لجريدة عمان:
2025-12-09@18:34:52 GMT

الأيديولوجيا بين التـضلـيل والمصلـحـة

تاريخ النشر: 3rd, April 2024 GMT

للأيديولوجيا، في مـفـهـومها، السـياسي معـنى يطابـق نمط اشتـغالـيـتها في الحقـل السـياسي ويختـلف، بالتالي، عن معـناها من حـيث هي مـفهـوم معـرفي، مثـلا، أو من حـيث النـظـر إليها من زاوية نظريـة المعرفة. هـنا لا يـنـظر إلى الأيديولوجيا انطـلاقا من ثـنائـيات: الخطأ/ الصواب، الحـقيقة/ الزيـف، المطابـقة/ التـضليل.

..إلخ، بل تـقـارب انـطلاقا من صلاتها بـالمصلحة وما تمليه المصلحة تـلك من حاجات. مع ذلك، تسخـر الأيديولوجيا مجمـوع مـوارد قـوتها لممارسة التـأثـيـر على الوعي الذي تخاطبه. هكـذا تعـني الأيديولوجيا تلك الآلية التي تـطـمس ما يرتـئي مستخـدمها أنه ينبغي أن يطمـس من الواقع عن الذي هـو في حـكم الخصم؛ أي عن ذلك الذي يتوجـه إليه الخطاب الأيديولوجي. هي، إذن، تـفـيد معنى القـناع والحجب الهادف إلى تغـليط وعـي المخاطـب وتوهـيمه، أو دفع تـفـكيره نحو السـقوط في الوهـم... من دون أن يـعـي ذلك.

واضـح، هـنا، مقـدار ما يقـوم من صلـة بين الأيديولوجيا ومبـدأ المصلـحة؛ إذ الأخيـرة هـي ما يحمـل على اللـجوء إلى الأولى وتوسـلها واستـدخالها في عـدة الاشتـغـال. لذلك لا يكـون المعيـار الذي تـقاس بـه الأيديولوجيا، في هـذه الحال، معـيارا معـرفـيـا: أي من حيث مـقـدار مطابـقـتها أو عـدم مطابـقـتها للواقـع وللحـقيـقـة، بـل مـقـدار ما تسمح بـه من إمكـان لتحقـيـق تلك المصلحة. إذا كان كارل ماركـس هـو، حـقـا، مـن مـنـح مـفهـوم الأيديولوجيا كـل تلك الأهميـة البالغـة التي صارت لـه في الفـكـر الحديـث، فلأنـه ربطـها - ابتـداء - بالمصلحة فأدخـلها، بالتالي، في نسيـج السياسة وظـل يشـدد على أن كـل أيديولوجيا تـضمـر مصلـحة طبـقـيـة. ولكنـه تحاشـى، في الوقـت عـيـنـه، أن يحـصـرها في النـطاق السياسـي وأن يتجـاهـل استعـمالات أخـرى لها - بـدأت قـبلـه (مع فـلسفة الأنـوار) واستـمـرت بعـده حتـى اليـوم - من قبـيـل استـعـمالها المـعـرفـي بوصفـها تـفـكـيـرا لا عـقـلانـيـا ولا نـقـديـا؛ مـن دون أن يسـتـغـرق في هـذا الاستعـمال الأخيـر طـويلا على حساب الأول. والحـق أن الربـط بين الأيديولوجيا والمصلـحـة تـأسـس معه وتـوطـد، فكـان صناعـة ماركسيـة بامتـيـاز؛ بل لعلـه ما يفـسـر شيوع استـخـدام مفـهـوم الإيـديـولـوجـيـا، بعـده، في المجال التـداولـي.

هـذا في استـعمـال المفـهـوم في الحـقـل السياسـي، أمـا في الحـقـل المـعـرفـي فـتـعـني الإيـديـولـوجـيـا الوعـي الـزائـف، غير المـطابـق للواقـع. هـذا المفـهـوم مـوروث عـن فـلسفـة الأنـوار، في القـرن الثـامـن عشـر، وبصـماتـه الفرنسيـة واضحة في حـدة خطـاب الفلاسفـة عن الكنيسـة وما يـرد في نـقـدهـم لها مـن اتـهامهـم إيـاهـا بـمحاربـة العقـل ونـشـر أفكـار أقـرب ما تكـون إلى الأوهـام. ولقـد أخـذه ماركس عـن هـؤلاء الفلاسفـة - على نحـو ما يـضـح أمـره فـي كتـابـه «الإيـديـولـوجـيـا الألمانـيـة» - لكـنـه لم يـتـوقـف عـنـده، كمـا أشـرنا، مثـلما اتـسع نطـاق المفـهـوم هـذا - في معنـاه المـعـرفـي - فشـمـل دوائـر لاحقـة من الفـكـر الفـلسـفي والعـلوم الإنسانـيـة، بل وكـان في بعض نصوص ذلك الفـكـر مـفـتاحيـا حتـى وإن لم يـقـع اسـتخـدام المفـهـوم بلـفـظـه وإنـما بمضمونـه ومـدلـولـه.

