يجمع الناس بأن أجمل مافي شِعْرِنا ل هو شعر الحنين الى الديار.
وهذا الغرض الشعري برغم وجوده بكثافة في جل أشعار اهلنا في السودان إلا أن اسلوب التعاطي معه في ثنايا أشعارنا يختلف كثيرا، فلايسع المتلقي الا ويعلم يقينا بأن هذه الكلمات وذا السياق انما هو لشاعر من الشعراء المتحدثين بلهجة الشايقية!…
وهنا يعذر المرء النقاد اذ مافتئوا وقافين بين يدي كون شاعرية أهل المنطقة جينية أم كان للمكان بصمته تشكيلا لوجدان الناس في تلك السوح والفضاءات؟!فللرأيين قبول ومناصرين.


هذه القصيدة كم أجدها ريانة بمشاعر الحنين الى الديار وأهلها حد الإشباع! وهي كذلك موغلة في سبر غور الشوق الى حد الارتحال جسدا وروحا مع كل صورة ذكرى تتصعد كما فقاعات الصابون من قصبة يعتمرها طفل يجالس أمه المقعية بتصبار وحميمية على طشت الغسيل وبين يديها حبل تتناثر عليه جلاليب ذكران البيت وألبسة الرياضة والعراريق والسراويل…
والحق أقول بأنني لم اقرأ لشاعر هذه القصيدة المبدع عبدالله التاج قصائد أخر، لكنني أقول بملئ فيَّ انه إن لم يكتب سواها لكفته!
يا الله انت براك الحالة داريبا
من أهلي من خلاي طالتبنا الغيبة
انها الغربة ياأحباب!…
كم لها على النفوس من وطأة، وعلى العقول من إضرار، وعلى الاجساد من انهاك!
كيف لا والمنافي قد كانت ولم تزل تتناوشنا منذ القِدَم فإذا بك تجد في اواسط كل مدينة سودانية وقرية فريقا وحِلَّة للشايقية!
ولاغرو أن الأمر سيان مابين المنفِي وذاك الذي اضطرته (المعايش) لان يدع الديار بأهلها ويهاجر وتطول به الغيبة سنوات وعقود…
والغربة يااحباب كالنار، تُصلي الوجدان فلاتخرج الأشعار إلا ناضجة كما الذهب أصفر فاقع لونه يسر مرآه الناظرين، أو كما رغيف الخبز المبتاع لتوه من الفرن، لاتملك له إلا (قروضا)…
ودوننا أشعار رابطة المهجر من شعراء لبنان المجيدين فقد نظموا أفضل ماعندهم خلال مهاجرهم تلك!…
والأمر عندنا يزداد وهجه وبريقه اذ يستصحب الشعراء فينا حال أهل هم في الناس كما الربيع من الزمان، وكما الأحجار الكريمة من بين صخور الأرض!…
أهلي الحنان بالحيل ديل منبع الطيبة
لي شوفتم مشتاق طولت أهاتيبا
وكم صدق المثل إذ يقول: (الماء من نبعه والمليحة لأمها)…
وأي نبع؟ وأي أم ياأحباب؟!.
لعمري انه نبع زلااااال الماء وأمٌّ كم غنى لها شعراء المكان حتى حفظ الآخرون كلماتنا وسياقاتنا، فاذا بك تجد الأطفال في كل فجاج السودان يغنون وهم (يميلون)، شايلي الحليلي علي المراح، وجبتي اللبن بي انشراح!…
أناس:
ترتا للمسكين تديهو من جيبا
واناس:
للجايع المحتاج تقسم قواسيبا!…
ولولا ذاك لما ترك الحسانية والهواوير كل فجاج السودان ويمموا الى تلك الديار عشما في (قواسيب) التمور والفول والقمح والمريق حين حصاد!…
ياااااه
ما أجمل مشاهد حش التمر ونوريق القمح والفول و(فرض) البراسيم هناك…
وتترى المشاهد في خيال شاعرنا فيأتي العيد فاذا بماكينات الخياتة لها كركبة وأزيز بين يدي الترزية وهم يقابلون العيد وأمامهم اكداس اقمشة الدمورية والدبلان والبوبلين والساكوبيس توغل فيها المقصات لتحيلها عراريقا وسراويلا وجلاليب، منها ماهو بكرشلين وبعضها ذات رقبة وجيوب بقيطان او دون ذلك.
