#تأملات_قرآنية د. #هاشم_غرايبه
يقول تعالى في الآية 30 من سورة فصلت : “إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ”.
هذه من آيات بشارة المؤمنين، التي تُسرّي عنهم ما يلاقونه من عنت في الدنيا جراء تمسكهم بمنهج الله، ومن أذى من أعدائه، فتطمئنهم الى أن لهم حسن الجزاء عند الله.
لقد اهتم المفسرون القدامى بتبيان الشرطين اللازمين لنيله، الأول وهو التوحيد، تحققه تلقائي للمؤمن، فمن عرف الله لا يمكن أن يشرك به شيئا، ويبقى الشرط الثاني وهو الاستقامة، وفسرها أغلبهم أنها تعني الثبات على التوحيد وعدم العودة الى الشرك، كما قالوا ان تنزل الملائكة عليهم يكون يوم البعث.
من التأمل المقارن، أي استنادا الى تفسير آيات أخرى تتناول الموضوع، نجد أن خطابه تعالى لرسوله الكريم ومن خلاله لكل من اتبعه: “فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ” [هود:112]، لا يمكن إن يعني عدم العودة الى الشرك، بل الثبات على المنهج، والمداومة على اتباعه.
كما يؤيد ذلك قوله تعالى في سورة الفاتحة: “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ” أي المنهج الصحيح، وقوله تعالى لموسى وأخيه: “قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ” [يونس:89].
كما يعززه الاقتران بين التقوى والاستقامة، في مجيئهما بالمعنى ذاته، كما في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ” [آل عمران:102]، وقوله تعالى: “اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ” [التغابن:16].
قد يكون سبب ميل قدامى المفسرين الى ان الاستقامة هي الثبات على التوحيد، هو قرب عهد المؤمنين بعبادة الأوثان، والخوف من العودة إليها، إذ لم يكونوا قد ثبت لهم آنذاك أن من اهتدى الى معرفة الخالق فذلك هو من نال علما، والمتعلم لا يعود الى الجهل من جديد.
كما أن تنزل الملائكة على المؤمنين لبشارتهم بما ينتظرهم من الأجر العظيم، فالأصح أنه ليس يوم النشور، بل يكون عند طي الصحف التي تسجل فيها أعمال الإنسان، وذلك يكون عند موت الإنسان، فهنالك لا عودة الى الدنيا لأجل استدراك ما فات المرء أداؤه من عمل صالح أو إيفاء حقوق، بدليل قوله تعالى في وصف حال المقصرين: “حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ” فيجيبه قول رب العزة: “كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ” [المؤمنون:99-100].
إذا فهذه الآية تقطع بأن المؤمن أو الكافر يعلم مقعده من العذاب أو الثواب اعتمادا على مراجعته لنفسه أولا، فكل انسان أعلم بما قدم وما أخر: “بَلِ ٱلۡإِنسَـٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِیرَةࣱ . وَلَوۡ أَلۡقَىٰ مَعَاذِیرَهُ” [القبامة:14-15]، لكن المؤمنين الذين استقاموا على أمر الله وحرصوا الالتزام به، ينزل الله عليهم ملائكة تبشرهم بالبشرى التي ظلوا يحلمون بها في حياتهم، ويعملون على الفوز بها، لطمأنتهم وراحة نفوسهم خلال الفترة ما بين الموت ويوم الحساب، أن لا يقلقوا على مصيرهم في حياتهم الأخرى القادمة، ولا يحزنوا على ما أصابهم من لأواء في حياتهم الدنيا، فمصيرهم الجنة.
ودليل حدوث هذه البشرى لحظة مفارقة الدنيا ” فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ” قوله تعالى “فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ . فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ” [الواقعة:88-89]، وبالمقابلة مع ذلك وصفه حال الكافرين لحظة موتهم: “وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ” [الأنفال:50].
هكذا يتبين لنا أن الإنسان المؤمن مكرم عند ربه، ومقدر له تقواه، فتبشره الملائكة ومنذ لحظة مغادرته الدنيا، بأن له مقعدا كريما الله، وقبل الحساب ونواله.
وهذا يفسر لنا كيف أننا نرى من استشهدوا في سبيل الله من المجاهدين الغزيين، أو قتلوا ظلما وعدوانا من أهل القطاع المدنيين، والضياء يعمر وجوههم، فهؤلاء لا شك قد تلقوا البشرى، وهذا ما عزز صمود أهلهم الذين لم يلحقوا بهم، فلا يجزعوا، ولا يقولون إلا إنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله في المنافقين، فقريبا ستضربهم الملائكة على وجوههم وأدبارهم، وبئس المصير.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: تأملات قرآنية قوله تعالى
إقرأ أيضاً:
علي جمعة: اتباع تصرفات رسول الله ﷺ تحقق حب جلا جلاله لعبده
رسول الله ﷺ.. قال الدكتور علي جمعة مفتى الجمهورية السابق، وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، عبر صفحته الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، إن أراد المسلم أن يكون محبوبًا لله تعالى، وأن يظهر صدق حبه له، فعليه أن يتبع سيدنا رسول الله ﷺ، كما قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا }، وقال: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }، وقال: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ }.
سيدنا رسول الله ﷺ:وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ }، ووضع هنا مقياسًا ومعيارًا للحب؛ فالحب قد يكون دعوى مجرَّدة عن دليل، ولابد من كل قضيةٍ أن يكون لها دليل حتى تكون صادقةَ البرهان. فعندما تقول: "إني أحب الله"؛ هذه قضية، تُخبر فيها عن نفسك بحب الله. فلابد أن يُرى هذا الحب في سلوكك، لأن الحب الصادق دليله الاتباع.
فالحب هذا، ما شكله؟ ميلٌ في القلب، وعطفٌ في القلب، وهذا الحب، ما مقياسه؟ تحب أن تنظر إليه { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ }، تحب أن تكون في معيته، والله سبحانه وتعالى وضع شروطًا حتى تكون في معيته، ووضحها في القرآن: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ } و{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ }، فقال: { وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ }، فلا تكن مفسدًا وتقول إنك تحب ربنا.
رسول الله ﷺ
وقال: { وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }، فيجب أن تكون محسنًا، وقال: { إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }، فيجب أن تتوكل على الله.
، وقال: { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }، فلا تكن مسرفًا.
تتبع رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم
هكذا أرشدنا الله تعالى في كتابه إلى أن قربك من الله بقدر قربك مما يحب، وبعدك عنه بقدر ما تفعل مما لا يحب.
ومفتاح هذا كله قوله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ }.
رسول الله ﷺ
وأكد جمعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو النبيُّ الوحيد، بل الإنسانُ الوحيد في تاريخ البشرية، الذي حُفظت سيرتُه وأقوالُه وأفعالُه ومواقفه في اليقظة والمنام بهذه الدقّة والإحاطة، فلم تُحفَظ سيرةُ أحدٍ على وجه الأرض كما حُفظت سيرتُه ﷺ، إذ اعتنى المسلمون بنقل كل ما يتصل به، حتى دقائق شؤونه، وأنشؤوا العلومَ لخدمة ذلك المقصد الجليل.