب في المستقبل. سادسها: رد الحقوق إلى أصحابها والتحلل منهم، إن كان الذنب مما يتعلق بحقوق المخلوقين..

شهر رمضان تاج على رأس الزمان، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم ـ لِما علموه مِنْ خيره وفضله ـ يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم هذا الشهر الطيب المبارك، ويدعون الله تعالى ستة أشهر بعده أن يتقبله الله منهم.. وشهر رمضان فرصة ذهبية ـ قد لا تتكرر فالموت يأتي فجأة ـ ليبدأ الإنسان فيه صفحة جديدة بتوبة صادقة مع الله عز وجل، وذلك بالاستقامة على طريقه سبحانه، والمحافظة على طاعته وعبادته، فهو شهر مَنْ رُحم فيه فهو المرحوم، ومن حُرِم خيره فهو المحروم، فحري بنا أن نسارع بتوبة صادقة مع الله.. فهنيئاً ثم هنيئاً لمن أدرك رمضان وتاب إلى الرحمن، وفي المقابل يا خسارة مَنْ أدرك شهر رمضان ولم يتب إلى الله، وأصرَّ على المعاصي والسيئات، ولم يسارع فيه إلى العبادات والخيرات، وانتَهى الشهر ولم يُغفَرْ له..

عن اسلام ويب

المصدر: أخبارنا

كلمات دلالية: ن النبی صلى الله علیه وسلم صلى الله علیه وسلم قال هذا الشهر المبارک رضی الله عنه أن الله تعالى فیه أبواب شهر رمضان من النار إن الله ل علیه ن أدرک ل لیلة ل الله ما کان من الن ه الله

إقرأ أيضاً:

لماذا نحتفل بهجرة النبي فى شهر المحرم ؟

أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد إليها عبر موقعها الرسمي مضمونه:"هل حقًّا أن هجرة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كانت في ربيع الأول؟ ولو كانت كذلك، فلماذا نحتفل ببداية السَّنَة الهجرية ويوم هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر المحرم؟".

لترد دار الإفتاء المصرية، إن هجرته صلى الله عليه وآله وسلم كانت في ربيع الأول، وكان العزم عليها والاستعداد لها في شهر المحرم، ولهذا كانت بداية العام به، وكذا الاحتفال بها يكون في شهر المحرم، فيكون الاحتفال بها بمعنى الهجرة لا بخصوص يومها.

الحكمة من جعل الهجرة النبوية بداية التقويم الإسلامي

الهجرة حدث عظيم في تاريخ الأمة الإسلامية، استحقت أن تكون بداية للتقويم الإسلامي؛ لما مثلته من معانٍ سامية ورفيعة؛ إذ كانت دليلًا جليًّا على تمسك المؤمنين بدينهم؛ حيث هاجروا إلى المدينة تاركين وطنهم وأهلهم وبيوتهم وأموالهم، لا يرغبون في شيء إلا في العيش مسلمين لله تعالى؛ ولذلك مدحهم سبحانه وأشاد بهم؛ فقال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾[الحشر: 8]، كما أنها كانت البداية الحقيقية لإقامة بنيان الدولة، ووضع أحكامها التشريعية التي صارت أساسًا لإنشاء النظم المجتمعية، وضبط العلاقات الإنسانية والدولية، وإقرارًا لمبدأ التعايش والتعددية.

دعاء شهر محرم .. 5 كلمات رددها يفتحها الله لك فتحا عجيبادعاء شهر محرم .. ابدأ الشهر الفضيل بهذه الكلمات واحرص عليها عقب الصلواتبداية التقويم الهجري وأول من وضعه

يعرف تاريخ كلِّ شيء بأنه غايته ووقته الذي ينتهي، وأما عرفًا: فهو توقيت الفعل بالزمان؛ ليعرف ما بين قدر ابتدائه وأي غاية فرضت له، وقيل: هو عبارة عن يوم ينسب إليه ما يأتي بعده، وقيل: عبارة عن مدة معلومة تعد من أول زمن مفروض؛ لتعرف الأوقات المحددة، فلا غنى عن التاريخ في جميع الأحوال الدنيوية والأخروية. ينظر: "فيض القدير" للإمام المناوي (1/ 101، ط. المكتبة التجارية الكبرى).

وقد كانت العرب أول الأمر تؤرخ بعام الفيل، وهو عام مولده صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يزل التاريخ كذلك في عهد سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وعهد أبي بكر، رضي الله عنه، إلى أن وَلِي عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، فجمع الصحابة واتفقوا رضي الله عنهم على الهجرة بداية للتقويم الإسلامي.

فذكر الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (4/ 511، ط. هجر): نقلا عن الواقدي أنه قال: [حدثنا ابن أبي الزناد عن أبيه، قال: استشار عمر في التأريخ فأجمعوا على الهجرة] اهـ.

وقد بوَّب البخاري في "صحيحه" لذلك بقوله: "باب التاريخ ومتى أرخوا التاريخ"، وأورد فيه قول سهل بن سعد رضي الله عنه: "ما عدوا من مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا من وفاته، ما عدوا إلا من مقدمه المدينة".

