حذّر المبعوث الأميركي الخاص إلى السودان، توم بيريللو، من خطورة الحرب السودانية، داعياً إلى ضرورة حل الأزمة سريعاً قبل تحولها إلى «حرب إقليمية». ورجّح بيريللو، في مقابلة خاصة مع «الشرق الأوسط»، أن تبدأ محادثات جدة قريباً من دون تحديد التاريخ، مشيراً إلى وجود مفاوضات غير رسمية جارية في الوقت الحالي.

وحثّ بيريللو «اللاعبين الخارجين» على أن يكونوا شركاء في تحقيق السلام في السودان، مشدداً على أنه يحظى بتعاون من أعلى المستويات في البيت الأبيض ووزارة الخارجية، لكنه لا يستطيع «تحقيق الهدف بمفرده من دون تعاون الآخرين».

وأوضح أن ما يجري يشكل مشكلة استراتيجية، تتمثل في «وجود بلد يتمتع بموقع رئيسي في الساحل، لكنه ينزلق نحو ما هو ليس مجرد حرب أهلية، بل حرب متعددة الأطراف تجر جيران السودان. فما نراه هو تحول النزاع إلى صراع إقليمي بشكل متزايد، وهذا يعد كارثة للجميع».

وأكد المبعوث الخاص الأميركي أنه يحصل على تعاون من أعلى المستويات في البيت الأبيض ومن وزارة الخارجية للقيام بمهامه. وفيما يلي نص اللقاء كاملاً..

إرادة سياسية

* هل ترى نوراً في نهاية الأفق في السودان؟

– نعم، أرى طريقاً إلى الأمام في السودان، لقد رأيت صراعات سابقة اعتبر البعض أنه ليس لديها أمل، ثم شهدنا انفراجات كبيرة، بما في ذلك أول اتفاقية سلام عملتُ عليها في سيراليون. أرى في الواقع طريقاً للأمام في السودان، إنها مسألة إرادة سياسية. الحقيقة أن الشعب السوداني موحد إلى حد كبير حول ما يريده، إنهم منقسمون بشأن القضايا السياسية، وهذا أمر طبيعي في أي مكان، ليس من المفترض أن يكون عليه إجماع، لكن هناك إجماعاً عميقاً على الأسئلة الجوهرية التي لها صلة بهذه القضايا.

أعتقد أن هناك مصلحة مشتركة، أو ينبغي أن تكون هناك مصلحة مشتركة، لكل اللاعبين في المنطقة، بأن الجميع يمكن أن يستفيد من سودان مستقر تحت انتقال ديمقراطي شامل

وأعتقد أن هناك مصلحة مشتركة، أو ينبغي أن تكون هناك مصلحة مشتركة، لكل اللاعبين في المنطقة، بأن الجميع يمكن أن يستفيد من سودان مستقر تحت انتقال ديمقراطي شامل، والجميع يخسر في المسار الذي نحن عليه الآن. لذا يجب أن نكون قادرين على الاصطفاف من أجل الوصول إلى اتفاق. وهذا ليس مجرد سؤال عما إذا كنا سنفعل ذلك، بل ما إذا كنا نفعله بسرعة كافية، لأن الوقت ليس لصالحنا، ونحن نتصرف بسرعة ليست دائماً في طبيعة الدبلوماسيين والدبلوماسية.

وربما ننتهي بكوننا غير دبلوماسيين بعض الشيء، إذ إننا ندفع ونلوي الأذرع قليلاً للوصول إلى تلك النقطة. لكن ما رأيته في أشهري القليلة في الوظيفة هو أن هناك فهماً متزايداً بأن هذا وضع يخرج عن السيطرة، ولا أحد سيستفيد من ذلك السيناريو، وهذا ما يمنحني بعض الأمل. والأهم من ذلك، أنا متفائل لأن الشعب السوداني كان مرناً خلال أوضاع مروعة في السابق، وهو لا يتخلى عن طموحه لمستقبل أكثر إشراقاً. وأرى ذلك كلما التقيت بالسودانيين، خاصة النساء والشباب الذين يأتون بأشياء مثل غرف الاستجابة للطوارئ، ويجدون طرقاً للحصول على تطبيقات دفع نقدي وأشياء أخرى. وهم ببساطة على دراية رقمية هائلة، كما أنهم مخلصون جداً لبلدهم، ولم يتخلوا عن ذلك المستقبل الذي يعتقدون أنهم يستحقونه. وطالما أنهم لم يستسلموا، نحن لن نستسلم وأعتقد أنه يمكننا العثور على مسار للحل.