لقد أحسن عبد اللـه العـروي حيـن عـثـر - وهـو يتـعـقـب استعمالات هـذا المفـهـوم في الـفـكـر الحديـث - على مـشـتـرك بين مـاركـس ونـيـتـشـه وفـرويـد في النـظـر إلى الإيـديـولـوجـيـا بهـذا المعـنى؛ أي بـما هـي وعـي زائـف. كـل واحـد مـن هـؤلاء الثـلاثـة يـردد الـفـكـرة عينـها بمفـردات ومـفاهيـم خاصـة بحـقـل اشـتـغالـه. يقـول ماركـس إن الإيـديـولـوجـيـا تخـفي مصلـحة طـبـقـيـة وتـغـلـط الوعـي؛ ويـذهـب نـيـتـشـه إلى القـول إن القـيـم أوهـام يـنـتـحـلـها المستـضـعـفـون لإخـفـاء حـنـقهـم على الأسـيـاد؛ ويـقـول فـرويـد إن العـقـلي محـض تـبريـر لإخـفـاء آليـة الرغـبـة الجارفـة التي تـؤسـس الحياة الـنـفسيـة اللاشعـوريـة. المـشتـرك في المسألة عنـد هـؤلاء المـفـكرين الثـلاثـة هـو أن الأقـوال والخـطابات لا تـنطـق بحـقيـقـتهـا، بـل تـضـمـرها وتسـتـرها. غير أنـها تـومـئ إليها في عـملـيـة التـستـر تلك، فـيـصبـح التـأويـل كـافـيـا - حيـنـها - لـرفـع غطـاء الحـجاب عـن حـقيـقـتـها المـخـفـيـة. وهكـذا فالأيديولوجيا، عـند هـؤلاء الـثلاثـة، هي تلك العـمليـة من طمـس الحـقيـقـة وحـجـبها من طـريق التـصريـح بغيـرها. ولكـنـها لا ترادف الكـذب في معـناها هـذا؛ لأن الكـذب - في جـوهـره - فـعـل واع (أو مـوعـى به)، أمـا الإيـديـولـوجـيـا فـقـد تكـون غير مـوعـى بـها.

قـلـنا: إن المعنـى الأكثـر شيـوعـا للأيديولوجيا في الـفـكـر الماركـسي هـو ذاك الذي يـقـرنـها بالمصلحـة؛ وهـو الذي استـمـر في ذلك الـفـكـر مقارنـة مع معـناهـا الإيـپـيستيـمي بوصـفها وعـيـا زائـفـا. وتـكـمـن المفارقـة، هـنا، في أن الماركسيـة - التي ظلـت تـرى في كـل أيديولوجيا طبـقـيـة - وجـدت مـن يـطـبـق عليها، هـي نفـسها، القاعـدة تلك؛ إذ مقابـل اعـتـقاد تلامـذة ماركـس أن نظـريـتهـم عبارة عـن عـلـم جديـد، انـتـقـدها علـم الاجتماع السـياسـي الألمانـي، فنظـر إليها بمـا هـي، أيـضا، أيديولوجيا معـبـرة عـن مصلحـة طـبـقـة أو طبـقات بـعـينـها لا بمـا هـي علـم كمـا يـدعـي كـثيـر ممن ينـتـمون إليها. مـن الواضـح أن المنـطـق الحاكـم للاجتـماعيـات الألمانيـة في هـذا الشـأن - خصوصا مع ماكـس ڤـيـبـر وتلامـذتـه - هو أن حـقـل التـعبير عن المصالح هو الحقـل السياسي، لا ميـدان المعرفـة والحقـيقـة، وهـو يعـني، بالتـبعـة، أن كلام الماركسيـة على الصلـة بين الإيـديـولـوجـيـا والمصلحة كـلام يشـمـلها هـي نفسـها ويـبـطـل أي حـديث عن صلـتـها بالعـلم. وهـذا يـعني، في الوقـت نفـسـه، أن الاجـتماعيـات السياسيـة الألمانيـة لا تـقـيـم كبيـر تمييـز بين الإيـديـولـوجـيـات؛ فهـذه في مرآتـها - وعلى اخـتـلافـها - سـواء: أي لا يتـمـتـع أي منها بأي اعـتـبـار معـرفـي.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

سوريا الجديدة.. نيويورك تايمز: الذي حدث يشبه المعجزة

اختارت مراسلة نيويورك تايمز في القدس رجا عبد الرحمن عنوانا لتقرير لها بمناسبة حلول الذكرى الأولى لسقوط الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد: "ما حدث يشبه المعجزة".

