إذا كنتُ، وما أزال، أتحرَّج من التحدث عن سيرة حياتي، خشيةَ الوقوع في تزكية النفس، فلعلي لا أجد نفس الحرَج إن أنا تحدثت، في هذا المحفل المبارك، عن مسيرتي الفلسفية، تعريفًا بمسؤوليات الفيلسوف؛ وأقول، بمعونة الله، كان حالي ولا يزال، في كل طور من أطوار هذه المسيرة، أن تَـملك عليَّ "أحداث الساعة الفاصلة في حياة الأمة" مداركي ومشاعري، فأبادر إلى البحث عن الجواب عن الأسئلة الكيانية والمصيرية التي تطرحها؛ وأجتهد، ما وسعني ذلك، في أن أستخرج، من جزئيات الحدث الفاصل، جملةً من المعاني الكلية، فأُنشئ منها قضايا وأدلة، وأحيانًا، نظريات من شأنها أن تنتج إمكانات فكرية تفيد في استجلاء وحلّ الإشكالات التي يثيرها هذا الحدث الفاصل.

حتى إن هذا الحدث لَينزل مني منزلة الثغر، وأَنزِل منه منزلة المرابط؛ ولم أزدد، مع مرِّ الأيام، إلا يقينًا بأنه لا فكر بحق بغير ثغر، فمن لا ثغر له لا فكر له؛ ألا إن "الخاصية الثغرية" و"الخاصية الفكرية" متلازمتان تلازم البدن والروح! بحيث يصحّ أن نقول: "الفكر إنما هو قوام الثغر"، و"الثغر إنما هو لباس الفكر"، أو نقول: "الفكر هو مخبر الثغر"، والثغر مظهر الفكر".

ثغر العقل

لقد آن الأوان، كما سيتضح بعد حين، أن نجعل من "الثغرية" مفهومًا إجرائيًا نحدِّد به "صدق" ادعاءات الفيلسوف، بل أن نتخذ منها معيارًا حاكمًا يبتّ في "قيمة" توجهاته.

وهكذا، فكما أنّ "الإعلامي ابن لحظته"، وأنّ "المؤرخ ابن حقبته"، وأن "السياسي ابن ظرفه"، وأن "الصوفي ابن وقته"، فكذلك "الفيلسوف هو ابن ساعته"، وتبقى لكلِّ واحد منهم خصوصيته الزمَنية واختياراتُه المنهجية؛ ولولا أني خشيت ألّا أوفي بما طُلب مني – ألا وهو نظرة إجمالية عن كلية مساري الفلسفي! – لكنت قد اكتفيت بالتفلسف في "الحدث الأعظم" الذي يـميِّز الساعة التي تـمّر على الأمة حاضرًا، والذي أسميه: "الشر المطلق".

ولا يسعني إلا أن أذكُر لكم بعض الثغور التي حدَّدت مسيرتي؛ فأول ثغر لزِمتُه هو "ثغر العقل"، فقد أحدثَت هزيمة 1967 هزة عظيمة في كياني لم يذهب عنى أثَرُها حتى رابطت اليوم في ثغر "الشر المطلق"؛ إذ شغلني آنذاك السؤال: "أي عقل هذا الذي هزم العرب جميعًا! فأخذت على نفسي أن أجتهد في بناء عقل عربي مبدع غير منسلب، ومتحرّر غير متسيّب؛ فاتخذ هذا البناء العقلي الذي استغرق زمنًا غير قصير صورتين:

إحداهما صورة منطقية، وهي بيان كيف أن الإبداع العقلي لا يُتوصَّل إليه إلا بامتلاك العُدّة المنطقية في أحدث تطوّر لها، ذلك أن العمليات العقلية المنتجة لـ"المعرفة"، على وجه الخصوص، كالتعريف والتدليل والتعليل والتنظير وغيرها، لا تُفحَص ولا تصحّ إلا بهذه العدة؛ ومتى فُحصت وصحّت، انفتح باب "الإبداع المعرفي" لمن يأتي بهذا الضرب من العمليات العقلية.

