سميرة موسى أو مس كوري الشرق.. أول عالمة ذرة عربية
تاريخ النشر: 22nd, March 2024 GMT
سميرة موسى الملقبة بـ"مس كوري الشرق" هي أول عالمة ذرة مصرية، وأول امرأة تحصل على دكتوراه في الإشعاع الذري، كما أنها أول امرأة عربية تنال شهادة الدكتوراه، وأول امرأة تشغل منصبا تدريسيا في الجامعة. توفيت بحادث سيارة يعتقد أنه مفتعل في كاليفورنيا سنة 1952.
كانت تؤمن بمبدأ "الذرة من أجل السلام"، وكان من بين أهدافها جعل الاستخدام الطبي للتكنولوجيا النووية في متناول جميع الناس.
ومن أقوالها "سأجعل العلاج النووي متاحا وبأسعار معقولة مثل الأسبرين". عملت بجد من أجل هذا الهدف وخلال بحوثها المكثفة، توصلت إلى معادلة تاريخية من شأنها المساعدة على كسر ذرات المعادن الرخيصة مثل النحاس.
المولد والنشأةولدت سميرة موسى يوم 3 مارس/آذار 1917 بسنبو الكبرى التابعة لمركز زفتى في محافظة الغربية في مصر، ولها شقيقان وشقيقة واحدة، وكان والدها يتمتع بمكانة اجتماعية مرموقة بين أبناء قريته، إذ كان منزله بمثابة مجلس يلتقي فيه أهل البلدة ليناقشوا كافة الأمور السياسية والاجتماعية.
التحقت خلال طفولتها بمدرسة "سنبو" الأولى، وحفظت أجزاء من القرآن الكريم. وكانت مولعة بقراءة الصحف، كما كانت تتمتع بذاكرة فوتوغرافية تؤهلها لحفظ الشيء بمجرد قراءته.
بعد أن توفيت والدتها بمرض السرطان، انتقلت مع والدها إلى القاهرة، حيث اشترى فندقا في حي الحسين بهدف استثمار بعض أمواله في العاصمة المصرية. والتحقت بمدرسة قصر الشوق الابتدائية، ومن ثم استكملت تعليمها الثانوي في مدرسة بنات الأشراف الثانوية التي أسستها الناشطة النسائية "نبوية موسى".
حققت المركز الأول في جميع المستويات الدراسية، ومما يذكر عن نبوغها، أنها أعادت صياغة كتاب الجبر الحكومي في السنة الأولى الثانوية، وطبعت منه 300 نسخة على النفقة الخاصة لأبيها، ووزعتها بالمجان على زميلاتها عام 1933.
تصدرت نتائج شهادة التوجيهي عام 1935، وهو إنجاز نادر للفتيات في ذلك الزمان، إذ كان يُسمح لهن بالمشاركة في امتحانات التوجيهي من المنزل فقط، حتى تم تغيير هذه السياسة بإنشاء مدرسة الأميرة فايزة عام 1925، وهي أول مدرسة ثانوية للبنات في مصر.
إثر تفوقها المستمر إيجابيا على مدرستها، إذ كانت الحكومة تقدم دعما ماليا للمدرسة التي تخرّج الطالب الأول، فدفع ذلك ناظرة المدرسة "نبوية موسى" إلى شراء معمل خاص، بعد معرفتها برغبة سميرة في الانتقال إلى مدرسة حكومية يتوفر بها معمل.
التحقت بكلية العلوم بجامعة الملك فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا)، رغم رغبة والدها بأن تلتحق بكلية الآداب كعادة جميع الفتيات في ذلك الوقت، لكنها قررت اختيار كلية العلوم.
لفتت إليها أنظار عالم الفيزياء الشهير مصطفى مشرفة، الذي كان أول مصري يتولى عمادة كلية العلوم، وتتلمذت على يديه وتعلمت منه الكثير، كما تأثرت به تأثرا مباشرا، ليس فقط من الناحية العلمية، بل أيضا بالجوانب الاجتماعية في شخصيته.
حصلت على بكالوريوس العلوم عام 1939، وكانت الأولى على دفعتها، وأهّلها ذلك لتعين معيدة في الكلية، لكن إدارة الجامعة لم توافق، إذ لم يكن مقبولا حينها أن تتولى امرأة مكانة أو منصبا علميا. ولكن الدكتور المشرف عليها هدد بالاستقالة من الجامعة إذا لم يسمح بتعيينها، فخضعت الجامعة لرغبته وتم فعلا تعيينها معيدة في كلية العلوم، لتصبح بذلك أول امرأة تنال هذا المنصب.
