الجزيرة:
2024-06-12@01:10:04 GMT

الفنان السوداني أبو عركي البخيت فنار في زمن الحرب

تاريخ النشر: 28th, April 2024 GMT

الفنان السوداني أبو عركي البخيت فنار في زمن الحرب

في ظل حرب السودان الحالية يتسابق جنود الجيش القومي وجنود الدعم السريع إلى التقاط الصور الفوتغرافية مع عملاق الغناء السوداني أبو عركي البخيت، الذي لم يغادر داره منذ بدء الحرب، معلنا رفضه لها وإصراره على رفض النزوح، وهو الفنان الذي كرس حياته للوقوف إلى جانب شعبه.

منذ بدء الحرب وحتى الآن، أصبح منزل الفنان أبو عركي البخيت بيانا عسكريا قصيرا، يوضح سير العمليات العسكرية بين الطرفين في ظل الكر والفر الذي يحدث بينهما.

من يسيطر منهما على المدينة، يزور جنوده منزل البخيت بحي العرضة بأم درمان، ليلتقطوا معه الصور الفوتغرافية، ويرسلوها في وسائط التواصل الاجتماعي، لتأكيد سيطرتهم العسكرية على المدينة، فمن تصور في منزل أبو عركي فهو منتصر ومسيطر على المدينة.

أيضا في مايو/أيار 2020، وحين اجتاحت جائحة الكورونا (كوفيد-19) العالم والسودان، كان نصيب مطربنا الأشهر أبو عركي البخيت وأسرته أول الإصابات. ساعتها قامت لجان مقاومة حي العرضة الذي يتوسط مدينة أمدرمان، بتطويق منزل الفنان أبو عركي البخيت الذي يسكن الحي، وهم يحملون الورود ويرددون أغانيه، ملوحين له في مشهد تضامن أسطوري، جعل البخيت يظهر لهم من على سطح منزله مبادلهم التحية ملوحا بيديه لهم وهو يرتدي الكمامة الواقية.

ولد المطرب والمؤلف الموسيقي أبو عركي البخيت الطيب فضل المولى بحي الدباغة في مدينة ود مدني بولاية الجزيرة بوسط السودان عام 1947، نشأ وترعرع البخيت في المدينة التي أنجبت العديد من موسيقيي السودان على رأسهم عبقري الأغنية السودانية الحديثة إبراهيم الكاشف، الذي عاصر زمنين فنيين، وكان رائد إدخال الآلات الموسيقية الحديثة في الأغنية السودانية، وتشرب عبقريات مدرسته الموسيقية.

تقع مدينة ود مدني في وسط السودان وسط ذلك المناخ الفني والثقافي، في مطلع الستينيات قرر البخيت وهو لا يزال في سن مبكرة، الانتقال إلى حاضرة السودان أم درمان حيث تتوفر الفرص للغناء والظهور في الإذاعة والتلفزيون، وتدشين مسيرته الاحترافية في عالم الموسيقى والغناء.

التحق البخيت بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح عند تأسيسه في عام 1968 لدراسة علم الصوت والآلات، وفي صالات الدراسة التقى شريكته في مشوار الحياة، الدكتورة عفاف الصادق حمد النيل، وكونا معا ثنائي المغني والملحن والشاعرة، والذي أثرى المكتبة الغنائية بالعديد من الأعمال العظيمة.

عملاق التجديد

تتميز أغنيات أبو عركي الأولي في بداياته بالألحان ذات الإيقاع الراقص على شاكلة "حلوة عيونك روعة" و"دبلة الحب والخطوبة"، "نور النوّار" و"مرسال الشوق" و"حكاية عن حبيبتي"، ليلمع نجمه بعدها عربيا وإقليميا مع أغنيته "بخاف" والتي كفلت له الفوز بالمركز الأول في مهرجان دمشق للأغنية العربية في عام 1976 وهو لم يتجاوز بعد الـ30 من العمر، لينهمر شلال الأغنيات بعدها ليصل إلى أكثر من 60 أغنية بمكتبات الإذاعة والتلفزيون السودانية ومسارح العالم.