والصورة الثانية لهذا البناء صورة فلسفية، وهي بيان كيف أن التحرر العقلي لا يُتوصَّل إليه إلا بامتلاك القدرة الفكرية في أحدث تشكُّل لها، ذلك أن العمليات العقلية المنتجة لـ"الثقافة"، على وجه العموم، كالتواصل والتفاعل، والتخاطب والتحاور، والنقل والفهم، والعرض والنقد، والتفسير والتأويل، لا تُقوَّم ولا تستقيم إلا بهذه القدرة؛ ومتى قُوّمت واستقامت، انفتح باب "الاستقلال الثقافي" لمن يأتي بهذا الضرب الثاني من العمليات العقلية.

وقد سمَّيت هذا المجهود المبذول في بناء فكر عربي مبدع ومتحرر: "الفلسفة التداولية".

الطعن في التراث

ثم كان ثغري الثاني هو ثغر التراث؛ فقد كانت "الساعة" يومئذ تضج بالهجوم على التراث العربي والإسلامي، طعْنًا في مختلف معارفه ومضامينه، وقدحًا في أعلامه ورجالاته، كل ذلك افتتانًا بالمنهجيات المنقولة؛ فتعيَّن علي، بحكم معرفتي بهذه المنهجيات المغرية، أن أُنصف هذا التراث، كاشفًا أصول المنهجية التكاملية التي يختص بها، والتي يَبْرز فيها بديع الإنشاء ومتميِّز الإبداع.

ثم تلا هذا الثغر ثغر الحداثة؛ فقد كانت "الساعة"، يومئذ، تنادي بالتكبير للحداثة والانتصار المطلق لها، حتى كأن الإنسانية لم تعرف أبدًا العلم، ولا التقدم، ولا العدل، إلا مع أهلها المنسوبين إلى "التنوير" و"التثوير"، كل ذلك بثًا لروح العجز واليأس في نفوس أبناء الأمة؛ فكان واجبي، وقد أحطتُ بأسباب الحداثة في عُقر ديارها، أن أكشف أضاليل هذا التهويل، وأُبرِز حقيقة الحداثة وحدودها.

فميزتُ بين "صُوَر الحداثة" وبين "روح الحداثة"؛ أما صورها، فتختلف باختلاف المجتمعات التي تدعي الانتساب إلى الحداثة؛ وأما روحها، فتشترك فيها الحضارة الغربية مع غيرها من سالف الحضارات، بما فيها "الحضارة الإسلامية"؛ كما بينت كيف يمكن لنا، نحن العرب والمسلمين، استرجاع هذه الروح المفقودة، والانبعاث من جديد، واستئناف التقدم المطلوب.

أما الثغر الرابع، فهو ثغر الأخلاق؛ ولا أخفيكم أني كنت أرابط في هذا الثغر منذ الهزيمة المنكرة، إذ كنت أعتبر أن سبب هذه الهزيمة سببان أساسيان، وهما: "انسداد العقل" و"انقباض الأخلاق"؛ فبدأت بإظهار مرابطتي في "ثغر العقل"، وأبطنت مرابطتي في "ثغر الأخلاق"، ولم أزَل أُبطنه في مختلف الثغور، حتى فرغت من أداء واجباتي في الثغور الثلاثة المذكورة، فأظهرت، حينها، بقوة مرابطتي في "ثغر الأخلاق"، وجعلت هذه المرابطة مرحلتين:

أولاهما، مرحلة كشف الآفات التي أصابت الأخلاق في الحداثة؛ والسبب في هذه الآفات هو، على التعيين، فصل الأخلاق عن كل مجالات الحياة من أجل نبذها؛ إذ فُصِلَت الأخلاق عن الفن والثقافة؛ وفُصلت عن الفكر والعلم؛ وفُصلت عن السياسة والقانون؛ بل فُصلت عن الإيمان والدين، وهو الذي كان، في الأصل، مهدَها ومُـمدَّها، كل ذلك باسم مبدأين متناقضين: "إطلاق الحرية" و"حفظ الموضوعية"، فأصبح الإنسان الحداثي كائنًا معزولًا عن الأخلاق، بل محجوبًا عنها بإطلاق؛ ولا نستغرب أن يُصار، حينذاك، إلى تشريع "الـمِثلية"، باعتبارها حقّا مشروعًا في زمن الحداثة.

