لم يكن البُغض هو ما يُنهي صداقاتي القديمة، وإنّما الشعور الحاد أنّ هنالك ما يخفت، الخفوت الذي لا يعني تيبس شجرة الصداقة الحية وحسب، بل تعفن جذورها على نحو بطيء. لا أملكُ يقينا واضحا متى كانت تنفصلُ عُرى الأشياء، لكن كان هنالك شلالٌ من اللوم الأبدي بأنّي لا أملك السعي والدأب الكافيين لإيقاد شعلة الصداقات لأمد طويل!
***
أكثر عاداتي البغيضة تكمنُ في التخلص، التخلص والمحو اللذين يرافقان الحياة والكتابة على حد سواء.
إن ضآلة تآلفنا مع الآخر/ الصديق، لا يعني دوما ضعفا في نسيج الحيل التي نملكها لتفادي التمزق والانكسارات، وإنّما الإيمان -كما قال أحدهم- أنّ للصداقات أعمارا كالبشر، تنقضي بانقضاء الظرف أو الزمان والمكان. هذا الانتهاء الذي ينبغي أن نقبله كما هو، لا يُلغي احتفاظنا بذكرى طيبة عن أناس عبروا حياتنا تاركين بصماتهم وخدوشهم على حد سواء! كصداقات الطفولة والجيران والمدرسة والجامعة، تلك التي تحولت إلى ألبوم الصور. فكل صورة تُضيء ذكرى، تُضيء صديق.
نشعرُ برغبة عارمة في تجنب خذلانهم، لكن عندما تنعدم أسباب الاستمرار أقول في نفسي: «يكفي أن يكونوا نشيدا خافتا في خلفية مشهد حياتنا، الذي يكر مسبحته على نحو مخاتل».
***
عندما سافرت صديقتي «رانيا» في رحلة علاج طويلة، شعرتُ بوخز مُوجع، فتذكرتُ على نحو دقيق الخفة التي حظيتُ بها أثناء صحبتها، فرصة أن أكون «أناي» بأقل درجة من المواربة، التحلي بالجنون والشطح دون أن يُراقب أحدهم عثراتي المهتزة، تذكرتُ البئر العميقة التي دفنا فيها القصص والمرايا التي عكست بصفاء مُبهر تناقضاتنا، المرايا التي لطالما كانت تدلنا على جوهرنا المُخبأ. هكذا يفعلُ مرض صديق مُقرب منك، يجعلك على درجة من الحساسية اليقظة التي تُعيد فهم هشاشتك وعاطفتك المشوشة، حيثُ تختبر المآسي كل ما ظننته صلبا!
***
سألتُ نفسي: هل تغيرت صفات الصديق منذ بدء البشرية وحتى الآن؟ شكل الصداقة، الروابط الروحية الخفية، أمّ أنّ الصداقة مرتبطة بالمثل العليا التي لا يشوبها القدم، والتي تتمثل في الشخص الذي يُعين ويُصغي ويُدافع ويُحبّ؟
من المؤكد أنّها -أي الصداقة- هي أكثر من تعبئة الوقت بالثرثرة والضحك والشكوى، ورغم أهميتها جميعا في صياغة شكل العلاقة بيننا فإنّ هنالك شيئا بالغ الرهافة يكتب كل قصّة على نحو شديد الفرادة.
***
وجدتُ في صديقتي «رانيا» نقيضي، فهي تعرفُ بدقة ما تريد، لديها حُكم غير مُلتبس على الأشياء، دون أن يمنع ذلك طبعها الإنساني بالغ العذوبة. كل شيء مُرتب في حياتها وفي حيزها الآمن، في البيت والعمل والمشاوير. وأكاد أجزم أنّها وجدتْ فيّ النقيض: الفوضى العارمة التي تطال أفكاري ومكتبتي، عدم اليقين بشيء، والتمزق الانفعالي الصارخ لحظة الكتابة، وأنا ألملم تاريخ شخصياتي كأنّما اقتطعها بفأس من شجرة حيّة. لم أخبرها أيضا عن توتري من تفاؤلها المستفز، وكأنّ الكون - بالنسبة إليها- يسير وفق خطة ناجحة تماما، بينما يأكلني القنوط من كل شيء!