قال ابن كثير (4/ 511): [وقال أبو داود الطيالسي: عن قرة بن خالد السدوسي، عن محمد بن سيرين، قال: قام رجل إلى عمر فقال: أَرِّخوا. فقال: ما أَرِّخوا؟ فقال: شيء تفعله الأعاجم؛ يكتبون: في شهر كذا من سنة كذا. فقال عمر: حَسَنٌ فأَرِّخوا. فقالوا: من أي السنين نبدأ؟ فقالوا: من مبعثه. وقالوا: من وفاته. ثم أجمعوا على الهجرة، ثم قالوا: وأي الشهور نبدأ؟ فقالوا: رمضان. ثم قالوا: المُحَرَّم؛ فهو منصرف الناس من حجهم، وهو شهر حرام. فاجتمعوا على المُحَرَّم] اهـ.

ثم قال (4/ 512): [وروى محمد بن إسحاق، عن الزهري، وعن محمد بن صالح، عن الشعبي، أنهما قالا: أرخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم، ثم أرخوا من بنيان إبراهيم وإسماعيل البيت، ثم أرخوا من موت كعب بن لؤي، ثم أرخوا من الفيل، ثم أرخ عمر بن الخطاب من الهجرة، وذلك سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة... والمقصود أنهم جعلوا ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة، وجعلوا أولها من المُحَرَّم، فيما اشتهر عنهم، وهذا هو قول جمهور الأئمة] اهـ.

يقول الزرقاني في شرحه على "المواهب اللدنية" (2/ 153، 154، ط. دار الكتب العلمية): [ولم يؤرخوا بالمولد ولا بالمبعث؛ لأن وقتهما لا يخلو من نزاع من حيث الاختلاف فيهما، ولا بالوفاة النبوية؛ لما يقع في تذكره من الأسف والتألم على فراقه] اهـ.

سبب التأريخ للعام الهجري بشهر المحرم

من المعلوم أن دخول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة كان في شهر ربيع الأول وإنما كان العزمُ على الهجرة والاستعداد لها في شهر المُحَرَّم بعد الفراغ من موسم الحج الذي وقعت فيه بيعة الأنصار؛ ثم قالوا: وأي الشهور نبدأ؟ قالوا: رمضان، ثم قالوا: المُحَرَّم، فهو مُنْصَرَفُ النَّاسِ مِنْ حَجِّهِمْ، وهو شهر حرام فاجتمعوا على المُحَرَّم.

قال الحافظ ابنُ كثير في "البداية والنهاية" (4/ 512) [والمقصود أنهم جعلوا ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة، وجعلوا أولها مِن المُحَرَّم فيما اشتهر عنهم، وهذا هو قول جمهور الأئمة] اهـ.

قال أبو القاسم السُّهيْلي في "الروض الأنف" (4/ 151، ط. دار إحياء التراث العربي): [قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة يوم الإثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل لثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول، وهو التاريخ فيما قال ابن هشام] اهـ.

وقد سبق ذكر أثر سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أنهم ما عَدُّوا إِلَّا مِن مَقدَمِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الْمَدينة.

كما روى الحافظ البيهقي عن أبي البَدَّاح بن عاصم بن عدي، عن أبيه، قال: "قدِم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، فأقام بالمدينة عشر سنين".

وفي روايةٍ عن ابن شهاب، قال: "كان بين ليلة العقبة وبين مهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أشهر أو قريب منها، وكانت بيعة الأنصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة في ذي الحجة، وقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة في شهر ربيع الأول، وتوفي في ربيع الأول لتمام مهاجره من مكة إلى المدينة عشر سنين". ينظر: "دلائل النبوة" للإمام البيهقي (2/ 511، ط. دار الكتب العلمية).

وما ذُكر هو مذهب الجمهور، ولم يخالف سوى ابن حزم رحمه الله؛ فمذهبه أن أول السنين الهجرية شهر ربيع الأول الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مهاجرًا، ولكن لم يتابَع عليه؛ إذ الجمهور على أن أول التاريخ من محرم تلك السَّنَة.

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (7/ 464، ط. دار المعرفة) عن غزوة خيبر: [وحكى ابن التين عن ابن الحَصَّار أنها كانت في آخر سَنَة ست، وهذا منقول عن مالك، وبه جزم ابن حزم، وهذه الأقوال متقاربة، والراجح منها ما ذكره ابن إسحاق، ويمكن الجمع بأن مَن أطلق سَنَة ست بناه على أن ابتداء السَّنَة من شهر الهجرة الحقيقي، وهو ربيع الأول] اهـ.

وقد حاول العلماء طلب مناسبة اختيار المُحَرَّم لبداية التاريخ، فذكروا حرمته وفضله؛ قال الحافظ السخاوي في "فتح المغيث" (4/ 306، ط. مكتبة السُّنَّة): [لكونه شهر الله، وفيه يُكسى البيت، ويُضرب الوَرِق، وفيه يوم تاب فيه قوم فتيب عليهم] اهـ.