وتصدر تقرير رجا صفحة الصحيفة "النشرة الإخبارية العالمية" التي تعدها الصحفية كاثرين بنهولد والتي اختارت لها هي الأخرى عنوان: "سوريا الجديدة"، موضحة أن هذا البلد لا يزال يواجه العديد من التحديات، "لكن هناك بعض الأمور التي تسير على ما يرام الآن، وهي تستحق اهتمامنا أيضا"، على حد تعبيرها.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2صحيفة روسية: هذه أهداف ضغط ترامب على نيجيرياlist 2 of 2بلومبيرغ: اليابان تخطو نحو عصر نووي جديدend of list

تبدأ الكاتبة رحلتها في سوريا بزيارة خالتها في حلب، ملاحظة أن خالتها عند مرور طائرة فوق المنزل، تُصغي لثوانٍ قبل أن تقول إنها لم تتوقف عن الارتجاف  من صوت الطائرات إلا منذ فترة وجيزة، مشيرة إلى أنه ارتبط لسنوات بالقصف والذعر، واليوم، قد تكون تلك الطائرات مجرد رحلات تقلّ عائدين من المنفى أو مستثمرين أو حتى سائحين.

وبعد عام على سقوط بشار الأسد وتشكيل حكومة جديدة بقيادة أحمد الشرع، وهو حدث تاريخي يأتي بعد أكثر من 13 عاما من الثورة التي انطلقت في 2011 وقُمعت بوحشية، ثم تحولت إلى حرب أهلية مروعة، تعيش البلاد مزيجا من الأمل والانتقادات.

وقد وثّقت تقارير الجزيرة نت ما تعرض له السوريون من حصار، وتهجير، وانقسام طائفي نتيجة تشبث الأسد بالحكم وقمعه لمعارضيه وكل من يمت لهم بصلة.

وأبرزت رجا أن الحكومة السورية الحالية تواجه مشكلات حقيقية من قبيل: ارتفاع أسعار الكهرباء، وضعف الأمن في ظل حوادث ثأر وخطف، ومخاوف الأقليات من صعود تيارات إسلامية.

لكنها توضح أنه وسط هذه التحديات ثمة مؤشرات لـ"معجزة صغيرة": لا جبهات قتال بعد اليوم، والتهجير الواسع بدأ في الانحسار، والخدمة العسكرية الإلزامية أُلغيت، مما سمح لآلاف السوريين بالعودة.

كما اختفت صور الأسد التي كانت تملأ الشوارع، وتلاشى الخوف المزمن من الاعتقال بسبب كلمة سياسية أو حتى ذكر اسم "الدولار"، وبات السوريون مندهشين من أنهم يُعاملون اليوم باحترام في الدوائر الحكومية، وتصدح في الاحتفالات أغنية "ارفع راسك.. أنت سوري حر".

إعلان

ورغم أن الطريق طويل لإعادة بناء دولة موحدة وتجاوز إرث الانقسام، فإن الانفتاح الدولي على الحكومة الجديدة ودعمها المشروط يعززان هذا الاتجاه.

وقد حاولت السلطات حتى استعادة رمزية السماء، وفقا لرجا، التي لاحظت أن المروحيات التي كانت تخيف خالتها تُلقي اليوم على السوريين الزهور في المناسبات الوطنية، في محاولة لتغيير ذاكرتهم وإعلان بداية زمن جديد.

مقالات مشابهة

  • المسيرة القرآنية .. إعصار الوعي الذي حطم أدوات التضليل ونسف منظومة الحرب الناعمة للعدوان
  • لبنان .. البلد الذي ليس له شبيه
  • ما الذي يسبب فيضانات آسيا الكارثية؟
  • كواليس لقاء برّي - لودريان... ما الذي جرى بحثه؟
  • فايننشال تايمز: إبعاد توني بلير من “مجلس السلام” الذي اقترحه ترامب بشأن غزة
  • إصابة خطيرة... ما الذي جرى بين أطفال في مُخيّم عين الحلوة؟
  • سوريا الجديدة.. نيويورك تايمز: الذي حدث يشبه المعجزة
  • هل علي ذنب إن لم أخرج الزكاة على الذهب الذي بلغ النصاب؟.. الفتوى تجيب
  • ما الذي اشترته نتفليكس؟ 100عام من التاريخ المرئي لـوارنر براذرز
  • ما الذي يحتاجه المنتخب المصري لعبور الأردن في كأس العرب؟..تفاصيل