نالت درجة الماجستير عن بحث "التواصل الحراري بالغازات" من جامعة القاهرة بتقدير امتياز. وحصلت على فرصة للدراسة في بريطانيا من خلال بعثة مدتها 3 سنوات. وخلال 17 شهرا فقط درست الإشعاع النووي ونالت درجة الدكتوراة حول "الأشعة السينية وتأثيرها على المواد المختلفة" منتهية من إنجاز رسالتها قبل الموعد المحدد لها.
استثمرت الفترة المتبقية من مدة بعثتها لإجراء مزيد من البحوث والدراسات حول الذرة والتعمق في الفيزياء النووية والاستخدامات السلمية والطبية لها، ووصلت من خلالها إلى معادلة مهمة -لم تلق قبولا في العالم الغربي آنذاك- تمكن من تفتيت المعادن الرخيصة مثل النحاس ومن ثم صناعة القنبلة الذرية من مواد قد تكون في متناول الجميع.
كان لديها اهتمام ملحوظ بالأحداث السياسية في ذلك الوقت، إذ كانت ترغب في جعل مصر تمتلك سلاحا نوويا، إيمانا منها أن امتلاك السلاح النووي يعمل على تحقيق السلام في العالم أجمع، إذ كانت ترى أن أي دولة تتبنى فكرة السلام لا بد وأن تتحدث من موقف قوة.
فقد عاصرت ويلات الحرب وتجارب القنبلة الذرية التي دكت هيروشيما وناغا زاكي في عام 1945، ولفت انتباهها الاهتمام المبكر من إسرائيل بامتلاك أسلحة الدمار الشامل وسعيها للانفراد بالتسلح النووي في المنطقة.
نتيجة لنبوغها في الأبحاث والمختبرات العلمية، وبحثها المستمر بشأن سبل استخدام الذرة فيما هو نافع وآمن للبشرية، أطلق عليها لقب "ماري كوري الشرق" استلهاما من عالمة الفيزياء البولندية الحاصلة على جائزة نوبل للفيزياء ماري كوري.
حصلت على منحة دراسية من برنامج فولبرايت الذري للتعرف على المرافق البحثية الحديثة في جامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية.
وتقديرا لأبحاثها النووية الرائدة، مُنحت الإذن بزيارة المنشآت الذرية السرية الأميركية، وكان هذا مثيرا للجدل وأحدث ضجة في الأوساط العلمية والأمنية في الولايات المتحدة، إذ كانت أول شخص أجنبي يزور هذا النوع من المنشآت.
ورفضت عدة عروض تطلب منها الإقامة في الولايات المتحدة والحصول على الجنسية الأميركية مؤكدة أن وطنها مصر في انتظارها.
توفيت يوم 5 أغسطس/آب 1952 عن عمر 35 سنة، أثناء رحلتها من ميسوري إلى كاليفورنيا، حيث تمت دعوتها من قبل جامعة سانت لويس بولاية ميسوري حتى تُجري أبحاثها في معاملها المتطورة.
وفي رحلتها استقبلها زميل دراسة يحضر الدكتوراه، يقال إنه هندي الجنسية، وقاد بها السيارة في طرق كاليفورنيا غير الممهدة ليوصلها إلى المعامل، وظهرت سيارة نقل كبيرة صدمت السيارة بقوة، وألقت بها من ارتفاع 40 قدما بوادي عميق تسببت في قتل سميرة، في حين هرب السائق فور وقوع السيارة، ولم يُعثر عليه بعدها.
وحسب صحف مصرية، فإن التحريات في حادث مصرعها تقول إن السائق كان يحمل اسما مستعارا، وإن إدارة المفاعل لم ترسله لاصطحابها.
وتتهم بعض الروايات جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (الموساد) باغتيالها جزاء لمحاولتها نقل العلم النووي إلى مصر والوطن العربي في تلك الفترة المبكرة.
تكريم عالمة مصرمنحها الرئيس الراحل محمد أنور السادات وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى عام 1981، وأطلق اسمها على إحدى مدارس وزارة التربية والتعليم بقريتها، وكذا على أحد معامل كلية العلوم، وتم إنشاء قصر ثقافة يحمل اسمها في قريتها سنبو الكبرى عام 1998.