ثم هناك كبارنا من الختمية ممن يحرص على جعل جلابيته ذات لياقة، تكاد تراها في غمار جلبة النوبة براياتها وكشكوشها تلوح لك في سماوات الخيال الجميل…
ثم يأتي العيد والناس قد:
جدعت طواقيها ولبست مراكيبا
مرقت علي الجيران معطونة بي طيبة!…
بالله عليكم تمطقوا عبارة معطونة بي طيبة دي؟!!!
انه الاشباع عندما تصل الحميمية حد الإرتواء بل الثمالة!…
فالطيبة قد تبدو على المحيا والجبين، لكن أن يصل الناس الى حد (العطن) بها فذاك لعمري مناط دونه خرت قتاد القيم والمعاني والمباني في الناس!…
وتترى مشاهد العيد الجميلة…
اتعانقت فرحة شبانا بي شيبة
مااااأجمل المشهد في السوح انتقالا الى البيوت والكل يردد العفو والعافية!
ياااااه
ثم يستبد الشوق بشاعرنا الجميل معربدا في دواخله عن الحلة بكل تفاصيلها، حتى طين اللقدابات وظلال الحوائط عند العصاري عندما تجر الامهات العناقريب ليتمددن من بعد عناء نهار طويل، نكرانا للذات في سبيل اسعاد الاخرين…
واذا بصور الأشياء التي تزين المكان تنبري في خاطره:
قاطوع معشش فيهو الطير
وفي كيمو قسيبا
اربل قديم مهكور مدفونلو في حيبا
وإذا بآفاق الخيال تتجمل بصورة العازة وهي تستظل براكوبتها والسعن مشدود على جانبها،
فكم ابدع شاعرنا وهو يصف ماء السعن بداخله وصف بماء نقاع الزير من حيث صفائه ونقائه بينما الماء داخله يميل الى دُكنة كماء الحمريب!
وهنا يحضرني وصف ربنا جل في علاه للّبن في الآية الكريمة (وانّ لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين)
سبحان الله
فالسعن هو اهاب الماعز، واللبن رفد منها قد تشاركا الوصف بالصفاء والنقاء وان شاب النبع والمصدر ماشابهما!
فلا يلبث شاعرنا الا (مكركعا) من ذاك السعن باااارد الماء وزلاله فقمن به ان يفك الريق للضاربا وِتّيبا…
ثم ينتقل شاعرنا بخياله الى (بلد بي تحت) حيث البوغة والناس على قدم وساق يزرعون والجدول ملان مسروف ماخدلو سرسيبا…
ياااااالهذا الوصف البديع ياأحباب!!!
انه المكان حيث ألق الطبيعة التي صنعت الشعراء والله!
ولعمري لايتكرف جمال هذا الوصف الا من بَوَّغَ وسهر الليل في بلد بي تحت قراع وكلما حانت منه التفاتة الى الجدول يجده مسروفا ماخدلو سرسيبا الا وترتسم على شفتيه ابتسامة بأنه لامحالة منجزٌ قراعته بسرعة، أما اذ انتصف الجدول او سرسب ماؤه في القاع، فذاك لعمري منغصة ومنقصة، اذ سيعلم يقينا بان ليله سيطول وقد لايتمكن من اتمام سقيه الى أن تصيح الديكة في البيوت وتحمل اصواتها إليه أنسام الفجر…
ولاتكتمل الصورة الا بمشهد الصبية وهم يرعون قطعان اغنامهم وفي اياديهم اسواط الكاجنيب وهم في طريق العودة الى البيوت…
يالها من اشواق قد صهرتها نار الغربة فسالت كماء الذهب تمهر الصحائف بقصيدة بديعة حري بها ان تجد من التثمين السمين…
ويزيد الق القصيدة مبدع قد حباه الله مزمارا من مزامير داؤد، إنه إبن نوري الخضراء أرضا واناسي كثر (معتصم ابراهيم) ألا ليته تنفض عن نفسه اغبرة السكون ليجمل حيوات الناس ويرسم البسمة على شفاههم ويجلب السكينة الى قلوب قد انكتها ضغوطات الغربة وتكالبت عليها هموم الدنيا بصوته (المتهدج) بالاشواق، والريان بحميمية الأهل والامكنة والأزمنة.
اليكم القصيدة:
كلمات عبد الله التاج.
ألحان وأداء معـتـصـم إبـراهـيـم.