المرحلة الثانية، مرحلة إعادة بناء الأخلاق على أسس إيمانية؛ هذه الأسس ينبغي أن تكون قادرة على علاج "الكسور" التي لحقت ذات الإنسان الحديث، حتى تعود هذه الذات إلى الانجبار بعد طول انكسار، بسبب التمادي في الفصل بين ميادين الحياة؛ لذلك، أقمت هذا البناء الأخلاقي على مبدأ أساسي قد يسمَّى: "مبدأ رجحان الإيمان"، وصيغته هي: "ينبغي أن يكون عنصر "الإيمان"، في تدبير المجتمع، بنفس القوة التي لعنصر "التقدم العلمي والتقني" أو بقوة أكبر، حتى يقدِر على دفع أخطاره".

تأسيس الأخلاق

من المعروف أن الفكر الحديث يُسلّم بأن المجتمع تأسس، أصلًا، على "مبدأ العقد"، مع العلم بأنه يعتبر أن التعامل الأخلاقي ينحصر في نطاق تعامل أفراد المجتمع بعضهم مع بعض؛ وحينها، يلزم أن يكون المقابل الإيماني لـ"مبدأ العقد" هو بمِثل قوة هذا المبدأ؛ ونظفر بهذا المقابل في الكتب المنزلة، ألا وهو "الميثاق"!

فلمّا سلَّم الفكر الحديث أن المجتمع الذي يختص، بحسبه، بالتعامل الأخلاقي، تأسَّس، أصلًا، على "العقد"، فقد لزم، بناءً على المبدأ المذكور، أن يكون مقابلُه الإيماني بمِثْل قوَّته على الأقل؛ ونظفر بهذا المقابل في الكتب المنزَلة، ألا وهو "الميثاق"! و"الميثاق" أقوى من "العقد"، لأن "العقد" عند المحدثين لا يعدو كونه استنساخًا عِلمانيًا لـ"الميثاق"، والنسخة أدنى من الأصل.

لذلك، اشتغلت بتأسيس الأخلاق على مبادئ الميثاق الإلهي، بدل مبادئ العقد البشري؛ ومن هذه المبادئ أن علاقة الإنسان بالعالم ليست، كما تقرّر في الفكر الحديث، علاقةَ سيادة، وإنما هي علاقة أمانة، وأن الأمانة توجب تبعية الحقوق للواجبات، إذ الواجب مُقدَّم على الحق، كما توجب تبعية المسؤولية الجزئية للمسؤولية الكلية، إذ الكل مُقدَّم على الجزء، وتوجب تبعية الواقع للقيمة، إذ القيمة مقدَّمة على الواقع.

فاهتديت، بحمد الله، إلى إنشاء فلسفة أخلاقية تستبدل، بـ"الفصل العلماني"، "الوصل الإيماني"؛ ولمَّا كانت أصالة "الميثاق" أمرًا يقينيًا، فلا بد أن ينزل "الوصل الإيماني" في قوة التدبير أعلى من رتبة "الفصل العلماني" لثبوت تبعية "العقد"؛ وسمَّيت هذه الفلسفة: "الفلسفة الائتمانية".

أما الثغر الخامس والأخير الذي أرابط فيه الآن هو "ثغر الشر المطلق"، علمًا بأن "الشر المطلق" مسألة أخلاقية قصوى؛ لذلك، كان أول مفهوم تعاطيت التفكر فيه هو مفهوم "المرابطة" في حد ذاته، فلا أحوج إلى الرباط من هذا الثغر؛ ثم مضيت إلى التفكر في مسألة "الشر المطلق" في حد ذاتها، موجَّهًا بالأسئلة الآتية: كيف يظهر الشر المطلق؟ وما طبيعته الجوهرية؟ وما أسبابه الخفية؟ وما آثاره البعيدة؟ وكيف يمكن أن نتقيه بقوة؟