تم تسجيل قصتها في سيرة ذاتية بعنوان "اغتيال العقل العربي: سيرة ذاتية لأولى شهداء العلم الدكتورة سميرة موسى".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ حريات مواقع التواصل الاجتماعی کلیة العلوم سمیرة موسى أول امرأة
إقرأ أيضاً:
الفلك في خدمة الحرب.. تسخير العلوم السماوية في النزاعات العسكرية
في مايو من عام 585 قبل الميلاد وبينما كانت الحرب بين الليديين والميديين في آسيا الصغرى في أشدها حدث كسوف شمسي مفاجئ حوَّل النهار إلى ليل مظلم نشر الرعب بين الطرفين فاعتبر الكسوف نذيرا ورسالة إلهية لوقف الحرب، ما جعل الطرفين يقبلان بالهدنة بوقف القتال بشكل نهائي. والمثير هنا حسب ما يذكر المؤرخ اليوناني القديم هيرودوت فقد تنبأ الفيلسوف اليوناني طاليس بهذا الحدث ما يعد من الأمثلة الأولى لاستخدام علم الفلك في التنبؤ بحدث طبيعي أثَّر بشكل مباشر في حدث عسكري وغيَّر مسار الأحداث.
إن الطريقة التي استخدمها طاليس في تنبؤه المزعوم لا تزال مجهولة مع وجود تكهنات تشير إلى أنه ربما استعار تقنيات من المصريين أو البابليين، أو ربما استخدم طاليس دورة ساروس البابلية المُستخدمة للتنبؤ بالكسوف، وهي نمط فلكي بين الأرض والقمر مدته 223 شهرًا قمريًّا، أي 18 عامًا و11 يومًا وثلثًا، أو 6585.3 يومًا. الشهر القمري هو المدة التي يستغرقها القمر للعودة إلى حالته الحالية. إن تنبؤ طاليس يمثل معلمًا مهمًّا في تاريخ العلم؛ إذ يعكس محاولة مبكّرة لفهم العلم والظواهر السماوية، وقد حاز هذا التنبؤ إعجاب الكثير من العلماء في ذلك الوقت مثل ديمقريطس وهيراقليطس؛ فمنذ فجر التاريخ لم يكن علم الفلك مجرد أداة لفهم الكون، بل أدّى دورًا حاسمًا في الصراعات البشرية، سواء من خلال الملاحة، أو التوقيت، أو الاستطلاع، أو حتى الهيمنة التقنية. فالنجوم لم تكن فقط مصدر إلهام شعري، بل دلّت الجيوش، ووجّهت السفن، وحدّدت مصائر حروب، وأكسبت الشعوب التي ركزت جهدها لدراسة جوانبها المختلفة تفوقا كبيرا.
ورغم التداخل الكبير الذي حدث بين علم الفلك والعلوم الأخرى والتحريف الذي لحق بهذا العلم وظهور ما يعرف بالتنجيم؛ فإن استخدام علم الفلك استمر عبر التاريخ القديم حيث من الصعب إيجاد حضارة من الحضارات القديمة لم تستفد من هذا العلم في جوانب الحياة العامة، لكن الحملات العسكرية كانت من أكثرها تأثرا واستغلالا للمعرفة الفلكية؛ فقد استخدمتها الأساطيل البحرية لمعرفة الاتجاهات في البحر، واعتمدت عليها الجيوش في التنقل ومعرفة مواقع العدو. وقد ذكر المؤرخ اليوناني بوليبيوس كيف اعتمدت الحملات العسكرية على التنبؤات الفلكية المرتبطة بحالات الطقس والفصول، وهو ما مكّن القادة من تفادي العواصف أو استغلال الرياح الموسمية. وهنا لا بد من توضيح الخلط بين المعرفة المبنية على مطالع النجوم وربطها بظواهر معينة تحدث على الأرض في التوقيت ذاته، لتكون النجوم بذلك علامة على هذا الحدث كظهور نجم سهيل عند أهل الجزيرة العربية، وانكسار شدة الحر في هذه البقعة من العالم، فنجم سهيل هنا علامة لهذا الحدث وموقت لحدوثه، وبين استخدام النجوم لمعرفة أحداث مستقبلية فهذا ليس من الفلك في شيء بل هو تنجيم غير قائم على معرفة ولا علم، وما كان يحدث في تلكم الفترات من الاعتماد على علم الفلك يندرج في هذا الباب، أي: تحديد المواسم وربط حدوثها بنجم معلوم المطلع. فالمعروف لدى الفراعنة أن فيضان نهر النيل مرتبط ارتباطًا وثيقًا بطلوع نجم الشعرى اليمانية، وبالتالي؛ فإن بداية الحراك الزراعي والعسكري مرتبط بهذا التوقيت.