ضرورة الحل العاجل

* بعد عام من بدء الحرب في السودان، لا تبدو هناك انفراجة في جهود وقف إطلاق النار أو حتى تسليم المساعدات الإنسانية، فما هي خطتكم؟

– هناك قدر كبير من الشعور بضرورة الاستعجال في حل الأزمة التي تتحول بسرعة من سيئ إلى أسوأ من حيث مستوى العنف على الأرض. الولايات المتحدة هي أكبر المانحين في المساعدات الإنسانية، ونأمل أن نتمكن من جمع مزيد من الأموال في مؤتمر المانحين في باريس. كما أننا بحاجة إلى إيصالها، ونحن نضغط على جانبي النزاع للسماح بذلك، حتى مخيمات اللاجئين في مناطق مثل تشاد، ليس لدينا تمويل كافٍ، وذلك لأن العالم لم يسمح لهذه الأزمة بالاستمرار فحسب، بل بالاستمرار بخفاء تام تقريباً. نحن ندفع باتجاه استئناف محادثات السلام في جدة لكي تكون شاملة لكل من الشركاء الأفارقة ودول الخليج الذين هم مفتاح المساعدة. ونحن بحاجة إلى أن تنتهي هذه الحرب، ومن الواضح أننا لم نضغط بما فيه الكفاية على الفاعلين لإنهاء هذا الوضع، وسنحتاج إلى القيام بذلك، بالتعاون مع الآخرين في المنطقة.

عقوبات على الفاعلين

* تتحدث عن الضغط، ماذا يعني هذا بالنسبة للولايات المتحدة؟ أيعني مزيداً من العقوبات؟

– كما تعلمون، لقد بدأنا بفرض عقوبات على الفاعلين من طرفي النزاع المسلح، سواء الأفراد أو البنوك والمؤسسات الأخرى التي تدعم الحرب والفظائع، ونحن نأمل أن ينضم إلينا آخرون في توسيع نطاق تلك العقوبات الحكومية. وأعتقد أنه يجب أيضاً حثّ البعض على الاستماع إلى المنطق، حتى إن لم يكن الحافز هو رؤية هذه المعاملة الفظيعة للنساء والأطفال، فما يجري يشكل مشكلة استراتيجية أيضاً، بمعنى وجود بلد يتمتع بموقع رئيسي في الساحل، لكنه ينزلق نحو ما هو ليس مجرد حرب أهلية فحسب، بل حرب متعددة الأطراف، تجر جيرانه. لقد رأينا هذا من قبل، ولا أحد يربح في ذلك السيناريو. لذا، نحتاج إلى أن تسود العقول الهادئة الآن، ونحتاج إلى مزيد من شركاء السلام.

* قلت في السابق إن محادثات جدة ستبدأ نحو يوم 18 من الشهر الحالي، هل ما زلت تعتقد ذلك؟

– نحن نؤمن بأن المحادثات ستبدأ، لكننا لم نحصل بعد على تاريخ من الجانب السعودي، لكنّ لدينا التزاماً بإعادة بدء المحادثات، وفي الأثناء نحن لا ننتظر بدء تلك المحادثات، بل نتفاوض كل يوم. ترون ذلك في تنقلاتي حول المنطقة، وترونه أيضاً في الدور المتزايد لـ«الأمم المتحدة» و«الاتحاد الأفريقي». المفاوضات جارية الآن، ويجب على الناس أن يعرفوا ذلك. نحن نسعى إلى إنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن. الشعب السوداني لا يستطيع تحمل تكلفة الانتظار، وبالتأكيد نعتقد أن المحادثات الرسمية جزء مهم من هذه المساعي.

* لكن الخارجية السودانية تقول لا أحد تواصل معها في شأن عقد المحادثات، فهل تواصلتم معها؟

– نحن نتطلع إلى إرسال الدعوات، وإلى إجراء الاتصال، بمجرد أن يعطينا الجانب السعودي تاريخاً للمضي قدماً، ونعتقد أنه كلما كان ذلك أسرع كان أفضل. ربما نرى بعض الأخبار بالتزامن مع الذكرى السنوية الأولى لبدء الحرب، لكننا نعلم أيضاً أن هناك بعض التوقف بمناسبة عيد الفطر، رغم أن القتال لم يتوقف، بل شهدنا تصعيداً دراماتيكياً للقتال، خاصة حول مدينة الفاشر، ما خلق بيئة رهيبة للمدنيين، ووصول مساعدات إنسانية أقل. لذا في هذا السياق، نحتاج إلى استعجال أكبر في التحرك نحو إبرام اتفاق ما.

