موسكو- اتخذت أرمينيا خطوات جديدة في سياق التباعد عن روسيا من جهة، والتقارب مع الغرب من جهة أخرى، بعد إعلانها عدم المشاركة في اجتماع مجلس وزراء خارجية رابطة الدول المستقلة، المقرر في 12 من أبريل/نيسان الجاري في مينسك.

ويأتي قرار يريفان بعد أيام قليلة من اجتماع ثلاثي ضم أرمينيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وصفته المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، بأنه محاولة لجر منطقة القوقاز إلى المواجهة، ولا تخفي موسكو انزعاجها من التصرفات الأرمينية وتعتبرها غير ودية، ومحاولة لطرد الوجود الروسي من جنوب القوقاز.

وبدأت العلاقات بين موسكو ويريفان تتدهور بشكل حاد ومتسارع، بعد أن استعادت أذربيجان إقليم ناغورني قره باغ، إثر عملية عسكرية خاطفة شنتها في سبتمبر/أيلول الماضي، حيث قالت أرمينيا إن قوات حفظ السلام الروسية المتمركزة هناك لم تحرك ساكنًا لمنعها.

علاوة على ذلك، استدعت أرمينيا ممثلها من منظمة "معاهدة الأمن الجماعي"، وأرسلت مساعدات إنسانية إلى أوكرانيا، وكانت على وشك الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت في وقت سابق مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

نحو القطيعة

وفي ظل حملات إعلامية متبادلة، وتصريحات تكشف حدود التوتر بين الجانبين، أرسلت أرمينيا إلى روسيا خطاب نوايا، طالبتها فيه بسحب حرس الحدود الروسي من مطار زفارتنوتس الدولي في يريفان.

وذهب رئيس البرلمان الأرميني ألين سيمونيان إلى حد القول إنه "سيكون من الصواب أن يغادر حرس الحدود الروسي المطار، بعد أن أثبتوا عدة مرات أنهم لم يوفروا الحماية، بل فعلوا كل شيء لجعل الحدود أكثر عرضة للخطر"، مضيفًا أن "وجود الروس في قره باغ أدى إلى طرد الأرمن من هناك" حسب وصفه.

ويشار إلى أنه بموجب الاتفاقية المتعلقة بوضع قوات الحدود الروسية الموجودة على الأراضي الأرمينية وشروط عملها، والموقعة في 30 سبتمبر/أيلول 1992، يتولى حرس الحدود الروسي مهمة حراسة الحدود الأرمينية مع تركيا وإيران.

ويرى مراقبون روس في الخطوات الأرمينية محاولة للعثور على "أصدقاء مؤثرين" بين الدول التي تعتبرها موسكو "غير صديقة"، مستفيدة من حالة التوتر التي تعيشها العلاقات بين روسيا والغرب.

ويكاد يسود إجماع لدى هؤلاء بأن تعليق أرمينيا مشاركتها في اجتماعات منظمة "معاهدة الأمن والتعاون" ليس إلا مقدمة لانسحاب كامل من المنظمة، التي تعتبر الهيكل الأمني والعسكري الأكثر أهمية في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي.

أرمينيا تغيب عن المشاركة في قمة منظمة معاهدة مجلس الأمن الجماعي التي عقدت في مينسك نوفمبر/تشرين الثاني الماضي (غيتي) خطوة غير مدروسة

ويؤكد الباحث الإستراتيجي رولاند بيجاموف أن "أرمينيا لا تدرس بما فيه الكفاية تبعات خطواتها في التباعد مع روسيا والتقارب مع الغرب، لأن أهداف كل من المنظومة الغربية ويريفان تختلف بشكل جذري"، محذرًا من أن "ذهاب أرمينيا نحو خيار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، سيحرمها بالحد الأدنى -ولكن بشكل قطعي- من الامتيازات التي تتمتع بها بسبب عضويتها في الاتحاد الأوراسي".