فقد كان هذا الشر موجودًا، لكنه لم يكن ظاهرًا بكليته، أما الآن وقد قَدَر المقاوم، في أرضنا المقدَّسة، على ما لم يكن يقدِر عليه من قبل، وهزم هازمه، ومَحق كبرياءه، فقد ظهر هذا الشر في صورة أعمال مؤذية إيذاء يختص بصفتين أساسيتين: إحداهما، أنه يتحدى العقلَ، إذ لا يقدِر "العقل" على تصوُّره، فضلًا عن تصديقه، كما يتحدى الإرادةَ، إذ لا تقدِر "الإرادة" على قصْده، فضلًا عن تخيُّره؛ والصفة الثانية، أنه إيذاء لا ينفَد ولا ينحدّ؛ فلو قلَّبنا هذه الأعمال المؤذية على أي وجه من الوجوه الممكنة، فلا نجد فيها ذرة خير، بل بقدر ما نواصل تقليب هذه الوجوه، يشتد، في أعيننا، ظهور الأذى فيها، حتى كأن هذا الإيذاء لا نهاية يقف عندها.

اقتحام واقتناص

وما هذا الإيذاء اللامعقول واللامحدود إلا من أجل الوصول إلى غرضين غاية في المنكر؛ أحدهما، تعطيل المواثقة، إذ المواثقة تكون بين الإنسان وأخيه الإنسان كما تكون بين الإنسان وخالقه؛ والثاني تخريب الفطرة، إذ الفطرة هي مستودع القيم في باطن الإنسان؛ وبذهاب "المواثقة" و"الفطرة"، لا تبقى ثمة "إنسانية"؛ وهكذا، فإن "الشر المطلق" ليس مجرد تأزيم للأخلاق، ولا حتى قلْبًا لها إلى أضدادها، وإنما هو محو للأخلاق بالكلية، بحيث يفقد الإنسان القدرة على تمييز الخير من الشر، والحق من الباطل.

لذلك، وجب التصدّي لهذا الشر وجوب عين كما لم يجب شيء من قبلُ، إذ يستلزم من المسؤوليات، كمًّا وكيفًا، ما لا يستلزمه غيره؛ ولا يمكن أن يُستغنى، في تحديد هذه المسؤوليات الثقيلة، بالعقل وحده، بل لا مفرَّ من أن يستعين العقل بالوحي، مبرهنًا، بهذه الاستعانة، على صدقه، ذلك لأن قتل النفس بغير حق هو بمثابة قتل الناس جميعًا، وأن هدْمَ القيمة الواحدة بغير موجب هو بمثابة هدْم القيم جميعًا.

وهذه المماثلة الروحية بين "الواحد" و"الكل" بخصوص النفس والقيمة، لم يتوصّل إليها العقل المجرَّد، وأنىَّ له ذلك! لأن "الكل" متعدد، و"الواحد" لا تعدد فيه، والجمعُ بينهما، في نطاق هذا العقل، محال، وإنما الوحي هو الذي أخبرنا بهذه المماثلة العجيبة، ودلّنا على أسبابها، وحثَّنا على طلب هذه الأسباب؛ فهاهنا إذن مسؤوليتان عظيمتان: "المسؤولية عن الإنسانية جمعاء" و"المسؤولية عن القيم جمعاء".

وليس إلا أمر واحد سبيلًا إلى بقاء العالم، وإلا فمصيره الفناء المحتوم، وهو، بالذات، أن يأخذ الإنسان هاتين المسؤوليتين العظيمتين بقوة؛ فلما كان الأشرار الإطلاقيون، يراكمون، بغير انقطاع، قدراتهم العلمية والتقنية المجرَّدة من القيم، فلا مأمن من انطلاق شرّهم المستطير في أية لحظة، لا ليفتك بأمة مستضعفة هنا أو هناك بغير حسيب ولا رقيب، وإنما ليجرّبوا مطلق شرهم، حتى لو كان ذلك بمحو العالم كله.

فهل، بعد هذا، من ثغر أكبر خطرًا، وأكثر فِكَرًا من هذا الثغر! والفيلسوف، وهو يدّعي، أصلًا، اقتحام الأخطار واقتناص الأفكار، إن لم يرابط بهذا الثغر، تفكيرًا وتنظيرًا وتبصيرًا، متصدّيًا لشر مستطير لم تشهده الإنسانية من قبل، فلا جدوى من وراء ادعاءاته، إذ يكون قد ضيّع أيَّما تضييع ما يستحق أن يكون به، في هذه الساعة، فيلسوفًا بحق.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ حريات الشر المطلق ر العقل أن یکون

إقرأ أيضاً:

د.حماد عبدالله يكتب: "مصر" التى فى خاطرى !!