يا الله أنت براك الحاله داريبا
من أهلي من خلاي طالت بنا الغيبة
أهلي الحنان بالحيل ديل منبع الطيبة
لي شوفتم مشتاق طولت أهاتيبا
ناس ترتي للمسكين تديهو من جيبا
وللجائع المحتاج تقسم قواسيبا
الناس غشاها العيد تفصل جلاليبا
جدعت طواقيها لبست مراكيبا
مرقت على الجيران معطونه بي طيبة
أتعانقت فرحة شبانا بي شيبا
أنا شوقي للحلة طينة لقاديبا لمتين محل الأم جرت عنيقريبا
قاطوع معشش طير في كيمو قسيبا
أربل قديم مهكور مدفونلو في حيبا
وأنا شوقي للعازة وجلسة رواكيبا
سعناً ملا النقاع لو مويتو حمريبا
أتواتا أكركع زين وآخدلي قنيبا مويتاً تفك الريق للضاربا وتيبا
أنا شوقي للبوغه وشتيت تواريبا جدول ملان مسروف ماخدلو سرسيبا
شفع صغار يرعوا تظهر كواجنيبا سايقين قطيع أغنام صادين بها الغيبا
يا الله إنت براك الحاله داريبا
من أهلي من خلاي طالت بنا الغيبه

عادل عسوم

adilassoom@gmail.com

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

لماذا أمر الله المسلمين بأن يتخذوا مقام إبراهيم مصلى؟ هذا الجواب

شاءت حكمة الله تعالى أن يكون في الدين بعض العبادات أفضل من بعض، وفي الإسلام عدد من العبادات هي أعظم شعائره على الإطلاق بها قوامه وعليها مداره، وهذه العبادات ما تسمى "أركان الإسلام"، وهي 5 تنوعت صور أدائها، فمنها ما يؤدى كل يوم 5 مرات وهي الصلاة، ومنها ما يؤدى كل سنة، مثل صيام رمضان وبعض أنواع الزكاة، ومنها ما يؤدى مرة واحدة في العمر وهو شعيرة الحج.

والحج فريضة من أقدس فرائض الإسلام وشعيرة عظيمة من شعائره الكبرى، وعبادة متميزة من عباداته الأربع، وركن أساس من أركانه الخمسة، وقد دل على فرضيته القرآن الكريم، والسنة المستفيضة المتواترة عن رسول الله التي نقلتها الأمة جيلا عن جيل إلى يومنا هذا كما دل عليه الإجماع المتيقن من جميع مذاهب الأمة. (الحج والعمرة، د. يوسف القرضاوي، ص 12).

وهو عبادة متميزة لأنها عبادة بدنية ومالية، فالصلاة والصيام عبادتان بدنيتان والزكاة عبادة مالية، والحج عبادة تجمع بين البدنية والمالية، لأن الإنسان يبذل فيها جهدا ببدنه، ويبذل فيها ماله. (الحج والعمرة، د. يوسف القرضاوي، ص 12).