الفلكي، وهو ما يشرحه بوليبوس حين يقول: « ان الفرص والحوادث التي تصاحب الحملات العسكرية تتطلب حذرًا كبيرًا، ومن الممكن الاستعداد لها بدقة بشرط ان يكرس المرء ذهنه لتخطيط حملته.
وفي هذا السياق يشير المؤرخون إلى أنه خلال الحرب التي دارت بين روما وقرطاج واستمرت لفترات طويلة والتي عرفت بالحروب البونيقية كان التفوق البحري عاملاً حاسمًا للقرطاجيين؛ بفضل معرفتهم الدقيقة بتقنيات الملاحة واستخدموا المعرفة الفلكية لتوجيه أساطيلهم عبر البحر الأبيض المتوسط، ما منحهم ميزة استراتيجية في التنقل والإمداد واستخدام النجوم لتحديد المواقع.
وقد أسهم هذا بشكل مباشر أحيانا وغير مباشر أحيانا كثيرة في التطور المعرفي والتقني لعلم الفلك سواء على صعيد الأجهزة الفلكية كالإسطرلاب وغيره من الوسائل التي سهلت معرفة الاتجاهات ورصد النجوم والكواكب أو من خلال المعارف الفلكية التي ظهرت على شكل مؤلفات على شكل خرائط سماوية أو كتب مفصلة لمواقع كل مصر من الأمصار في جميع بقاع الأرض المختلفة.
وقد ازدهر علم الفلك والمراصد الفلكية بشكل عام في عصور الدولة الإسلامية؛ فهناك من المراصد ما وصل صيتها إلى كل مكان لما لها من مكانة بحثية وقيمة علمية كمرصد مراغة الواقع في شمال غربي بلاد فارس أو ما يعرف بإيران حاليا، ويرتفع المرصد حوالي 1560 مترا فوق سطح البحر، ويعتبر أضخم المراصد في التاريخ الإسلامي؛ حيث أشرف على تأسيسه علماء فلك بارزون أشهرهم نصير الدين الطوسي، ومحيي الدين المغربي، وعلي نجم الدين الإسطرلابي الذين كانت لهم إسهامات كثيرة ومهمة في الفلك والهندسة والرياضيات. وقد استفاد القادة العسكريون من الخرائط الفلكية أو ما عرفت عند العرب بجداول الأزياج، وهي عبارة عن جداول تعيّن شروق الشمس وغروبها يوميا، وشروق القمر وغروبه يوميا، وشروق وغروب الكواكب السيارة يوميا، وكذلك خسوف القمر وكسوف الشمس (مثل «الزيج الإلخاني» و«زيج البتاني»)؛ لتحديد المواقع والاتجاهات بدقة في الحملات العسكرية الصحراوية والبحرية.
ومن المعروف أن الخلفاء في الدولة الإسلامية كانوا يطلبون من علماء الفلك معرفة الأوقات المناسبة للغزو بناء على مواقع الكواكب والنجوم، وهو كما ذكرنا سابقا يؤخذ من باب معرفة الظروف المناخية وأحوال الطقس لا من باب التنجيم وضرب الحظ، وهو ما كان شائعا أيضا عند البحارة العمانيين والنواخذه في الخليج العربي، من عدم ركوب البحر في أوقات محددة تحدث فيها ضربات البحر أو «الأعاصير»؛ إذ يتجنب البحارة الترحال خلال هذه الفترات نظرا لهيجان البحر والابتعاد عن المخاطر حفظا للمال والنفس. وساعدت هذه المعرفة الأئمة في عهد الدولة اليعربية في حربهم ضد البرتغاليين في المحيط الهندي، والانتصارات المتتالية التي حققها العمانيون في شرق إفريقيا والسواحل الهندية، كالانتصار في معركة ديو البحرية التي استغل فيه الإمام سيف بن سلطان الرياح الموسمية لتسيير أسطوله ومحاصرة قلعة ديو قرب خليج بومباي سنة 1670م التي كانت من أكبر مراكز البرتغاليين في الشرق. واستولى العمانيون في هذه الحملة على غنائم وثروات كبيرة.