يصفه صديق عمره وزميل مشواره الفني الموسيقار السوداني يوسف الموصلي "أبو عركي البخيت هو أحد عمالقة التجديد في الموسيقى السودانية. هو نموذج للعصامية والرغبة في التطور ومجاراة العصر. كان أبو عركي يتقدمني بدفعة دراسية إبان دراستنا في معهد الموسيقى والدراما، ودفعته كان بها الفنان الراحل خليل إسماعيل والتاج مكي وعمر الخزين وغيرهم من أساطير النغم السوداني. تعاوننا في معظم الأعمال التي وزعها الأساتذة الكوريون بمعهد الموسيقى كأعضاء في الكورال، وسافرنا في رحلة فنية إلى آسيا وأوروبا الشرقية. وتشرفت بتوزيع أغنيته "واحشني" التي طرحت في ألبوم بنفس الاسم لشركة حصاد السودانية للإنتاج الفني".

ويواصل الموسيقار الموصلي حديثه للجزيرة نت "أبو عركي فنان وإنسان ذو خلق قويم والتزام وحب وعشق خرافي للسودان، ومواقف عركي الفكرية تقوم على الانحياز للإنسانية والحرية. إما سياسيا فعركي يساري الميول والهوى -في نظري- ولكن بصورة استقلالية لا يسمح بتدخل أحد فيها. عانى في هذه الحرب كمواطن سوداني وانكوى بنارها، إلا أن إيمانه بالسلام لم يتزعزع وإدانته للتسلط ظلت في ثباتها طوال الفترات الدكتاتورية التي ألمت بالسودان كداء عضال".

"أبو عركي البخيت فنان ملتزم بقضايا شعبه المحب للحرية والديمقراطية والسلام"، هكذا يقول صديقه المقرب التشكيلي والمصور الفوتغرافي المعروف عصام عبد الحفيظ.

يقول عبد الحفيظ "سيرة عركي هي سيرة صمود، عرفته وأنا على أعتاب التخرج من كلية الفنون في بداية ثمانينيات القرن الماضي، وقتها كنا نملك كل أحلام وآمال التغيير في حياتنا، ساقتنا الديكتاتوريات المتعاقبة التي حكمت السودان إلى هذا الدرك السحيق بعد الانقلابات المتعاقبة التي امتدت إلى 4 عقود ويزيد".

يستطرد الأستاذ عصام عبد الحفيظ "ظل أبو عركي شامخا وصامدا ومواسيا وصديقا للكل، حين امتدت سياط القهر إلى مساحات الإبداع من مسرح وغناء وتشكيل، فاتخذ أبو عركي وقتها موقفا صارما متمثلا في قرار مقاطعة الأجهزة الحكومية والمؤسسات التي تتبع لها".

وتابع "قاطع البخيت الإذاعة والتلفزيون الرسميين السودانيين لقرابة الثلاثة عقود. لكنه استمر في الغناء دعما للمجتمع المدني، فكتب أحلام الشعب شعرا، وغناها لتكون شاهدا على انتمائه لهذا الشعب الصابر، وظل كالطود الشامخ داخل البلاد إلى أن أتت الحرب وشردتنا، ونزحنا جميعنا إلى مختلف البقاع، لكن بقي صديقي أبو عركي مكلوما حزينا في بيته بأم درمان، رغم الأهوال والصعوبات رمزا للصمود رافعا شعار السودان ورافضا الخروج من أم درمان".

حتى عام 2015، ظل أبو عركي البخيت رغم عسف السلطة وقتها ضده ومحاربتها لحفلاته، يغني لجماهيره بنوادي الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري بمبلغ زهيد لا يتجاوز الـ50 جنيها. وحين تم إيقاف حفلاته من قبل السلطة آنذاك، تضامن معه الشعب السوداني إجلالا لموقفه المنحاز لقضاياهم.