ننحاز للشعب فقط

* سمعت من بعض المسؤولين السابقين اقتراحات بأن واشنطن تقف مع طرف في النزاع دون الآخر، ما رأيك بهذا الطرح؟

– نحن بالفعل نقف مع طرف محدد، وهو الشعب السوداني الذي هو واضح جداً إزاء ما يريد… فهو يريد إنهاء الحرب، ويريد رؤية جيش موّحد ومحترف، ويرغب أيضاً في العودة إلى الانتقال الدستوري، الذي كان لدى الشعب السوداني شجاعة وإلهام كبيران في إحيائه قبل 5 سنوات. السودانيون لا يريدون رؤية المتطرفين ومسؤولي النظام القديم الفاسدين يعودون «إلى الحكم». كما أن هناك توافقاً كبيراً في الرأي بين شعب السودان والولايات المتحدة التي تقف إلى جانبه. وسوف نعمل مع أي طرف في هذا الصراع يوافق على الالتزام بمسار يريده شعب السودان، ونحن نعتقد أن هذا هو المحور الأهم في هذه المحادثات، بل في أي اتفاق سلام.

* هناك كثير من اللاعبين الخارجيين الذين يشاركون اليوم في النزاع، من إيران إلى أوكرانيا، هل يمكنك تأكيد هذه التقارير؟ وهل تقلقك؟

– رأينا تقارير بهذا الشأن (حول أوكرانيا)، ونحن نرى كذلك مزيداً من التقارير حول قدوم مقاتلين أجانب إلى جانب «قوات الدعم السريع» من الغرب عبر الساحل. ما نراه هو تحول الصراع إلى صراع إقليمي بشكل متزايد، وهذا يعد كارثة، ليس للسودان فقط، لكن بصراحة لجميع اللاعبين الإقليميين. وينبغي أن يكون هذا نداء صارخ للدول المجاورة بأن هذا الوضع يجب أن يتوقف قبل أن نشهد شيئاً يشبه حرباً إقليمية. ولا يزال هناك وقت لفعل ذلك، وما نحتاجه هو أن يتوقف اللاعبون الخارجيون عن تغذية الحرب، نحتاج منهم أن يكونوا شركاء في السلام وأن يقفوا مع ما يريده الشعب السوداني.

* وماذا تفعل الولايات المتحدة في هذا الخصوص؟

– نحن نتصرف كل يوم، ونقوم بذلك من خلال زيارات دبلوماسية مكوكية. رأينا عدة مبادرات أعتقد أنها لعبت دوراً إيجابياً. أعتقد أنه قبل بضعة أشهر، كان هناك البعض – ممن لا أوافقهم الرأي – ظنوا أن جانباً في الصراع المسلح قد يتمكن من تحقيق النصر، وهذا الاعتقاد يصعّب الوصول إلى طاولة المفاوضات. لكني لا أعتقد أن أي شخص ذي مصداقية يرى أن هذا سيحدث الآن. وما نراه هو جمود يمتد، مع وجود مزيد من اللاعبين الخارجيين الذين يدخلون إلى البلاد، وهذه وصفة كارثية لجميع الأطراف، لأن الحقيقة أن الجميع سيستفيد من سودان مستقر يعود إلى المسار الذي كان عليه قبل بضع سنوات، وهذا يشمل التفكير في إنشاء جيش موّحد محترف، باعتباره جزءاً مهماً من مؤسسة الدولة في المستقبل.