وقيل: لأن فيه اجتماعًا للأشهر الحرم في السَّنَة الواحدة؛ قال أبو هلال العسكري في "الأوائل" (ص: 151، ط. دار البشائر- طنطا): [أراد بذلك اجتماع الأشهر الحرم في سنة واحدة] اهـ.

وقيل: "لكونه وقت انصراف الناس وصدَرهم إلى بلادهم؛ قالوا: قدم المدينة في ربيع الأول؛ لأنه منصرف الناس من حجهم، وهو شهر حرام". ينظر: "التوشيح" للإمام السيوطي (6/ 2474، ط. مكتبة الرشد).

جاء في "الإشارة إلى سيرة المصطفى وتاريخ من بعده من الخلفا" للحافظ مغلطاي (1/ 168، هامش 1، ط. دار القلم، الأولى ت: الفتيح): [وقالوا في سبب جعله من المُحَرَّم على الرغم من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة في ربيع الأول: لأنه منصرف الناس من حجهم، وهو شهر حرام، فأجمعوا على المُحَرَّم. وفي قول آخر: لتجتمع الأشهر الحرم في سَنَة واحدة] اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (7/ 268): [وقد أبدى بعضهم للبداءة بالهجرة مناسبة؛ فقال: كانت القضايا التي اتفقت له ويمكن أن يؤرخ بها أربعة: مولده، ومبعثه، وهجرته، ووفاته، فرجح عندهم جعلها من الهجرة؛ لأن المولد والمبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السَّنَة، وأما وقت الوفاة فأعرضوا عنه؛ لما توقع بذكره من الأسف عليه، فانحصر في الهجرة. وإنما أخروه من ربيع الأول إلى المُحَرَّم؛ لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المُحَرَّم؛ إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة، وهي مقدمة الهجرة، فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المُحَرَّم، فناسب أن يجعل مبتدأ، وهذا أقوى ما وقفت عليه من مناسبة الابتداء بالمُحَرَّم] اهـ.

الحكمة من الاحتفال بالسنة الهجرية في شهر المحرم

أما فيما يتعلق باحتفالنا بالسَّنَة الهجرية في شهر المُحَرَّم من كلِّ عام، فهو احتفال بما مثَّلته من معانٍ سامية ورفيعة، كالرغبة في العيش بسلامٍ، وهجران كل قبيح إلى كلِّ صحيح، وذلك بمجاهدة النفْس وتزكيتها، وهو أمر مُرغَّب فيه شرعًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» رواه الشيخان.

قال الإمام النووي في "شرح مسلم" (13/ 8، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفي هذا الحثُّ على نيةِ الخير مطلقًا، وأنه يُثاب على النية] اهـ.

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «المُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» رواه البخاري.

قال العلَّامة ابن حجر في "فتح الباري" (11/ 319): [أعلَمَهم أنَّ مَن هجَر ما نهى الله عنه كان هو المهاجر الكامل... وهذا الحديث مِن جوامع الكَلِم التي أُوتِيها صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.

وفي الاحتفال بهذا الموسم المبارك امتثال للأمر القرآني بتذكر أيام الله تعالى، وما فيها من نعمٍ وعبرٍ وآيات؛ قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ [إبراهيم: 5].

وكذلك هو وسيلة لتذكر نصر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم في الهجرة على مشركي مكة، بأن يسر له أمر الانتقال إلى المدينة والدعوة إلى الله فيها وحفظه من إيذاء المشركين، وانتقل بذلك من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، مما كان سببًا لنصرة الإسلام وسيادته؛ قال تعالى: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40]، والوسائل لها حكم المقاصد.

طباعة شارك لماذا نحتفل بهجرة النبي فى شهر المحرم شهر المحرم الهجرة النبوية الحكمة من جعل الهجرة النبوية بداية التقويم الإسلامي بداية التقويم الهجري وأول من وضعه سبب التأريخ للعام الهجري بشهر المحرم الحكمة من الاحتفال بالسنة الهجرية في شهر المحرم

مقالات مشابهة

  • فضل صيام يوم عاشوراء.. يكفر ذنوب 365 يوما
  • علي جمعة: البعض يرفض روح التعاون والإيثار بين أصحاب النبي فى الهجرة
  • أنوار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
  • في يومٍ الجمعة.. أذكار تملأ القلب نورًا وطمأنينة
  • فضل يوم الجمعة وأهم السنن فيه.. تعرف عليها
  • الجوازات تواصل تقديم خدماتها لتسهيل مغادرة ضيوف الرحمن من إيران عبر منفذ جديدة عرعر
  • أنوار الصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام
  • لماذا نحتفل بهجرة النبي فى شهر المحرم ؟
  • أفضل الصيام بعد شهر رمضان.. اغتنم هذا اليوم من محرم يكفر ذنوب سنة
  • مديرية أوقاف بأسيوط تنظِّم ندوة للفتيات بعنوان: "الأخلاق والقيم طريق النجاح"