شاركته كل ذلك الهم والنضال رفيقة دربه الدكتورة عفاف الصادق حمد النيل، والتي تركت البلاد مرغمة لإعالة أسرتها بعد أن نضب معين شريكها بعد إيقاف حفلاته، فاغتربت كأستاذة جامعية في كلية البنات التابعة لجامعة جازان بالمملكة العربية السعودية، وصعدت روحها إلى بارئها فيها في يناير/كانون الثاني 2018 في مستشفى صبيا بمنطقة جازان السعودية.

كانت الدكتورة عفاف شاعرة مجيدة كتبت لأبو عركي العديد من القصائد التي تحولت إلى أغنيات جميلة تحكي حبهما وأحلامهما للوطن، كتبت له وهي تودعه:

يوم تقول داير تسافر

بستف الحب بين ملابسك

شان يلامسك

وكل هدما ترتديهو

تلاقي فيهو قليبي حارسك

وكتب لها أبو عركي حين سافرت:

يوم رحيلك من البلاد

دارك مرصعة بالسواد

غيَّم حزن كل اليتامى

واتنشر بين العباد

وفارقت الناس السلامة

سافرت عفاف، ورحلت هناك بعيدا عنه، فكتب لها وغنى العديد من الأغنيات، كان آخرها أغنية "المُفردة" والتي غناها الأسبوع المنصرم في الذكرى السادسة لرحيلها، يحكي لها فيها حال السودان بعدها، ويكرر عهده لها بالتمسك بمبادئهم التي وثقوها معا حتى الآن، ويحدثها حديث العاشق عن أولادها، وكيف أنهم جميعا يذكرونها دائما، ويدعون لها بالرحمة والقبول.

شارك أبو عركي البخيت خارج السودان في مهرجانات العديد من العواصم العربية والأوربية والأميركية، كان أشهرها مشاركته في ختام مهرجان "ربيع سوق واقف" بالعاصمة القطرية الدوحة 2014. أيضا شارك في حفل تخريج ابنه البكر محمد المجتبي من أشهر الجامعات الموسيقية في العالم جامعة بيركلي للموسيقي بوسطن Berklee College of Music.

كانت تلك سيرة فنان أصبحت بوصلته الأخلاقية مثلا يحتذى، وأصبحت داره فنارا يقود سفن طرفي الحرب إلى ساحل المواطنين ليخبرهم بأن سفينتهم ناجية، فللبحار دليلها والفنار دليل السفن، ودار أبو عركي البخيت فنار هذه الحرب اللعينة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات العدید من

إقرأ أيضاً:

الوطنية العابرة للحدود من الأسفل بعد الحرب العالمية الأولى: ثورة 1924م في السودان الإنجليزي-المصري (1 /2)