تعاون من أعلى المستويات

* لنتطرق إلى تعيينك في منصبك كمبعوث خاص، حظي بردود فعل مرحبة، لكن البعض انتقده خاصة في الكونغرس، لأنه لم يكن تعييناً رئاسياً. يقولون إنك لا تملك خط تواصل مباشر مع وزير الخارجية، صحيح؟

– سألتقي بوزير الخارجية قريباً، أعتقد أن هذه المخاوف تلاشت اليوم، عبر رؤية حجم العمل الذي نقوم به. نحن نحصل على تعاون من أعلى المستويات في البيت الأبيض ومن وزارة الخارجية، فهناك اهتمام بهذا الملف، بالإضافة إلى مرافق أخرى في الإدارة الأميركية. على سبيل المثال، اتخذت السفيرة ليندا توماس غرينفيلد دوراً قيادياً مهماً في «الأمم المتحدة» وتعمل معنا ومع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية. هذه مقاربة شاملة من الحكومة الأميركية، وأنا كمبعوث خاص وظيفتي تقضي تنسيق وقيادة هذه الجهود الاستراتيجية باسم الرئيس بايدن ووزير الخارجية بلينكن. وأعتقد أنكم ترون دوراً هائلاً من قيادة الولايات المتحدة، لكننا لا نستطيع أن نفعل ذلك بمفردنا، ونحتاج أن نرى اللاعبين الرئيسيين في الداخل وفي المنطقة ينضمون إلينا بنفس حسّ الإلحاح لنصل إلى ذلك الاتفاق، وتسليم الشعب السوداني مستقبله.

* هل سنرى تعيين سفير إلى السودان قريباً؟

– سفارتنا ليست مفتوحة في الخرطوم كما تعلمون، نحن في الواقع على تواصل مع الحكومة، والوزارات ذات الصلة بشأن هذه العملية لديها بروتوكول خاص. في الوقت الحالي يتوزع فريقنا في أجزاء مختلفة من المنطقة، وسنواصل محاولة التعرف على أفضل طريقة لإدارة الوضع، بما في ذلك من خلال موظفينا المحليين الذين يبقى بعضهم في البلاد، وواجباتنا القنصلية وعوامل أخرى مرتبطة بذلك.

البرهان وحميدتي

فوائد الاتفاق

* يقول البعض إن طرفي النزاع في السودان اليوم هم عسكريون، والعسكر غير مدرب على التفاوض، بل على الفوز في القتال، ما هي استراتيجيتك في هذا الشأن؟

– أملنا هنا هو أننا قد نتمكن من تغيير العقلية القائلة إن عدم الفوز يعني الخسارة. وأحياناً، من الأسهل فعلياً جعل الناس يرون فوائد الاتفاق أولاً بدلاً من فوائد المحادثة. لذلك، نحن بحاجة إلى إجراء محادثات رسمية، لكني أعتقد أيضاً أنه عندما نتحدث عن النتيجة في المستقبل سيكون لدينا شيء يرى الجميع أنه يفيدهم في السودان. لكن، هذا صعب، عندما يكون الناس في حالة الحرب، لأن عداوتهم تكون في أوجها. ولهذا السبب، نعتقد أن الأمر لا يتعلق بجعل الطرفين المتحاربين يتباحثان بعضهما مع بعض، بل يتعلق قبل كل شيء بتركيز اهتمامنا على الشعب السوداني وما يريده. يجب أن يكون السودانيون هم من يحدد المستقبل، ومن ثم العمل مع اللاعبين الخارجيين لضمان أن لدينا ضغطاً دبلوماسياً كافياً لدعم الخطة التي يريدها الشعب السوداني.

نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط

الوسومآثار الحرب في السودان المبعوث الأمريكي الخاص للسودان حرب الجيش مباحثات جدة

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: آثار الحرب في السودان المبعوث الأمريكي الخاص للسودان حرب الجيش مباحثات جدة الشعب السودانی فی السودان فی المنطقة فی النزاع أعتقد أنه أعتقد أن أن هناک أن یکون فی هذا أن هذا

إقرأ أيضاً:

هناك تحولات حقيقية حدثت في الحرب بعد تحرير ولاية الخرطوم وبداية التقدم غربا

الحرب في كردفان أخذت منحى سجالي واضح ودخلت مرحلة جديدة لا تشبه مرحلة بدايات الحرب حيث تفوقت المليشيا بفارق الإستعداد والعتاد الحربي وحاصرت الجيش واسقطت المدن والفرق العسكرية؛ وهي كذلك لا تستمر بنفس الوتيرة التي سارت بها بعد لحظة عبور الجسور في العاصمة ثم تحرير جبل مويا وصولا إلى تحرير الخرطوم حيث كان الجيش يتقدم بشكل مستمر وفشلت المليشيا في وقف تقدمه في العاصمة والولايات.