وفي كل مظهر من مظاهر الحج وفي كل مجال من مجالاته تتجلى فيه العبودية لله ويظهر أثرها بارزا ملحوظا، ففي أداء الشعائر والتلبس بالطاعات من تجرد عن الثياب وحسر عن الرؤوس وفي الطواف بالبيت واستلام أركانه وفي موقف عرفات ومزدلفة ومنى في ذل وخضوع وتضرع وخشوع، وفي رمي الجمار والذبح أو النحر وما إليه في جميع ذلك مظهر العبودية لرب العباد وبارئهم، وإفراد له بالعبادة وحده دون سواه.

تلك العبودية هي سر علة الوجود وهدفه الأسمى، قال تعالى "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْـمَتِينُ" (سورة الذاريات: الآيات 56 ـ 58) (الإيضاح في مناسك الحج والعمرة، ص30).

صفة حج رسول الله صلى الله عليه وسلم

عـزم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الحج، وأعلم الناس أنه حاج، فتجهزوا ـ وذلـك في شهر ذي القعدة سنة عشر ـ للخروج معه، وسمع بذلك من حول المدينة، فقدموا يريدون الحج مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون، فكانوا من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله مد البصر، وخرج من المدينة نهارا بعد الظهر لخمس بقين من ذي القعدة يوم السبت، بعد أن صلى الظهر بها أربعا(1).

وخطبهم قبل ذلك خطبة علمهم فيها الإحرام، وواجباته، وسننه، ثم سار وهو يلبي، ويقول: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة لك، والملك، لا شريك لك" والناس معه يزيدون، وينقصون، وهو يقرهم، ولا ينكر عليهم، ولزم تلبيته، ثم مضى حتى نزل بـ(العرج) ثم سار حتى أتى (الأبواء) فوادي (عسفان) في (سرف) ثم نهض إلى أن نزل بـ(ذي طوى)، فبات بها ليلة الأحد، لأربع خلون من ذي الحجة، وصلى بها الصبح، ثم اغتسل من يومه، ونهض إلى مكة فدخلها نهارا من أعلاها، ثم سار، حتى دخل المسجد، وذلك ضحى (2)، فاستلم الركن ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرمل ثلاثا (3)، ومشى أربعا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم (4) عليه السلام. فقرأ: "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" (سورة البقرة: الآية 125).

فجعل المقام بينه وبين البيت، وكان يقرأ في الركعتين: ثم رجع إلى الركن (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) * (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا؛ قرأ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (سورة البقرة: الآية 158).

وبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، فرقي عليه، حتى إذا رأى البيت؛ استقبل القِبلة، فوحّد الله، وكبّره، وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذه 3 مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت(5) قدماه في بطن الوادي؛ سعى، حتى إذا صعدتا(6)؛ مشى، أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة قال "لو أني استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي؛ فليحل، وليجعلها عمرة".

فقام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: "دخلت العمرة في الحج" مرتين، "لا بل لأبد أبد"(7).

وأقام بمكة 4 أيام: يوم الأحد، والإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، فلما كان يوم الخميس ضحى؛ توجه بمن معه من المسلمين إلى منى، ونزل بها، وصلى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ومكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة(8)، فسار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام(9)، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز(10) رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس؛ أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي(11).

وخطب الناسَ، وقال: "إن دماءكم، وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد، فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكن عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه(12)، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح(13)، ولهن عليكم رزقهن، وكسوتهن بالمعروف؛ وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت، وأديت، ونصحت، فقال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء، وينكتها(14) إلى الناس: اللهم اشهد! اللهم اشهد!، ثلاث مرات"(15).

ثم أذن، ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام، فصلى العصر، ولم يصلِّ بينهما شيئا، ثم ركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم ـ حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات(16) وجعل حبل المشاة بين يديه(17)، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص(18).

وهناك أنزلت عليه: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا" (سورة المائدة: من الآية 3)، فلما غربت الشمس؛ أفاض من عرفة، وأردف أسامة بن زيد خلفه، ودفع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، وهو يقول: أيها الناس! عليكم السكينة(19).