الوطنية العابرة للحدود من الأسفل بعد الحرب العالمية الأولى: ثورة 1924م في السودان الإنجليزي-المصري (1 /2)
Transnationalism from Below after the First World War: The Case of the 1924 Revolution in Anglo-Egyptian Sudan
Elena Vezzadini إلينا فيزاديني
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
نشر المركز الفرنسي للدراسات الإثيوبية هذا المقال في موقع Open Edition Books https://books.openedition.org/cfee/1149، وهذا هو الجزء الأول من ترجمتي لبعض ما جاء فيه.
تعمل مؤلفة المقال أستاذة بمعهد العالم الأفريقي بجامعة السوربون. وقد حصلت عام 2008م على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة بيرجن النرويجية بأطروحة عن حركة 1924م، وأستلت منها عددا من الأوراق من بينها ورقة تُرْجِمَتْ للعربية بعنوان "برقيات وطنية: الكتابات السياسية ومقاومة الاستعمار في السودان بين عامي 1920 – 1924م" (1). ونشرت الكاتبة أيضاً في 2015م كتاباً عن ثورة 1924 عنوانه:
(2). Lost Nationalism: Revolution, Memory and Anti-colonial Resistance in Sudan
المترجم
*********** ********** **********
الملخص
اكتسبت الحركة الوطنية في السودان زَخْمًا قويا عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، أفضى في النهاية إلى انفجار ثورة 1924م. ولما كان البعض يرى أن السبب الرئيس في قيام تلك الانتفاضة هو حالة السودان المتفردة كبلدٍ وُضِعَ تحت إدارة حكم ثنائي (إنجليزي – مصري)، والصراع السياسي بين بريطانيا ومصر، يسعى هذا المقال لإعادة تفسير العوامل العالمية التي أفضت إلى قيام الثورة، أولاً عن طريق ربطها بانتشار الأفكار وتقنيات الاحتجاج العابرة للحدود التي تجاوزت مصر وبريطانيا، وثانياً بتحليل تلك الثورة على ضوء اللحظة العالمية المميزة التي حدثت في العديد من مواقع العالم الكلولونيالي إبان سنوات الحرب العالمية الثانية وما بعدها. وبالإضافة إلى ذلك، وعلى عكس ميل التاريخ العالمي إلى التركيز في الغالب على النخب العابرة للحدود الوطنية، فإن حالة السودان كانت لديها لها ميزة إظهار تأثير الانتشار الدولي على الثقافات السياسية المحلية "من الأسفل". وسنقوم هنا باستكشاف العديد من جوانب "الوطنية العابرة للحدود من الأسفل"، التي كان منها دور الصحافة والأخبار العالمية في تغذية ثورة 1924م، وما رد به النشطاء من أجل الوصول إلى قراء ومستمعين في كثير من دول العالم، واقامتهم لجمعيات سرية في السودان، وتلك بنية احتجاجية أخرى عابرة للحدود الوطنية؛ ولكن أيضاً الكيفية التي أحدثت بها حقبة الاحتجاجات الجماهيرية تحولاً في بنية الجمعيات السرية بحيث صارت من أدوات تعبئة الجماهير.
*********** ************* **********