فمع توغل الجيش في كردفان عبر أكثر من محور، حشدت المليشيا قواتها ونجحت حتى الآن على الأقل في إيقاف تقدم الجيش في كردفان وهو ما لم يحدث منذ أن تحول الجيش إلى مرحلة التقدم والهجوم وصولا إلى تحرير كامل ولاية الخرطوم.

صحيح خلال تلك المرحلة كان الجيش يتأخر قليلا ويتباطأ، ولكنه لم يخسر معارك تذكر ولم يدخل في سجال مع المليشيا، تقدمه كان مضطردا ومتسارعا حتى عبور جسر جبل أولياء ثم لاحقا تحرير آخر معاقل الجنجويد وأكبرها في الصالحة.
المعارك في كردفان أخذت منحى مغاير.

صحيح من الناحية الكلية، الجيش والقوات المساندة يحاربون الآن في كردفان بعد أن كانوا يتصدون لمحاولات تقدم المليشيا شرقا في جبهة ممتدة من النيل الأزرق مرورا بالدندر والخياري إلى سهول البطانة وشرق النيل وكذلك منع تمددها شمالا باتجاه نهر النيل وجنوبا وغربا نحو النيل الأبيض ومدينة الأبيض وغيرها من المناطق التي ما تزال إما محاصرة أو سيطرت عليها المليشيا. بهذه النظرة العامة ما يزال الجيش محافظا على انتصاراته واستطاع نقل المعركة إلى منطقة متقدمة في طريقه نحو تحرير كامل التراب السوداني، ولكن تواجهه بعض الصعوبات. ومن المؤكد أن المصاعب من طبيعة الحرب.

ومع ذلك، فلا بد من وقفة وتفكير أمام هذا المعطى الجديد، معطى دخول الحرب مرحلة سجالية بين الجيش والقوات المساندة له من جهة ومليشيات الجديد وحلفاءها من جهة أخرى.

قد تكون مرحلة طارئة وعابرة وسيواصل الجيش تقدمه وفق خططه المرسومة وقد لا تكون كذلك أيضا. ونحن هنا نفترض أسوأ الاحتمالات ونتمنى أن يكون الوضع أفضل من هذا الافتراض.
هناك تحولات حقيقية حدثت في الحرب بعد تحرير ولاية الخرطوم وبداية التقدم غربا:
فقد اختلفت أرض المعركة بكل ما تعنيه الكلمة من جغرافيا وتضاريس وبشر ومجتمعات، كما اختلفت تبعا لذلك التصورات؛ القتال أصبح على أرضية مغايرة وله طبيعة مغايرة وتعريف مختلف؛ وبالتالي هناك متغيرات أخرى تابعة.

الحرب في الخرطوم والجزيرة وسنار كانت حرب وجودية بالنسبة للشعب (في تلك المناطق وأيضا حتى بالنسبة للشعب خارجها باعتبار أنها تمثل مركز ثقل الدولة سواء أحبننا هذه الحقيقة أم لا) وللدولة وللجيش نفسه. الدوافع كانت مختلفة نوعا ومقدارا عن الآن؛ الجيش قاتل لكي يفك الحصار عن نفسه عن مقراته الأساسية وكذلك ليسترد شرفته وكرامته التي أهينت ولينقذ نفسه كجيش. والمواطنون قاتلوا ليحموا أرضهم وأعراضهم واصطف الشعب وراء الجيش لاستعادة البلد والدولة.

بعد فك الحصار عن القيادة العامة وتحرير القصر الجمهوري حدث تحول تدريجي في طبيعة الحرب. بدلا من حرب وجودية تهدد كيان دولة ومصير شعب تحولت إلى حرب بين دولة ومليشيات متمردة؛ هذا انتصار من ناحية، وفي الوقت نفسه خسارة من الناحية الأخرى، لأنه يعني أن الحرب من الآن وصاعدا أصبحت مهمة الدولة والحكومة في إطار الواجب الروتيني للحكومة وللمؤسسات الأمنية. هذا الأمر لم يحدث بشكل صريح وكامل تماما، ولكنه يحدث بشكل تدريجي لا-واعي.