وكان يلبي في مسيره ذلك، لا يقطع التلبية حتى أتى المزدلفة، وأمر المؤذن بالأذان فأذن، ثم أقام، فصلى المغرب قبل حط الرحال، وتبريك الجمال، فلما حطوا رحالهم؛ أمر، فأقيمت الصلاة، ثم صلى العشاء، ثم نام، حتى أصبح، فلما طلع الفجر صلاها في أول الوقت، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، وأخذ في الدعاء والتضرع، والتكبير، والتهليل، والذكر، حتى أسفر جدا(20)، وذلك قبل طلوع الشمس.

جاء عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما رجع من غزوة تبوك، فدنا من المدينة، فقال: إن بالمدينة أقواما، ‌ما ‌سرتم ‌مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر.ثم سار من مزدلفة، مردفا للفضل بن عباس، وهو يلبي في مسيره، وأمر ابن عباس أن يلتقط له حصى الجمار 7 حصيات، فلما أتى بطن مُحَسِّر(21)؛ حرك ناقته، وأسرع السير(22)، فإن هنالك أصاب أصحاب الفيل العذاب، حتى أتى منى، فأتى جمرة العقبة، فرماها راكبا بعد طلوع الشمس، وقطع التلبية(23).

ثم رجع إلى منى، فخطب الناس خطبة بليغة، أعلمهم فيها بحرمة يوم النحر، وتحريمه، وفضله عند الله، وحرمة مكة على جميع البلاد، وأمر بالسمع، والطاعة لمن قادهم بكتاب الله، وأمر الناس بأخذ مناسكهم عنه، وأمر الناس ألا يرجعوا بعده كفارا، يضرب بعضهم رقاب بعض، وأمر بالتبليغ عنه(24).

ثم انصرف إلى المنحر بمنى، فنحر 63 بدنة بيده، وكان عدد هذا الذي نحره عدد سنين عمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم أمسك وأمر عليا أن ينحر ما بقي من المئة، فلـما أكمل ـ صلى الله عليه وسلم ـ نحره استدعى الحلاق، فحلق رأسه، وقسم شعره بين من يليه، ثم أفاض إلى مكة راكبا، وطاف طواف الإفاضة(25)، فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: "انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم؛ لنزعت معكم"، فناولوه دلوا، فشرب منه(26).

ثم رجع إلى منى من يومه ذلك، فبات بها، فلـما أصبح؛ انتظر زوال الشمس، فلما زالت مشى من رحله إلى الجمار، فبدأ بالجمرة الأولى، ثم الوسطى، ثم الجمرة الثالثة ـ وهي جمرة العقبة ـ وخطب الناس بمنى خطبتين: خطبة يوم النحر، وخطبة ثانية في ثاني يوم النحر(27)، وهو يوم النفر الأول، وهي تأكيد لبعض ما جاء في خطبتي عرفة، ويوم النحر بمنى.

هذا، وقد تأخر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة، ثم نهض إلى مكة، فطاف للوداع ليلا سحرا، وأمر الناس بالرحيل، وتوجه إلى المدينة(28).

هذه حجة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتفاصيلها تجلي لنا الصورة كأننا نراه صلى الله عليه وسلم، وأكمل الخير أن يتابع الحاج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل أفعاله وأقواله وأحواله، حتى ينال الفضل العظيم والخير الكثير، إلا إذا منع ذلك بعض الموانع التي تحصل في عصرنا هذا نتيجة أسباب قاهرة مثل الزحام الشديد وغيره.. مما يمنع المسلم من الإتيان بكل ما ورد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجه.

ولكن لا شك أن للحاج الذي نوى متابعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل أفعاله ثم لم يستطع لبعض الظروف أجر نيته في الخير كاملة إن شاء الله تعالى، كما جاء عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما رجع من غزوة تبوك، فدنا من المدينة، فقال: إن بالمدينة أقواما، ‌ما ‌سرتم ‌مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر. (صحيح البخاري، 06/08)؛ فكان لهم الأجر بسبب نيتهم مع أنهم لم يخرجوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفره وغزوه.