المقدمة
ثورة 1924م في التاريخ (History) وعلم التأريخ (Historiography)
هزت موجة من الاحتجاجات في عام 1924م السودان، أحد أكبر المستعمرات البريطانية في أفريقيا، وأقلها سكاناً (ستة ملايين نسمة آنذاك)، وأضعفها تنمية وعمراناً. وصارت البلاد مسرحاً لسلسلة من المظاهرات والاحتجاجات وحالات التمرد، فيما صار يُعْرَفُ في تأريخ السودان بـ "ثورة 1924م". وكان السودانيون في ثورتهم تلك يطالبون بحق تقرير مصيرهم، وتحريرهم من الحكم البريطاني الكلولونيالي، والاتحاد مع مصر. ولفهم هذه المطالب ينبغي فهم السياقات التي وردت فيها؛ إذ أن السودان كان يُحْكَمُ عبر اتفاق سياسي بين بريطانيا ومصر عام 1899م جعل من السودان مستعمرةً تُدَارُ بصورة ثنائية بينهما. ولم يكن ذلك الوضع يمثل مشكلة كبيرة، إذ أن بريطانيا كان تستعمر مصر نفسها (بشمل غير رسمي). غير أن تلك السيطرة البريطانية كانت تواجه بمعارضة جهيرة الصوت في مصر، ولم تستطع القضاء على المؤسسات السياسية المصرية. وأثر ذلك السياق على طبيعة الهيمنة المصرية في السودان: فبينما كانت السيادة المصرية فيه محدودة، كان لها تأثير رمزي مهم لدى السودانيين من ذوي الوعي السياسي، الذين آمنوا بضرورة الوجود المصري بالسودان للحد من الاستغلال البريطاني لبلادهم. ومع ذلك، كان الوجود المصري في السودان كذلك واقعاً ملموساً للغاية من نواحٍ عديدة، أولها أنه لم يكن للسودان يومها قوات مسلحة خاصة به، وكان يعتمد على الجيش المصري (المكون من كتائب مصرية وسودانية)، كان السودانيون فيه يدينون بالولاء لقائد (سردار) الجيش البريطاني الجنسية، وأيضا للحاكم المصري (الخديوي أو السلطان أو الملك) بحسب الفترة الزمنية المعينة. وثانيا، كانت حكومة السودان حتى عام 1924م تعتمد في الإدارة على عدد كبير من الموظفين المصريين في الخدمة المدينة والجيش (نحو 1,800 من الكتبة المصريين في مقابل 1,500 من الكتبة السودانيين). وثالثا، كانت عائلات التجار المصريين السودانيين هم من المتعاملين الرئيسيين في تجارة الماشية المزدهرة - وذات الأهمية الاجتماعية - بين مصر والسودان. لقد كانت بداية الحرب العالمية الأولى قد أعطت البريطانيين ذريعة لتحويل مصر من مستعمرة غير رسمية إلى محمية رسمية. وخلافاً للوعود التي كانت قد قطعتها عام 1914م، رفضت السلطات البريطانية في نهاية الحرب رفع الحماية، لذا لجأ الملايين من المصريين للتظاهر في الشوارع لعدة أشهر. وتُعْرَفُ هذه الحلقة في التاريخ المصري بـ "ثورة 1919م". وعقب موجات من المظاهرات والإضرابات العامة، والعصيان والاغتيالات السياسية، أُعْلِنَ – من جانب واحد - عن استقلال مصر في عام 1922م، وشمل الإعلان أربع نقاط مؤجلة كانت إحداها هي وضع السودان في المستقبل، الذي تقرر مناقشته في مفاوضات قادمة. وفي يناير من عام 1924م اُنْتُخِبَ سعد زغلول زعيم حزب "الوفد" الذي اشتهر بمعاداته للكولونيالية بأغلبية كبيرة ليرأس الوزارة المصرية. وتقرر بدء المفاوضات بشأن وضع السودان المستقبلي في سبتمبر 1924م. وأقترح زعلول أن يستقل السودان عن بريطانيا، ويتحد مع مصر. وكان هذا هو نفس ما كان يؤمن به المحتجون في السودان عام 1924م. وكانت المظاهرات التي ينظمها السودانيون المناصرون للاتحاد مع مصر (أي أعضاء "جمعية اللواء الأبيض") تجوب الشوارع أسبوعيا في شهري يونيو ويوليو 1924م. ولم يشترك في المظاهرة الأولى سوى بضع مئات من الناس. غير أنه بعد حل "جمعية اللواء الأبيض" في يوليو من ذلك العام، ازدادت أعداد المشاركين في المظاهرات، وبدا أنها صارت تشكل تهديداً (للحكومة). وفي أغسطس 1924م سِيرَتْ مظاهرة في 15 أغسطس شارك فيها ألفان أو ثلاثة آلاف من المحتجين. وقامت مظاهرات أخرى لعل أشهرها مظاهرة طلاب مدرسة الخرطوم الحربية في يوم 8 أغسطس من ذات العام. وكان هذا يشير إلى تمدد السخط والاحتجاج إلى قطاعات بالغة الأهمية في الدولة الكلولونيالية. ولا يزال الغموض يلف بعض الاحتجاجات في تلك الفترة. فقد قامت مظاهرة في بورتسودان قال عنها البعض أنها أفلحت في جعل السلطات الكلولونيالية تفقد السيطرة على زمام الأمور بالمدينة، ولو لفترة قليلة. ووَاجَه الجيش المظاهرات التي اندلعت في أتبرا بعنف مفرط أدى لقتل أربعة من المتظاهرين وجرح 19 منهم. وأدانت جهات كثيرة داخل وخارج السودان تلك الحادثة الدموية، وقادت لمزيد من المظاهرات.