الحرب في حقيقتها لم تتغير؛ حرب تهدد كيان الدولة ومصير الشعب، ولكن هذه الحقيقة لم تعد بنفس البداهة الأولى حينما كانت الحاميات تتساقط والمدن والقرى تهجر، في ذلك الوقت كانت حقيقة الحرب واضحة وفجة ولكنها الآن بعد استعادة الدولة أصبحت بحاجة إلى تفكير وتجريد ذهني لتُدرك على حقيقتها كحرب ضد الدولة وكيانها وسيادتها. وهذه هي مشكلة البشر عموما بما في ذلك القادة السياسيين والعسكريين.

فأداء قيادة الجيش الدولة اختلف بعد تحرير ولاية الخرطوم. توقفت الزيارات الميدانية إلى محاور القتال التي كنا نشهدها أيام محاور الخياري والمناقل وسنار. كانت زيارات لكبار القادة مستمرة ومتكررة تدل على أن هناك عمل يتم التجهيز له ومتحركات يتم إعدادها، وكذلك الخطاب السياسي. يبدو الأمر وكان قيادة الجيش التي عبأت الشعب السوداني قد دخلت في إجازة طويلة وربما مفتوحة

هناك تراخي واضح، هذه واقعة مجردة؛ هل هذا التراخي مقصود أم تلقائي هذا أمر آخر.
في المحصلة تتحول الحرب حرب شعب ودولة إلى حرب تقليدية روتينية بين دولة ممثلة في مؤسسات ضعيفة زمنهكة وقوات مساندة طاقتها محدودة في مواجهة تمرد مسلح على الناحية الأخرى، يتحول الشعب فيها إلى متفرج أو متابع. واللوم لا يقع على الناس العاديين وإنما على قيادة الدولة فهي المسئولة عن إبقاء الحرب كقضية أساسية وأولى لا كقضية ثانوية تخص مؤسسة الجيش والقوات شبه النظامية. طبعا هذا الكلام بافتراض أن الدولة تريد أن تحارب. فإذا لم تكن لديها خطط للاستمرار بنفس الوتيرة وتعمدت تبريد الحرب فهذا أمر آخر ولكن يجب أن تكون قد استعدت له جيدا. فالجيش لم ينتصر في هذه الحرب كجيش رغم صموده وتضحيات قادته وجنوده، وإنما انتصر بفضل السند الشعبي.

ولنكون أكثر دقة، انتصر الجيش بفضل المساندة الشعبية غير التلقائية الناتجة عن الخوف من انتهاكات وجرائم الجنجويد. بمعنى، لم يكن الدعم الشعبي للجيش ناتجا عن وعي سياسي وإدراك للأبعاد الحقيقية للحرب، بقدر ما هو بكل بساطة بسبب فظائع الدعم السريع. ففي بداية الحرب وقف الناس في الحياد ربما بانتظار من يحسم المعركة ويعيد الأمن والاستقرار؛ لو كان الدعم السريع استطاع هزيمة الجيش والسيطرة على مقراته ثم السيطرة على قوات الدعم السريع نفسها وضبطها ومنع تفلتها، ثم بسط الأمن لما وجد الجيش كل هذا الدعم والالتفاف مهما كانت هذه الحرب مؤامرة خارجية أو مؤامرة كونية، هذا لا يفرق كثيرا.

معنى ذلك أن هذه المساندة قائمة على أسس هشة ولحظية وقابلة للزوال بزوال المؤثر؛ وخطورة هذا الأمر لو تجمدت الحرب لفترة طويلة وأعادت المليشيا بدعم من حلفاءها في الداخل والخارج ترتيب نفسها يمكن أن تواجه الجيش مواجهة جيش-مقابل جيش ومن معه سلاح وعتاد وجنود أكثر يكسب الحرب.

هذا الجيش بكل عظمته وتاريخه ولكنه لم يتمكن لوحده من هزيمة أي تمرد واجهته الدولة بما في ذلك تمرد حركات دارفور، والآن هو يواجه القوات التي كانت تقاتل معه التمرد وهي مدعومة من الخارج دعم غير مسبوق في تاريخ الحروب في السودان.

وعلى أي حال، فإن الخيارات ليست سهلة وبسيطة كأن نقول لقيادة الجيش أما أن تحاربوا أو أن تسالموا. لأن الحرب إ ذا كانت مكلفة فإن السلام الذي يؤدي إلى تحقيق أهداف العدو أكثر كلفة.