ويوضح بيجاموف في حديثه للجزيرة نت أن "رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان فشل في اجتماع بروكسل الأخير بالحصول على دعم مالي وازن، إذ ستحصل يريفان خلال العام الجاري على 270 مليار يورو كاستثمارات من قبل الاتحاد الأوروبي، و67 مليون دولار من الولايات المتحدة".

ويضيف أن "هذا المبلغ يشكل أقل من 1% مما تحصل عليه أرمينيا من روسيا، حيث تتلقى فعليا حوالي 14 مليار دولار سنويا، من وراء عمليات التصدير والتحويلات النقدية والدعم بمصادر الطاقة والوقود".

مرحلة جديدة

ويعتبر المحلل السياسي أليكسي نوموف أن "اجتماع بروكسل دشن مرحلة انتقال يريفان إلى المعسكر الغربي"، وبرأيه فإنه "بعد تحرير أذربيجان لأراضيها، تعرضت أرمينيا لهزيمة معنوية قاسية، لكنها بدلاً من أن تتصالح مع الواقع قررت البحث عن كبش فداء، تمثل في روسيا".

ويشير نوموف إلى أن "أرمينيا باتت في وضع لا تحسد عليه، ففي منطقة جنوب القوقاز، التي تضم بالإضافة إلى أرمينيا نفسها كلا من أذربيجان وجورجيا، والمتاخمة لروسيا وتركيا وإيران، لا تريد أي من هذه الدول ظهور جيب للنفوذ الغربي، وعليه فإن يريفان بحصولها على دعم مالي وعسكري من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، تخاطر بأن تصبح منبوذة في بيئتها الخاصة، لا سيما إذا شكلت رأس حربة للكتلة الغربية في المنطقة".

لكن الباحث في مركز مشاكل القوقاز والأمن الإقليمي نيقولاي سيلايف يعتبر أن تدهور العلاقات بين يريفان وموسكو مرتبط بالوضع في المنطقة، فحسب رأيه "تستعد أذربيجان لتصعيد جديد يهدف إلى تقطيع أوصال أرمينيا، ومن هنا كان لا بد للقيادة الحالية في يريفان من أن تتنبأ مسبقا بالنتيجة السلبية لهذا الصدام، وهي تمهد الطريق مسبقا للتنصل من المسؤولية عن الهزيمة المحتملة وتحميلها لروسيا".

ويضيف سيلايف أن "يريفان تشعر بخيبة أمل إزاء رد فعل روسيا على سلوك باكو في أزمة قره باغ، وتريد العثور على حلفاء جدد يساعدونها على النجاة من المعركة المقبلة ويدافعون عنها بشكل أفضل".

ويرى أنه "للقيام بذلك، قرروا الشجار بصوت عال مع موسكو، حيث إنهم بهذه الطريقة يجذبون انتباه الحلفاء المحتملين، خصوصًا إذا كان هؤلاء خصوما لموسكو".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات الاتحاد الأوروبی الحدود الروسی

إقرأ أيضاً:

هذا هو شكل الغرب بدون أقنعة

أجيبُ مبكرًا عن هذا السؤال بأن كل هؤلاء (في جملتهم) يمثلون المنظومة الثقافية التي يحملون اسمها على تفاوت طبيعي في مستويات تمثيلهم لها، وربما تنوع تفسيرهم لها، وطريقة تنزيلهم إياها على الوقائع الجزئية للحياة. وتلك الأخيرة هي المختبر الحقيقي الكاشف عن طريقة تمثل الأفراد والمؤسسات لثقافتهم.

وفي تفاصيل هذا لا يختبئ الشيطان؛ على عكس ما يقول المثل الشهير، بل تكمن إشكالات طبيعية هي جزء من الحياة التي نحياها بجدلياتها المعتادة، وتحتاج هذه الإشكالات إلى تفكيك وفهم؛ كي نفقه الإجابة المجملة السابقة، ونحمل المعاني على وجوهها الأرجح على الأقل.