وفي تلك الأيام كان قسم المخابرات يتلقى العديد من التقارير عن النشاطات المعارضة للحكومة الكلولونيالية في مراكز البلاد الحضرية الكبيرة والصغيرة، شملت شندي ووادي حلفا في الشمال، والأبيض وبارا والنهود في الغرب، والدلنج في جبال النوبة، والفاشر في دارفور، وسنار وود مدني في النيل الأزرق، وواو وملكال في جنوب السودان. وظل مستوى قمع السلطات لتلك الاحتجاجات في تصاعد مستمر منذ بداية يوليو 1924م؛ واِكْتَظَّ سجن كوبر سيئ السمعة بالمعتقلين السياسيين، الذين نظموا فيه تمرداً. ومع بداية سبتمبر 1924م بدأت المظاهرات تقل تدريجيا بسبب ما كانت تمارسه السلطات من قمع مفرط، وتناقصت بالتالي أعداد المعتقلين؛ غير أن مستوى التوتر بقي مرتفعاً، وسرت شائعات بأن السخط العام قد بلغ حتى الجيش نفسه.
وفي 19 نوفمبر 1924م اغتال مصريون وطنيون في القاهرة السير لي استاك حاكم عام (وسردار) السودان (3). واعتبرت حكومة السودان والسلطات البريطانية أن مصر مسؤولة أخلاقيا عن ذلك الاغتيال وعن الاضطرابات التي حدثت في السودان، وطالبوا – من باب الانتقام لاغتيال استاك – بخروج القوات المصرية من السودان، وبحل الكتائب السودانية، و"تطهير بعض عناصرها" وإعادة تنظيمها لاحقاً في قوة جديدة. وعندما تجمعت القوات المصرية في يوم 27 نوفمبر 1924م بالخرطوم استعداد للعودة لبلادها، تمرد ستة ضباط ونحو 200 من الجنود السودانيين (أغلبهم من الكتيبة الحادية عشر). وبعد مواجهات عنيفة استمرت ليومين أُنْهِيَ التمرد بصعوبة بالغة. وأُعْدِمَ في يوم 5 ديسمبر ثلاثة من الضباط المشاركين في ذلك التمرد. وكان هذا الحدث، الذي أشاع شعوراً عاماً بالقَلقَلَة والصدمة والاضطراب، بمثابة نهاية ثورة 1924م.
لقد ظل النمط السائد في كتابة تأريخ ثورة 1924م هو القول بأنها قامت نتيجةً علاقة ثلاثية إشكالية بين السودان ومصر وبريطانيا؛ ولم تكن تلك هي علاقة بين دول متساوية. وكان السودان يُصَوَّرُ على أنه "أرض معركة" بين دولتين متنافستين. وبذا فإن ما وقع في 1924م لا يمكن أن يُعَدُّ ثورة على الإطلاق، إذ أن ما حدث كان نتاجاً لتلك الصراعات بين بريطانيا ومصر بأكثر مما هو نتيجة لديناميات داخلية حقيقية، بدليل العدد الصغير لعضوية "جمعية اللواء الأبيض".
ومن ناحية أخرى، تتباين مواقف علم التأريخ من المساهمة النوعية المُحدَّدة لمصر وبريطانيا فيما وقع من أحداث في عام 1924م. وتصف بعض الآراء (ومعظمها مؤيدة للمصريين) المصريين بأنهم "صناع القرارات والمستشارين الذين كانوا يعملون خلف الكواليس éminence grise" في شؤون الحركة السودانية: فقد نظموا الأحداث مِنْ عَلٍ، وموّلوا الحركة، وأرسلوا مبعوثين لتوجيه قادتها، وما إلى ذلك. ومن ناحية أخرى، يرى آخرون - من منظور مختلف - أن تلك الأحداث لم يشعلها سوى التقاعس الاستراتيجي البريطاني، أو أنه سُمح للحركة بأن تصل إلى ذروة خطيرة لإيجاد ذريعة وجيهة للقضاء على العنصر المصري في السودان نهائيا. حتى أن البعض كان يعتقد بأن اغتيال ستاك في مصر كان قد حدث في وقت "مناسب بأكثر مما هو معقول too timely" و"مريب للغاية" بحيث لا يمكن اعتباره محض صدفة. ولا شك في أن كل تلك التفسيرات كانت تستند - وإلى حد ما - على أدلة وتفسيرات منطقية، فقد كان بعض الساسة المصريين يجوبون طرق الخرطوم خاصة قبل شهر يونيو 1924م، على الرغم من أن مشاركتهم في تلك الأحداث كان بالتأكيد أقل بكثير مما كان يؤمل فيه ويرغب الوطنيون السودانيون. ولكن من جانب آخر، ليس هناك من دليل على صحة الرأي الذي ذهب إلى أن البريطانيين تعمدوا الانتظار حتى تندلع انتفاضة؛ إلا أنه يصح القول بأن تمرد