لقد كانت «رانيا» ذات طبع أقل تعقيدا من طباعي، أقل حذرا، وأكثر طيبة. ذلك الانسجام مع الحياة وصروفها، وكأننا نمضي فوق حزام متحرك ناحية النهاية المؤكدة دون مُمانعة تذكر!
***
لم أنضوِ قط تحت راية الصداقات الممتدة والمتجذرة، فثمّة ما هو مخيف، أعني ذلك النوع من الصداقات التي تُعريك، بل تنظر تحت جلدك وتحكم عليك. إنّها الخشية من أن نبدو مكشوفين. ربما لأننا نختبر نوعا آخر من الانكشاف الصريح عندما نعرضُ شخصياتنا الكتابية لأمر مماثل عن قصد ووقتما نشعر أنّ ذلك ضروريا للقراء!
وكما يبدو فإنّ الريبة لا تمضي في اتجاه واحد، بل تتشكل أيضا عند الآخر/ الصديق الذي يعي إمكانية تحوله لمجرد «كركتر» روائي. إذ لا يريد «الصديق» أن يغدو مادة للكتابة - باستثناءات قليلة- إلا من وراء طبقات مكثفة من الحكي والتورية والاستعارات.
***
في غياب «رانيا» عن مشهد الصداقة اليومي والكثيف، خطرت في ذهني فكرة حول أولئك المحملين بالعطف الأبدي والمؤازرة الداعمة، أولئك الذين يجعلونا نشك دوما في إمكانية أن يُصيبهم مكروه، ربما لأنّهم في ظهرنا دوما، وكأنّما خُلقوا من أجلنا كملائكة، إلا أنّ المرض هو أول ما يهز هذا اليقين، فيحتضر الأمل لأيام وساعات، ثمّ يستشرسُ في الظهور من تحت رماد اليأس. إذ لا شيء يُمكننا أن نُجابه به الحياة أكثر من الإرادة الغامضة في العيش!
***
عندما يمرض صديقك المقرب، يجدر بك أن تتحلى بالصبر، عقب الغضب والهياج الجارف. لأن أسئلة مُلحة حول المصير ستغدو أكثر سطوعا وحدة. لكن تلك المجابهة المريرة واليومية التي يخوضها صديقك الأعزل والمجرد من اليقين، ستدفع يأسك وقنوطك للارتخاء قليلا، ليشتد الإيمان بحبل الأمل، ذلك الذي لا يُنال بيُسر.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: على نحو الذی ی التی ت
إقرأ أيضاً:
هل لكل مجتهد نصيب؟!
ربما البعض يشاطرني الرأي الشخصي والقناعة الذاتية التامة بأنه ليس في كل مرة تصدق هذه المقولة «لكل مجتهد نصيب!»، وإن كنا نتفق على أنه «ليس كل مجتهد مصيبا!».
فقد يكون هناك اختلاف جوهري ما بين المقولتين، لكن في كلا الحالتين هناك إجحاف وغبن يقع على المجتهد ذاته، فصاحب المقولة الأولى «لا يجد حقه من التقدير أو الإنصاف المستحق بجدارة نظير اجتهاده ومثابرته»، أما صاحب المقولة الثانية فقد «ينسف كل عمل يقوم به في غمضة عين.. كيف ذلك؟».
خطأ بسيط ينسف قائمة طويلة من الصواب، هذا ليس خيالا ولكن هذا ما درجت عليه العادة عند الكثير من الناس، فالشخص الذي يُشهد له بإنجازاته وسجل نجاحاته قد يكون في مرمى نيران الآخرين في غضون وقت قليل، فلا تشفع له أعماله الماضية عندما يفقد تركيزه في أمر واحد على الأقل فيقع في الخطأ!
عندها تتغير كل المفاهيم الماضية، ويتم التركيز الفعلي والمباشر على الخطأ الأخير الذي ارتكبه رغم أنه اجتهد كثيرا من أجل أن يحالفه الصواب والظفر بالنتيجة المقبولة، ولكن الخطأ البشري وارد في كل لحظة.
وهنا نستحضر قولا مأثورا حول هذه النقطة يقول: «عندما تكون على حق لا أحد يذكرك، وعندما تكون على خطأ لا أحد ينساك»، وبالمختصر المفيد نجد أن ما بين «الاجتهاد والتوفيق» حد أدق من شعرة الرأس، فالانحراف عن الهدف ولو كان بسيطا يمكن أن يقلب موازين الأمور رأسا على عقب بل وينسفها نسفا مدمرا.