التمثيل المتناقض

أول هذه الإشكالات هو أن المنظومة الواحدة غالبًا ما تمثلها – في جانب السلوك – بعض الشخصيات والتنظيمات تمثيلًا عنيفًا، وبعضها الآخر يترجم عنها ترجمة يغلب عليها الرفق واللين؛ فهل يرجع هذا إلى طبيعة المنظومة نفسها أو إلى الطبيعة النفسية للبشر؟

فمثلًا، ظهر في ثقافات الشرقين الأقصى والأدنى، والغربين الأقصى والأقرب، والجنوبين البعيد والقريب؛ من قدَّم ثقافته تقديمًا رقيقًا يحتوي المخالف ويراعي حقوقه، وكذلك ظهر فيها جميعًا تقريبًا من ينفي الآخر، ويلغي حقوقه، بل إنسانيته أحيانًا، ويستعمل في مواجهته العنف ربما بصورة مرعبة. وكلا الفريقين يتكئ – في تعقيد واضح للمسألة – على حجج مستمدة من الوضع الثقافي الذي تكيفت عليه عقليته، وتربت عليه مشاعره.

إعلان

ولفهم هذا لا ينبغي أن ننسى أساسًا مهمًا لتفكيك هذه الإشكالية، وهو أن أي منظومة ثقافية لا بد أن تنعكس فيها وبصورة تراكمية نفسيات بشرية تقف وراء تأسيسها وصنعها وتفسير نصوصها وتبيين قواعدها خلال الأجيال المتتالية، كما ينعكس فيها التاريخ والأحداث المؤثرة التي صُنعت خلالها.

وهذا البُعد يعبر عن النسبية المطلقة التي تنشط فيها الشخصية البشرية الفردية والجمعية، حتى وهي تحاول أن تفهم نصًا مقدسًا.

ويتفرع عن هذا التفاعلِ بين الإنسان والظرف الحاوي والبيئة المحيطة بتنوع ما تلده أثناء تقلباتها وتحولاتها من الأحوال السارة والمحزنة، والنافعة والضارة؛ أن تُعِد الثقافة في بنيتها لكل موقف عدته، فموسم المطر وموسم الحصاد وعقد الزيجات والولادة وهبوب النسيم العليل ومواقف الإحسان؛ ليست كحلول الموت والقحط والحرارة اللافحة والزمهرير وهجوم الأعداء ومواقف الإساءة.

لذا تحتوي الثقافات التي تحيا هذه التقلبات – حين نفترض توافقها مع نفسها ومع منطق الحياة – على تنوعات نظرية للتفاعل مع هذه المتناقضات؛ كلٌّ بقدره وحسب نوعه، وعلى من يمثل هذه الثقافة – فردًا أو جمعًا حسب ما تفترض هي – أن يستصحب تنوعاتها وأصولها هذه في تصرفاته؛ وإلا فماذا يعني انتماؤه إليها؟

ولما لم يكن الإنسان عقلًا خالصًا؛ كما اتفق عليه الدارسون والفاحصون قديمًا وحديثًا، فإن للرغبات والميول وطبيعة الشخصية ومدى قدرتها على مقاومة الانسياق وراء الآخرين وإغراءاتهم؛ دورًا أكيدًا، بل قد يكون المحدِّد الأول لاختيارات الإنسان.

لذا، فُسِّرت المنظومات الثقافية المختلفة خلال السلوك تفسيرات متناقضة، حتى حين استندت إلى نصوص دينية منضبطة، ومن هنا برز التاريخ على صورته التي نعرفها؛ ما بين نبلاء النفس والخُلُق حتى في ساحات الحرب، ووحوش كاسرة حتى في المعاملات اليومية المعتادة.