القوات السودانية واغتيال استاك كانا من الحوادث التي استغلها البريطانيون لصالحهم. فقد أفلحوا في تنحية سعد زغلول (رئيس الوزارة المصرية المعارض لهم دوماُ)، وفي إجلاء المصريين عن السودان (2). غير أن كل وثائق المخابرات البريطانية الداخلية تكشف بوضوح عن أن السلطات البريطانية كانت قد قللت من شأن أحداث 1924م، ولم تْعلَ منها. لقد كانت السلطات البريطانية دائما متخلفة بخطوة عن الناشطين، وكانت غير قادرة على توقع معظم الأحداث التي وقعت، على الرغم من الطاقة الهائلة التي كرستها لاكتشاف ما يجري بالبلاد، كما تشهد على ذلك آلاف التقارير التي كتبتها المخابرات.
غير أن المشكلة الأهم في تصور أن ثورة 1924م قد وقعت نتيجةً ثانوية للسياسة المصرية أو البريطانية هي أنه - حتى لو سلمنا جدلاً- بأن السياسيين المصريين "أثروا" على قادة الحركة، أو أن البريطانيين كانوا ينتظرون سراً أن تتدهور الأمور من أجل أن تُطْلَقُ أياديهم في التعامل مع المصريين، إلا أن حقيقة حدوث عمليات الاحتجاجات الشعبية لا تزال تنتظر التفسير. وخلافاً للفكرة الشائعة التي ذهبت إلى أنه لم يشارك في تلك الحركة سوى أفراد قلائِل، فإن كثير من المصادر قدمت أدلة على مشاركة الآلاف من السودانيين في تلك الاحتجاجات، وأن السلطات البريطانية كانت على علم بما يمارسه نشطاء (يقل عددهم قليلاً عن الألف) يقودون تلك المظاهرات، ويكونون لجاناً سياسية، ويبعثون للسلطات الحاكمة ببرقيات عليها أسمائهم الحقيقية، ويشاركون في اجتماعات وجمعيات سرية تعارض النظام الكلولونيالي، إلى غير ذلك من النشاطات. وفقد بعضهم وظائفهم، وتحطمت الآمال المهنية عند بعضهم الآخر بعد أن نفوا من البلاد أو أدخلوا السجون، تاركين خلفهم زوجاتهم وأطفالهم، وتوفي عدد قليل منهم وهم في السجون.
إن حدثاً مثل الذي وقع في عام 1924م لا بد أن يكون قد نشأ نتيجةً لمجموعة من الظروف والمُلابَسات التي يمكن البحث في شأنها في مواطن متعددة، مثل التغييرات التي حدثت في تركيبة المجتمع السوداني بعد تأثير الكلولونيالية عليه، أو التحولات التي حدثت في أوساط الجيش والعمال، وفي أنماط التجارة. وأسعى في هذا المقال للتركيز على إعادة تقويم تأثير السياق الدولي، ودوره في إشعال ثورة 1924م.
ويقدم هذا المقال عدداً من التغيرات في المنظور. أولها هو الجمع بين مستويين من التحليل: المستوى الكلي (macro- level) للسياسة الدولية، والمستوى الجزئي (micro- level) للتاريخ الاجتماعي الذي يركز، بعبارة أخرى، على عناصر تلك الحركة السياسية التي تكشف عن اعتمادها المتبادل (interdependence) وتضامنها وعيشها التكافلي (symbiosis) مع الإطار الدولي الذي ظهر بعد الحرب العالمية الأولى. وثانيها هو إخراج السودان من العلاقة الثلاثية المذكورة أعلاه، وفتحه على الإطار العالمي الإمبريالي الأكثر اتساعاً. وفي الواقع، ينبغي أن يُنْظَرُ إلى السودان على أنه مُتَدَاخِل ومُتَرَابِط ومتشابك في ومع دوائر عابرة للحدود وأوسع مدى، بحسبانه جزءًا من عالم اهتز عملياً (وفكرياً أيضاً) في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ويهدف هذا المقال لتقديم "حالة" تُوضح فيها "الوطنية العابرة للحدود من الأسفل" من أجل إظهار أن العلاقات الدولية ليست مجالًا يشغله السياسيون بشكل حصري، ولكنها أيضاً شيء له تأثير مرتد على الأشخاص العاديين وعلى حشود الجماهير المتحركة. ومن خلال تبني هذا المنظور، يمكننا التركيز على السودانيين باعتبارهم فاعلين actors، وليسوا مجرد أشخاص يؤثر عليهم الساسة البريطانيون أو المصريون، وكعناصر اختارت أفكاراُ معينة وأيدتها بسبب ما قدمته من تمكين، وفتحوا الطريق نحو أشكال من التحرر السياسي، عوضاً عن بقائهم مجرد "مستقبلات receptors سلبية". وبعبارة أخرى، يمكن القول بأن تلك الحالة السودانية (في عام 1924م) تمتاز بأنها قد أظهرت الأثر الضخم الذي أحدثته الحرب العالمية الأولى على الثقافات السياسية المحلية "من الأسفل".
*******************