هذا الوطن العظيم ( مصر ) نعيش فيه، ونحلم بأن يصبح أجمل الأوطان، ونسعي كلِ بقدرِ في إضافة شيء مما نعلمه أو تعلمناه أو حبانا الله به في أن نضيف لهذا الوطن جديدًا. 
هذا ينطبق علي غالبية عظمي من شعب مصر فالطبيب، والممرض،والصيدلى يعمل الان فى ظروف صعبة أقل ما توصف بها أنها حالة ( حرب كونية) وكذلك المدرس رغم ظروف صعبة تواجهه، إلا أن أغلبيه عظمي منهم تؤدي واجبها بأمانه وشرف وتعمل علي أن يترعرع طفل أو شاب بعلم ويصبح نافع لمستقبله، وكذلك في الجامعات غالبيه عظمي أيضًا تنتمي لهذه الفئة البنائة من أبناء شعب مصر وفي قطاعات الدولة كلها من القوات المسلحة إلي الشرطة إلي الصحة إلي الإقتصاد إلي السياسة إلي المؤسسات الدينية " أزهر وكنيسة قبطية، أغلبية عظمي من شعب مصر بإختلاف طوائفهم وإنتمئاتهم المهنية والدينية، أثق تماما ً بأنهم يضيفوا لهذا الوطن، وإلا ماكنا اليوم مانحن عليه، رغم ضيق الحال، وصعوبة الحياة، وتعثر في المقاصد ولكن دون إخلاص الغالبية ماكانت مصر كما هي اليوم، قادرة وشامخة وواقفة علي قدمين ثابتتين وحسب كل المقاييس، لا يمكن لمصر أن تكون دولة فقيرة! بل الأدق أنه يجب ألا تكون مصر دولة فقيرة! 
- فدولة بها ١٤٥ منطقة أثرية مسجلة لدى اليونسكو، أى ثلاثة أضعاف أكثر دول العالم آثارًا، وبها أعرق حضارات العالم وأميزها، وتملك ٣٢٠٠ كم من الشواطئ الدافئة على بحرين، كان يجب أن تكون الأولى على مستوى العالم سياحيًا وبجدارة، لا أن تقبع في المركز ٣٤-٣٦ بعدد سياح لا يتجاوز ١٥ مليون سائح فقط، أي أقل من زوار ڤيتنام، أو جزيرة ماكاو! منذ أيام، صوّر أمريكي جزءًا من حفل زفافه عند الأهرام شاهده مليار شخص في العالم! وكتب هو وزوجته أن مصر أرض الأحلام، فالعالم يتوق إلى زيارتها، لكن كيف لا نترجم ذلك إلى ثروة؟
- دولة بها ١٠٦ ملايين مواطن، منهم ٦٠ ٪؜ تحت سن الثلاثين، أي لديها طاقة بشرية وإنتاجية مذهلة، لم تستغلها حتى الآن الاستغلال الأمثل في الصناعة والتصدير مثلما فعلت فيتنام والفلبين، وكلتاهما لها تعداد السكان نفسه، وكلتاهما بلا أدنى موارد تذكر، فالأولى تصدر الآن ما قيمته ٣٧١ مليار دولار سنويًا، وتصدر الثانية ما قيمته ١٠٣ مليارات دولار، في حين أننا نصدر ما قيمته ٥٤ مليار دولار فقط، معظمها صادرات غير صناعية!
- دولة في موقع جغرافي عبقري بين قارات ثلاث، كما كتب المرحوم د. جمال حمدان، ولم تفكر يومًا أن تصبح مركزًا للطيران العالمي وسياحة الترانزيت، وتترك المهمة لدبي وقطر وتركيا، ليكون عائد دبي الاقتصادي من الطيران عبرها ٥٣ مليار دولار سنويًا! 
- دولة يمر من خلال قناتها نحو ثلث حاويات العالم، ولا تملك حتى الآن واحدًا في المئة من الحاويات التي تحمل علم بنما، التي تقدر بنحو ٨٠٠٠ سفينة حاويات، ومع أن دخل قناتهم القصيرة من رسوم العبور ٥ مليارات دولار سنويًا، ولا يشكل أكثر من ٣ ٪؜ من الدخل القومي، فإن معظم دخلها القومي يأتي من التفريغ والشحن بأسطولها الذي هو حاليًا ضعف الأسطول التجاري الأمريكي! 