كما عُرف عن المستكشف كريستوفر كولومبس باستخدامه الذكي والدقيق للمعرفة الفلكية في أثناء رحلاته الاستكشافية في أماكن كثيرة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك استغلاله لظاهرة الخسوف القمري الذي وقع في 29 فبراير عام 1504 أثناء وجوده في جزيرة جامايكا في رحلته الرابعة إلى العالم الجديد. ففي تلك الفترة كان كولومبس يواجه أزمة حادة تمثلت في انقطاع الدعم والتموين من قبل السكان المحليين الذين تراجعوا عن تزويد طواقمه بالمؤن والغذاء؛ نتيجة لتدهور العلاقة بينهم وفقدان الثقة بالمستعمرين الأوروبيين.
وبفضل امتلاكه لمخطوطة فلكية دقيقة وضعها الفلكي أبراهام زاكوتو؛ كان كولومبس على دراية تامة بالظواهر الفلكية القادمة، ومن ضمنها موعد حدوث خسوف كلي للقمر. وبدلاً من الاكتفاء بالملاحظة الفلكية كأداة علمية؛ لجأ كولومبس إلى توظيفها كأداة للتأثير النفسي والسياسي، فأخبر زعماء السكان المحليين بأن الرب غاضب عليهم بسبب توقفهم عن دعم رجال البعثة، وأن علامة هذا الغضب الإلهي ستظهر في السماء حين يُظلم القمر وتختفي أنواره، محذرًا من أن القمر لن يعود إلى حالته الطبيعية إلا إذا قدموا الدعم مجددًا.
وبالفعل حين بدأ القمر بالخسوف وبدأ ظله يغمره تدريجيًا أصيب السكان المحليون بالذعر، وهرعوا إلى كولومبس طالبين الغفران، ووعدوه باستئناف تقديم الدعم والمؤن. وعند انتهاء الخسوف اعتبر السكان أن كولومبس قد «استرضى الرب» ما عزز مكانته وسلطته في أعينهم.
هذا الحدث يُعد مثالًا فريدًا على التوظيف النفعي للعلم في السياقات الاستعمارية، ويبرز كيف يمكن للمعرفة الفلكية أن تُستخدم لتحقيق مكاسب سياسية وميدانية، خصوصًا حين يكون الطرف الآخر يفتقر إلى الإلمام الكافي بهذه العلوم.
وفي المقابل فإن الحروب أسهمت أيضا بشكل كبير في خلق نقلة نوعية في تقنيات علم الفلك وتطوره المتسارع منذ الحرب العالمية الأولى وصولا إلى عصر الفضاء في أيامنا هذه، فعلم الفلك الراديوي استفاد من تقنيات الراديو التي تطورت عن استخدام الرادارات في الحرب العالمية الثانية. كما أن السباق المحتدم بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي أثناء الحرب الباردة للوصول إلى الفضاء والسيطرة عليه لكسب المعارك على الأرض أسهم بشكل مباشر في إيجاد الوسائل المناسبة للوصول إلى الفضاء والهبوط على القمر.
ثم تطورت صناعة الأقمار الصناعية لأغراض سلمية وعسكرية ووصلت في أيامنا هذه إلى ما يعرف بالأقمار الصناعية المكعبة التي يسهل تصنيعها وإرسالها إلى الفضاء بأعداد كبيرة في مهمة واحدة بأقل تكلفة؛ حيث إن ما يميز هذا النوع من الأقمار أنها ذات كلفة منخفضة وقادرة على القيام بمهام محددة. ورغم الطبيعة المعرفية والبحثية لعلم الفلك؛ إلا أن التاريخ على امتداد العصور أثبت أن علم الفلك كان على الدوام حليفًا خفيًا للحرب. فمنذ العصور القديمة حتى النزاعات الحديثة لعب هذا العلم دورًا محوريًا في توجيه الجيوش، وتحديد مواعيد الحملات، ورسم خرائط الملاحة البحرية، والتفوق على الخصوم معرفيًا وتقنيًا؛ حيث لم يكن علم الفلك أداة لتأمل ومعرفة خبايا الكون فحسب، بل أصبح سلاحًا منح أصحابه الأفضلية في ميدان المعركة. ويمكن القول: إن الحروب أسهمت في تسريع وتيرة تطور علم الفلك بما فرضته من تقنيات وابتكارات، فأصبح بذلك إحدى الركائز الأساسية في التخطيط العسكري والسيطرة التقنية. وهكذا؛ فإن العلاقة بين النجوم وميادين القتال ليست مجرد تقاطع عابر، بل هي تحالف عميق ومستمر منذ عقود طويلة من الزمن، ولا يزال يسهم في تشكيل ملامح الصراع البشري حتى في عصر الفضاء.
د. إسحاق بن يحيى الشعيلي / رئيس مجلس إدارة الجمعية العمانية للفلك والفضاء