إحالات مرجعية
1/ المقال المترجم في هذا الرابط http://www.sudanile.com/66233
2/ نشرت هيذر شاركي استعراضاً لهذا الكتاب تجد في هذا الرابط ترجمة له: https://shorturl.at/dXJim
3/ يمكن النظر في الأحداث المذكورة من وجهة النظر البريطانية في هذا المقال: https://shorturl.at/HmF2X

alibadreldin@hotmail.com  

مقالات مشابهة

  • كشف مصادر دخل السودان ..جبريل إبراهيم يتوقّع انفتاحا روسيا في أربع مجالات
  • وكالات أممية تحذر من الوضع المأساوي الذي يهدد أرواح أطفال السودان
  • الحروب في السودان تؤكد هشاشة التكوين القومي وعجز الحكومات عن الحسم
  • هل الحرب ضد البرهان أم الكيزان؟
  • الوطنية العابرة للحدود من الأسفل بعد الحرب العالمية الأولى: ثورة 1924م في السودان الإنجليزي-المصري (1 /2)
  • أنقذوا شعب السودان!
  • د. الشفيع خضر سعيد يكتب: أنقذوا شعب السودان!
  • تعهد سوداني.. إعادة بعث القاعدة الروسية
  • السودان: عسكرية الحرب ومدنية الحل
  • هل يَعِي (التقدميون) خطورةَ ما يفعلون؟