وقد تكون أنت وأنا وغيرنا من ملايين الناس ممن لا يؤمنون كثيرا بمعتقد أن «الحظ والنصيب» هو الخط الذي نسير عليه في الحياة الدنيا في جميع الحالات التي يمر عليها الإنسان خلال مراحل عمره، فتحقيق الأمنيات والأحلام والحصول على الفرص الذهبية هي رهينة بالدرجة الأولى بـ«العمل والجد والاجتهاد والمثابرة»، ولكن ربما ضياع بعض الفرص التي لا تتكرر مرة أخرى في حياة الإنسان هي من تأخذنا نحو شطآن الضياع والتأسف على ما قد مضى وذهب بلا عودة ويكون سبب ذلك «تدخل بشري» لقلب موازين الأمور وانحرافها عن وضعها الطبيعي مثل «نزعة انتقامية» من بعض الناس.
قناعتي بأن إصابة واحدة للهدف ليست مقياسا على مهارة الرامي، ولا حكما صريحا يتيح للرامي اعتلاء منصت التتويج لمجرد ضربة حظ لا أكثر، فربما هناك من أشخاص يخطئون الهدف مرة واحدة، ويصيبون عشرات المرات، لكنهم لا ينالون تلك المكانة التي يستحقونها سواء من التقدير أو التكريم!
البعض من الناس سعى دوما للقفز على انتصارات الغير، وكثيرا ما نراهم في ميادين العمل، وبما تسعفهم الظروف فينسبون كل إنجاز يتحقق لأنفسهم، رغم أنهم كانوا يقفون على مسافة بعيدة ينتظرون المشهد الأخير!
يجتهد البعض قدر استطاعتهم لكنهم لا ينالون ما يحلمون به، وغيرهم من هم أقل بحثا عن الصدارة يحققون أشياء لم يحلموا بها ذات يوم أو لم يتوقعوا حدوثها.. هي ليست مجرد فرص تأتي بل هي صناعة فكر احتيالي من الآخرين!
وأيضا هناك زمرة من الناس تعمل بجد واجتهاد لكنها قد تخطئ ذات مرة في عملها، فلا ينسى من هم أعلى منها مكانة ذلك الخطأ، بل يصبح وصمة عار تطاردهم وتحرمهم من حقوقهم، أو شماعة تعلق عليها أسباب عدم حصول الأكفاء على الاستحقاق المناسب الذي كان يجب أن يُمنح لهم ليليق بقدراتهم ومثابرتهم!
إذن مبعث قناعة يتجلى من أرض الواقع وليس نسجا من خيال عابر أو فكر متطرف حاقد، وقد يعارضني فيما ذهبت إليه جمع من الأشخاص الذين أقل ما نصفهم بأنهم يتعلقون بخيوط العنكبوت وهم من يدعون «المثالية في الحياة» فهم أولئك الذين يؤمنون بالأقدار من دون عمل، ومنهم من يرتضي أي شيء ولأجل أي شيء بروح مستسلمة دون نقاش، ويدعون بأنهم أطباء القلوب يطيبون خواطر الفاقدين لفرصهم الحقيقية في التكريم على سبيل المثال، معتبرين الظلم الذي حدث هو مجرد كبوة وتنتهي وبأن «القادم أفضل».
هؤلاء قد يكونون غير متسامحين أو متضامنين مع الغير بعكس ما نتوقعهم، لكنهم لا يحبون أن يفتحوا طرقا لإظهار الحقائق وردّ الحقوق الأصلية إلى أصحابها، ولذا فهُم في نظر الآخرين أشخاص «مخادعين» كغيرهم من الصاعدين على ظهور البسطاء.
عندما يحق الحق، تختفي المناطق الرمادية من لج السماء، ويصبح المسار واضحا أمام الجميع، فترحيل الفرص للمرات المقبلة هي مجرد حيلة ذكية يتبعها «المخالفون لضمائرهم»، يعلقون في رقاب الأبطال الآمال الكاذبة التي ربما لن تتحقق في المستقبل أبدا!
بعض الناس ينادون دوما بأن كل أمور الحياة وردية، «اجتهد تجد، اجتهد تصيب، اجتهد تكافأ»، لكن الواقع لا يصدق في كل مرة!