مراجع

ـ (1)  انظر: صحيح السيرة النبوية ، ص 664 ، والسيرة النبوية، للندوي، ص 386.
ـ  (2) انظر: السيرة النبوية، للندوي، ص 387.
ـ (3)  الرمل: إسراع المشي مع تقارب الخطى.
ـ (4)  نفذ إلى مقام إبراهيم: أي: بلغه ماضيا في زحام.
ـ (5)  انصبت قدماه: انحدرت.
ـ (6)  صعدتا: ارتفعت قدماه عن بطن الوادي.
ـ (7)  صحيح السيرة النبوية، ص 659.
ـ (8)  نمرة: موضع بجنب عرفات، وليست من عرفات.
ـ (9)  المشعر الحرام: جبل بمزدلفة كانت قريش تقف عليه، ولا تقف مع العرب في عرفات، ولكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقف في عرفات.
ـ (10)  فأجاز: جاوز المزدلفة ولم يقف بها، وإنما توجه إلى عرفات.
ـ (11)  بطن الوادي: وادي عرنة، وليست عرنة من أرض عرفات عند العلماء، إلا مالكا قال: من عرفات.
ـ (12)  أي: لا يجوز للمرأة أن تدخل أحدا إلى بيت زوجها من قريب، أو بعيد، أو امرأة إلا من يرضى عنهم زوجها.
ـ (13)  الضرب المبرح: الشديد الشاق.
ـ (14)  ينكتها: يقلبها، ويرددها إلى الناس مشيرا إليهم.
ـ (15)  انظر: صحيح السيرة النبوية، ص 661.
ـ (16)  الصخرات: صخرات في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات.
ـ (17)  حبل المشاة: مجتمعهم، وقيل: جبل المشاة: ومعناه طريقهم حيث تسلك الرجالة.
ـ (18)  حتى غاب قرص الشمس: حتى غابت الشمس، وذهبت الصفرة.
ـ (19)  انظر: صحيح السيرة النبوية، ص 662.
ـ (20)  الضمير في (أسفر) يعود على الفجر المذكور، وقوله: (جدا) بكسر الجيم؛ أي: إسفارا بليغا.
ـ (21)  سمي بذلك لأن قيل: أصحاب الفيل حسر فيه.
ـ (22)  انظر صحيح السيرة النبوية، ص 662، والسيرة النبوية، للندوي، ص 389.
ـ (23)  انظر: صحيح السيرة النبوية، للندوي، ص 389.
ـ (24)  المصدر السابق نفسه، ص 390.
ـ (25)  انظر: السيرة النبوية، للندوي، ص 390.
ـ (26)  صحيح السيرة النبوية، ص 663.
ـ (27)  انظر: السيرة النبوية، ص 390.
ـ (28)  انظر: السيرة النبوية، للندوي، ص 390.

مقالات مشابهة

  • سبب عدم صيام الحجاج يوم عرفة.. عالم أزهري يوضح (فيديو)
  • نص الدرس الرابع لقائد الثورة من حكم أمير المؤمنين علي عليه السلام
  • لماذا أمر الله المسلمين بأن يتخذوا مقام إبراهيم مصلى؟ هذا الجواب
  • عيد الأضحى في تونس..عادات وتقاليد
  • أسرار البحتري
  • الأوقاف تعلن انطلاق الأسبوع الثقافي في 11 محافظة
  • هل تجوز صلاة العيد خلف التليفزيون؟.. عضو الفتوى الإلكترونية ترد
  • الشاعر عبدالعظيم أكول لـ«التغيير»: “الفنان” يجد تقييما أكثر من كاتب القصيدة
  • يوم الغدير.. عندما تتحول الاساطير والبدع الى حقائق دامغة/3 ـ 3
  • عادل عسوم: هويتي كسوداني