هناك ثوابت متعلقة بسيادة الدولة واستقلال قرارها في شأنها الداخلي بالذات، لا يمكن أن تحارب وتوقع سلاما مع جهات تمثل أجندة خارجية يراد فرضها عليك. السلام بهذا المعنى، وهو المعنى الذي تسعى إليه المليشيا وحلفاءها وداعميها بلا كلل، ليس خيارا، لأنه يعني الهزيمة والاستسلام. ولذلك يبقى معنا خيار واحد هو خيار الحرب حتى كسر شوكة العدو وهزيمة أي أجندة خارجية يُراد فرضها عبره، أي عبر الجنجويد وحلفاءهم، على السودان.

أنا هنا لا أدعو إلى استمرار الحرب كما لا أدعو إلى السلام، أنا أقول إن الحد الفاصل بين الحرب والسلام هو السيادة الوطنية واستقلال إرادة الشعب السوداني في تحديد خياراته. ضمن هذا الشرط يمكن أن نسالم، وفي حال عدم تحققه ووجود أجندة خارجية تحملها جماعات التمرد فلا مفر من الحرب.

إن الدولة بحاجة إلى حشد الشعب وتوحيده خلف رؤية واضحة للحرب والسلام. فإذا كانت الحرب في سنار والجزيرة والخرطوم هي لإخراج الجنجويد من منازل المواطنين والمرافق الخدمية ومنشآت الدولة، فإن الحرب في كردفان ودارفور لا يمكن أن تستمر بهذا التوصيف الذي وإن كان صحيحا إلا أنه ظاهري أو سطحي؛ فالأمارات لم ترسل الأسلحة لإحتلال البيوت والمتستشفيات وتهجير الناس؛ لقد أرادت أن تفرض عملائها على الشعب السوداني وتفرض عبرهم أجندتها في بلدنا؛ هذا الهدف لم يتغير بخروج المليشيا من ولاية الخرطوم. وإذا كانت أهداف العدو من الحرب لم تتغير فليس هناك أي سبب في تغير تعاطينا معها كشعب وكقيادة للدولة. بعبارة أوضح، خروج الجنجويد من الخرطوم وتحولهم إلى القتال في وديان كرفان وصحارى دارفور لن يغير من طبيعة المعركة؛ لأنهم لو دمروا متحركات الجيش في كردفان ودارفور سيعودون مرة أخرى إلى الخرطوم وسيفرضون شروطهم على الجيش وعلى الشعب السوداني في أي سلام قادم.

أنا لا أحب التشاؤم، ولكن الذي يفصلنا على عن توقيع سلام يحقق هدف العدو هو بضعة هزائم يتلقاها الجيش في كردفان ودارفور تبرهن المليشيا وحلفاءها من خلالها استحالة الحل العسكري للحرب وأن استمرارها ليس في مصلحة الجيش والحكومة السودانية.

ولكي نتجنب هذا السيناريو يجب أن تعود قيادة الجيش لأجواء الحرب (ما دامت هناك حرب بالفعل) كما لو كانت القيادة العامة محاصرة والمليشيا ما تزال في جبل مويا وجسور العاصمة تحت سيطرتها، هذا إذا كانت لا تريد أن توقع على اتفاق سلام مذل مع الجنجويد وحلفاءهم.

حليم عباس

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • حماس تنفي تصريحات المبعوث الأميركي: لا تخلي عن سلاح المقاومة إلا بزوال الاحتلال
  • حماس تصف زيارة المبعوث الأميركي لغزة بـ”المسرحية” لتلميع صورة الاحتلال
  • هناك تحولات حقيقية حدثت في الحرب بعد تحرير ولاية الخرطوم وبداية التقدم غربا
  • المبعوث الأميركي يزور مركز المساعدات في رفح.. وحماس: مسرحية
  • مصدر: المبعوث الأمريكي يصل إلى موقع لتوزيع المساعدات في رفح بغزة
  • المبعوث الأميركي يشيد بالشرع وإسرائيل توجه رسالة لدمشق
  • المبعوث الأميركي يزور غزة على وقع «المجاعة» ومقتل العشرات
  • المبعوث الأميركي ويتكوف سيزور قطاع غزة
  • بعد اجتماعهما مع نتنياهو.. ويتكوف وسفير واشنطن يزوران غزة لتقييم الأوضاع ميدانيا
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: والحرب الحقيقية تبدأ الآن