إعلان

ولا يعني هذا تصويب كل أحد، أو قبول كل تفسير له يقدمه لمنظومته الثقافية في هذا الموقف أو ذاك، بل هو التحليل والبيان ومحاولة الفهم، والصحيح هو التصرف على قدر الموقف والسياق؛ فمثلًا المسيحي اليميني في الغرب – لو ضربنا المثال بالمواقف الخشنة للحياة – يوظف مسيحيته من خلال نص "ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا" بإطلاق، وقد يفعل مثله مسلم ضعيف الفقه في نص الحديث: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله…"، كما يفعل بوذي ينسى تسامحه مع المخلوقات حتى الحشرات، ولكنه يقتل المسلم الروهينغي بوحشية ويشرّده في البر والبحر بلا ذنب جناه. وكذلك يهودي يستحضر في تصرفه مع مخالفيه؛ فضلًا عن خصومه، ما فعله يشوع في حروبه من إبادة للحياة والأحياء وتحريق للحجر والشجر حسب أسفار القوم، وهكذا.

وفي هذه الأحوال يغيب الفهم المتوازن القائم على إدراك سياقات تنزيل وتفعيل الجانب المناسب من الثقافة التي ينتمي إليها الفاعل، وقبل ذلك تغيب وظيفة الشعور الإنساني والإحساس البشري بالمواقف، وهو أمر قارٌّ في عمق الفطرة البشرية، ولعله يمثل أحد مصادر الحكم البشري السَّويّ المشترك في المواقف العملية.

ولا يعنينا هنا الميزان الأخلاقي السابق الذي اتكأنا عليه فقط، بل يعنينا إلى جانبه كذلك ميزان التحليل الباحث عن تعليل وتفسير لهذا السلوك البشري؛ لأن التصالح مع أصحابه ليس متاحًا في كل الأحوال، فإن لم ينفع معهم التصالح فلْيُجدِ الفهم والتحليل يومًا ما!

ولكي نلخص ما سبق، فإن أهل الثقافة الواحدة يقدمون في العادة تطبيقات متناقضة في المواقف المتشابهة؛ بسبب تنوع الأحكام النظرية في تلك الثقافة، إلى جانب اختلاف الطبائع والشخصيات لدى البشر وما لها من تأثير محقق في تصرفاتهم وتفسيراتهم.

إشكالية الانقسام وتحديد الممثِّل.. غزة نموذجًا

ما دامت الثقافة والطبيعة البشرية لممثليها؛ هما معًا ما نعلل به الاختلاف السابق، فلندخل في إشكالية أدق، وهي: أنه حين يكون الاختلاف اختلاف تناقض تام بين ممثلي ثقافة واحدة في موقف واحد ممتد، ولا يمكن أن يختلف عليه اثنان يفهمان معنى الكلام الإنساني وحقيقة الأفعال البشرية؛ فهل سيظلان معًا ممثلينِ لثقافة واحدة؟

إعلان

وحرب غزة الحالية هي المثال الجلي لإيضاح هذه النقطة؛ إذ لا يمكن أن يطلع على قضيتها وأحداثها الحالية مطلع له عقل وضمير، إلا حكم بأنه عدوان وحشي وإبادة جماعية على جموع غفيرة من البشر ارتكب بعض أبنائها "خطأ" بمنطق المفعول به وأنصاره، ومارس "فعلًا مقاومًا للاحتلال" باعتباره من حق كل إنسان بمنطق أصحاب الأرض وأنصارهم.

فهناك إذن اتفاق – أو شبه اتفاق! – على أن العقوبة تجاوزت ما عدَّه الطرف الأول اعتداءً بمراحل كثيرة جدًا، ومن هنا كان يجب أن تكون المناداة والمساعي العملية إلى إيقاف الحرب بعد كل هذا الوقت وكل هذا القتل وكل هذا الدمار محل إجماع، وهو ما لم يحدث أبدًا مع الأسف.

انقسم الموقف الغربي إزاء أحداث غزة لطرفين؛ أولهما: ليس  متعاطفًا فقط مع الاحتلال وإجراءاته المجاوزة لكل حدود العنف المسوَّغ بمستويات قياسية، بل إنه يمده أيضًا بالأدوات العسكرية والوسائل التكنولوجية التي يوظفها في ممارساته، ويقدم له الدعم الإعلامي، ويضيّق على ناقديه من أي جنسية كانوا.