- دولة بها إنتاج واحتياطي كبير من الغاز وعندها شمس ساطعة وهواء للطاقة البديلة قد يكفي نصف استخدامها أو أكثر!
- دولة عندها أخصب تربة زراعية ولديها مناخ معتدل طوال السنة، وتستورد القمح والذرة والسكر والزيوت، ولا تكفي نفسها! 
- دولة بها ثروة معدنية كبيرة، وجبال من الرخام الخام، ورمال هي من الأعلى عالميًا في نسبة السيلكا، ولكنها تستورد أكثر مما تصدر، ولا تصنع معظم ما تريده! 
وحين نتساءل: لماذا نحن كذلك؟ أجيبكم بصراحة، وبعيدًا عن المبررات المعتادة، ومن خلال الأرقام التي لا تخطئ؛ أن مصر ذات أداء متواضع جدًا من حيث البنية التحتية المعرفية، فتحتل المرتبة الـ٩٠ من بين ١٣٣ دولة في فهرس المعرفة العالمي، ما يعني أننا لا ندرك حتى الآن أهمية التعليم، ولم نوله- مع الأسف- ما يستحق، في حين أدرك العالم بأجمعه، شرقه وغربه، أن التعليم الأولي والحكومي والمجاني ذا الجودة العالية هو أساس التقدم ومفتاحه. 
ومصر- مع الأسف- أيضًا في المرتبة الـ٢٤ من بين ٢٨ دولة في معدل التنمية البشرية العالية. 
وانحدرت- مع الأسف- من المرتبة الـ٤٦ في معدل الفساد عام ١٩٩٦ إلى المرتبة الـ١٠٨ من بين ١٨٠ دولة عام ٢٠٢٣، وإن كانت أفضل بكثير من ترتيبها (١٣٠) عام ٢٠٢٢.  
سؤال بصراحة شديدة: مَن المستثمر الذي يعرف هذه الأرقام ويأتي للاستثمار عندنا ؟لكل هذه الأسباب أصبحت مصر حقًا فقيرة ومَدينة، وكان من الأجدر أن تكون الآن من أغنى دول العالم، بل أسعدها، لو فقط اهتمت بالتعليم، ومحاربة الفساد، وعملت على الاستثمار الحقيقي والجاد في الإنسان بتنميته البشرية، وصحته، وتدريبه، والاستفادة من ثرواتها، وموقعها، وإمكاناتها البشرية الضخمة والمهدرة، وما غير ذلك حرث في بحر!  أنا اكتب ذلك من فرط حبي وعشقي لهذا البلد، وإيمانًا بقدرته وقدرة شعبه التي لم تستغل بعد. عشت وما زلت أرى مصر دولة عظيمة، وتستحق بالفعل مكانة أكبر، وأهم، وأفضل. 
هذا المقال جائنى جزء كبير منه من الأستاذ الدكتور/ أسامة حمدى – جامعة هارفارد.

مقالات مشابهة

  • فى محبة «متى المسكين»
  • قصواء الخلالي ليست الأولى.. موقع «Memri» يهاجم الديهي بسبب الصهيونية
  • روبرتسون «العقل المدبر» لمنتخب أسكتلندا في يورو 2024
  • د.حماد عبدالله يكتب: "مصر" التى فى خاطرى !!
  • خطة بايدن اليائسة لوقف النار.. هل يكتب لها النجاح؟
  • حكم الحج لمريض ألزهايمر وحالات سقوط الفريضة عنه
  • د.حماد عبدالله يكتب: نعيش عصر "السلطة" البلدى !!
  • تامر أفندي يكتب: 5 رسائل من راسلٍ بلا عنوان إلى "الصُدفة"
  • عابد عناني لـ "الفجر الفني": شخصية عوني كانت تحدي وأدوار الشر هي اللي بتنجح
  • «فضائل الأخلاق».. ندوة بمنتدى الشارقة الإسلامي