وأهم ما يميز هذا الطرف هو: كونه في موضع مسؤولية سياسية حاليًا، أو ينتمي إلى تيار سياسي واجتماعي يميني يؤمن بأن "الناس" ليسوا جميعًا "بشرًا" متساوين في الحقوق، أو صاحب مصالح اقتصادية ضخمة، أو حتى يخشى سطوة الصهيونية السياسية والدينية على نفسه ونفوذه وثروته، أو يتماهى مع محيطه الاجتماعي المتعاطف مع الاحتلال بقطع النظر عن كونه الظالم أو المظلوم.

ومجموع هذه الميزات أتاح لهم التدخل المباشر في الحدث الغزي المؤلم لصالح الاحتلال، وسمح لهم بقمع ما استطاعوا من الأصوات المنادية بإيقاف الإبادة والدم النازف في غزة، بل والأصوات الفاضحة مجرد فضح للعدوان والكاشفة للحقيقة مجرد كشف، حتى طاردوا مشاهد الفيديو والعبارات والإشارات المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي والمناصِرة لحقوق أهل غزة في الطعام والشراب والأمان!

إعلان

هذا هو الطرف الأول وموقفه، وأما الطرف الثاني، فيمثله كثير من المشاهير الغربيين وممثلي المنظمات الدولية، وليس فقط مجرد موقف جماهيري لقطاع واسع من الشباب الجامعي وغير الشباب ممن يملؤون شوارع المدن الكبرى والجامعات في الولايات المتحدة وكندا ودول الاتحاد الأوروبي بالاحتجاج والتظاهر، ويرون الحقيقة واضحة، سواء خطّؤُوا المقاومة الفلسطينية في هجومها الذي شنته في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أو اعتبروه فعلًا مشروعًا وسعيًا مستحَقًا لاستعادة الحقوق المسلوبة، وأنه لا ينبغي أن ينظَر إليه منفصلًا عن سياقه التاريخي الذي أدى إليه.

ولا يخفى أن أصحاب هذا الموقف النبيل لا يملكون إلا الصوت والكلمة، ولم يستطيعوا إلى الآن إلا أن يضغطوا في اتجاه إيقاف الحرب، والعمل على إبراز بقايا الإنسانية التي ما زالت كامنة في منظومتهم الثقافية.

ولعلنا نلاحظ هنا أن المواقف الحاسمة والمؤثرة في أحداث غزة الحالية لا تصنعها العواصم العربية ولا الإسلامية للأسف؛ لا على المستوى الرسمي ولا الجماهيري، ونستعير من الدكتور نجيب الكيلاني عنوان روايته: "الظل الأسود"؛ للتعبير عن هذا الاستبداد المتمكن في تلك البلاد منذ انفصلت عن الاستعمار، حتى فقدت خلال هذه العقود قدرتها على التأثير حتى في قضاياها الأخص.. لقد ترحّل عنها التأثير يوم غطاها هذا الظل الكالح، وصارت تحت سيطرته لا تُرى إلا باهتة فاقدة لأسباب الحياة.

ونعيد السؤال من جديد: أي هذين الطرفين الغربيين يمثل الثقافة السائدة والأكبر تأثيرًا في العالم الآن؟

لا شك أن الجانب الإنساني قد ضمر في بنيان هذه الثقافة بصورة واضحة، لكنه لم ينمحِ تمامًا، وهذا الوجود الضامر قابع وكامن في ذواكر ونفوس أهل هذه الثقافة، ويعبر عن نفسه أحيانًا متصالحًا مع نفسه؛ أي لا يستثني حالة بشرية اطلع عليها تستحق التعاطف، وأحيانًا أخرى يعبر عن نفسه متناقضًا مع ذاته، فيتعاطف في حالات ويتنازل عن إنسانيته في أخرى؛ فـ"بيل غيتس" مثلًا – مؤسس وأكثر فرد مالك لأسهم في شركة مايكروسوفت التي تدعم بوسائلها التقنية المتقدمة جرائم الاحتلال مباشرة – هو نفسه أحد أكبر المتبرعين بالمساعدات لعلاج الأمراض المتوطنة ونتائج الجوائح والكوارث في العالم، حتى سجل تقرير مؤسسته الخيرية قوله عن جهودها الخيرية في العام الماضي: "التزمت مؤسسة بيل وميليندا غيتس بإنفاق 8.6 مليارات دولار هذا العام؛ للمساعدة في تلبية الاحتياجات المتزايدة، وتمويل طرق مبتكرة لإنقاذ الأرواح، وتحسين حياة الناس".

إعلان

ومن هنا يمكننا أن نزعم أننا أمام تعبير غربي انشطاري إزاء الحدث الغزي الضخم؛ أعني أن أحد شطريه يتبنى جانبًا من ثقافته والثاني يتبنى الآخر، وما دام النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، فإن امتداد الحدث الغزي سيمثل مزيدًا من الضغط لزيادة التمايز بين الفريقين المذكورين، ولو بقي هذا مجرد رواسب نفسية كاشفة للزيف، فإن له تأثيرًا ما في الواقع والمستقبل.

ولكن هل يمكن أن يؤدي هذا إلى تغييرات عميقة أو حتى سطحية في الموقف الأخلاقي الغربي من الآخر مهما يكن؟

الحقيقة أن هذه الانشطارية قد عاشتها هذه المجتمعات من قبل في أحداث عدة، وإن بصورة أقل حدة؛ منها مثلًا: الغزو الأميركي الغربي للعراق عام 2003 بأسباب لم يستسغها كثير من المثقفين والشباب الأميركي والأوروبي، حتى جرى كثير من التواصل بين جموع المحتجين في العالم لتنسيق التظاهرات والجهود المناوئة للحرب، لكن لم يعقب هذا الأمر أي تغيير ملحوظ في المواقف الغربية الرسمية من القضايا المشابهة.

ويبدو أن الأمر رهن بالنفوذ المالي والسياسي والإعلامي، فمن يدير ويوجه العمل في هذه المجالات هو الذي يربح معارك التغيير والثبات في النهاية.

إن الحركة الاجتماعية لكي تكون تغييرية فلا بد أن تتخذ شكل مؤسسات تعمل في عصب الحياة الحساس للمجتمع، وتركز على المفاصل التي من شأنها أن تحمل مستقبلًا أفضل في التعبير الأخلاقي عن النفس؛ مثل: مدارس الأطفال، وكليات العلوم الإنسانية، ومؤسسات تخريج القادة، والأحزاب السياسية، ومنابر الرأي والكلمة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • ماذا نعلم عنه؟.. مقتل ضابط روسي بارز بانفجار داخل روسيا
  • ماذا بعد تشديد الاتحاد الأوروبي لهجته حيال إسرائيل؟
  • الاتحاد الآسيوي يعدل مواعيد الجولة السادسة من أبطال آسيا للنخبة وآسيا 2
  • صحيفة بريطانية: رفع قيود الغرب على استخدام أوكرانيا أسلحته ضد روسيا
  • الاتحاد الأوروبي يعتزم مواجهة روسيا في البحر الأسود
  • "الاتحاد القطري للرياضة للجميع يكشف تفاصيل النسخة الثامنة من سباق التراماراثون " قطر من الشرق إلى الغرب
  • بقرة تتحرك بأمر الله وترسم الحدود.. ماذا يحدث في الضفة الغربية؟
  • روسيا.. لافروف يكشف شروط موسكو لوقف الحرب مع أوكرانيا
  • هذا هو شكل الغرب بدون أقنعة
  • محمد بن حم يشارك في منتدى “حوار يريفان” إلى جانب قادة دوليين في أرمينيا