السودان ومعضلة الاستقطاب السياسي

د. أماني الطويل

تبدو التفاعلات العسكرية السودانية وكأنها تسير نحو محرقة كاملة للمدنيين، بينما يتعطل تماماً المسار السياسي التفاوضي تحت وطأة خطابات الانتقام والثأر على جميع الصعد العسكرية منها والسياسية، وربما تمتد لتشمل كذلك الأهلية.

وفي هذا المشهد لا يبدو الجيش السوداني قادراً حتى اللحظة على حسم الصراع العسكري على اتساع الجغرافيا السودانية، على رغم كل محاولاته إيجاد حلفاء له على الصعيد الإقليمي والدولي، يضمنون له تسليحاً وتدريباً يبدو أنهما مطلوبان بإلحاح.

التفاعلات السياسية والاجتماعية السودانية على المستوى الداخلي تعمق حال استقطاب سياسي معقدة ومؤسسة على سببين، الأول محارق المدنيين المتتالية التي نشهدها في سيناريوهات متكررة، وآخرها ما جرى في قريتي ود النور وكرري، إذ تعمد قوات “الدعم السريع” إلى ترويع المدنيين الذين يسقط لها ضحايا بالمئات، وبسبب هذه المحارق يتمترس الجيش على لسان قائده الفريق أول عبدالفتاح البرهان عند المواقف السياسية الأكثر تشدداً، إذ توعد أخيراً بالرد القاسي على ما جرى في ولاية الجزيرة، وقطع الطريق تماماً أمام المشاركة في أية مسارات تفاوضية، بل وقطع الطريق أمام أي تفاعل مع السياسيين وخصوصاً مع تنسيقية “تقدم” التي اعتبرها متواطئة مع قوات “الدعم السريع”.

أما السبب الثاني لمشهد الاستقطاب السياسي في السودان فهو فقدان المدنيين لدورهم وأملاكهم ونزوحهم داخلياً وخارجياً، وتعقد السبل بهم في المنافي المختلفة مما يؤجج خطابات الكراهية التي تغذيها وسائل التواصل الاجتماعي بما تحمله من تهديدات للمدنيين السودانيين من جانب قبائل العرب الرحل في مناطق الساحل الأفريقي الممتدة من غرب السودان وحتى ساحل المحيط الأطلسي، مما يجعل خطابات الوعيد والانتقام بسبب الاعتداء على المدنيين وهتك الأعراض ترتفع في الداخل السوداني، إذ يوظف نظام عمر البشير وحلفاؤه السياسيين هذه الحال ضد خصومهم من أنصار “ثورة ديسمبر” السودانية التي أسقطت النظام السياسي وحزبه الحاكم عام 2019.

وهذه التفاعلات المركبة تفسر لنا مطالب الحكومة السودانية على لسان وزارة الخارجية وفي بيانها الأخير بتصنيف قوات “الدعم السريع” جماعة إرهابية، إذ تتهم المجتمع الدولي بالمسؤولية الكاملة عن محارق المدنيين السودانيين التي تمارسها قوات “الدعم السريع”، وذلك مع تقاعسه في الاستجابة لهذا المطلب المتكرر من ناحية، وتصنيفه لها كطرف عسكري مرشح أن يكون شريكاً للجيش في عملية تفاوضية، من ناحية أخرى.

وفي هذا السياق ربما تقف حوادث قرية ود النورة ومنطقة كرري حجر عثرة في هذه المرحلة أمام الجهود الدولية والإقليمية الراهنة في شأن بلورة تقارب سياسي بين المكونات السياسية السودانية، لتدشن تفاهماً في شأن عملية سياسية لليوم التالي للحرب يتفق على أطرافها.

هذه الجهود تمت هندستها خلال الأشهر الماضية بين كل من واشنطن وأديس أبابا والقاهرة، وأنتجت مؤتمرين لمعسكري القوى السياسية السودانية، أحدهما في القاهرة للقوى السياسية والفصائل المسلحة المتحالفة مع الجيش مطلع مايو (أيار) الماضي، والآخر في أديس أبابا للقوى المحسوبة على الثورة السودانية خلال الشهر ذاته، وذلك مع تقارب بدرجة معقولة بين مصر وتنسيقية “تقدم” بقيادة رئيس الوزراء السوداني السابق عبدالله حمدوك الذي جرى استقباله في القاهرة أثناء محادثات معمقة في أبريل (نيسان) الماضي.

وكان من المأمول أن تؤدي هذه الجهود دوراً في تدشين توافق وطني سوداني يجري في القاهرة نهاية يونيو (حزيران) الجاري، كما جرى الإعلان عن ذلك، إذ قدمت دعوات الحضور للأطراف المختلفة، ولكن مع هذه التطورات فإن مصير “مؤتمر القاهرة” يبدو مجهولاً حتى اللحظة، ويبدو لنا أن محارق المدنيين وحال الاستقطاب السياسي بين الأطراف المدنية تحقق لطرفي الصراع من المعسكرين أهدافاً عدة، فمن ناحية تستخدم القوى المتحالفة مع الجيش هذه المحارق المؤسفة والمؤذية إنسانياً في بلورة خطاب شعبوي وعاطفي يدفع نحو ضرورات الرد والانتقام لهدر دم الضحايا المحسوبين بالمئات في كل عملية، وكذلك الاستيلاء على بيوت الناس واغتصاب النساء، وتوظف في الخطابات العاطفية فيديوهات يبثها عرب الشتات وتتهم أهل السودان بالجلابة (تجار الرقيق) الذين يجب الانتقام منهم.

وفي سياق موازٍ تشيطن تنسيقية “تقدم” بصورة كاملة مع اعتبارها متواطئة في محارق المدنيين، طبقاً لمنطق خطابات الفريق عبد الفتاح البرهان بعد مذبحة قرية ود النورة، ويبدو أن الغرض النهائي من ممارسات الاستقطاب السياسي هو إتاحة الوقت للجيش حتى ينجح في بلورة تحالفات دولية توفر له دعماً تسليحياً مناسباً يستطيع به حسم المعارك عسكرياً، وبالتالي يضمن خطاب الاستقطاب السياسي البيئة المناسبة لعودة الإسلاميين، ربما من الجيل الرابع في “الحركة القومية الإسلامية”، لحكم السودان ولكن هذه المرة تحت لافتة التكنوقراط، وليس تحت أية لافتات أيديولوجية، حتى يتم القفز على أي عداءات إقليمية ضد “الإخوان المسلمين”.

وبالتالي لا تكون التنسيقية شريكاً في أي حل سياسي مستقبلي في السودان مما يحقق للجيش القدرة على بلورة معادلات سياسية داخلية في اليوم التالي للحرب، يقوم بهندستها طبقاً لتقديراته الذاتية ومن دون مشاركة أو ضغوط من جانب القوى السياسية الساعية إلى تحجيم المكون العسكري في معادلات الحكم.

وفي هذه المحرقة السياسية والأخلاقية تبدو تنسيقية “تقدم” في موقف لا تحسد عليه، فهي على رغم إعلانها وقوفها على مسافة واحدة من جميع الأطراف المتصارعة عسكرياً، فهي مطالبة بإدانة واضحة وصريحة لمحارق المدنيين المتتالية.

وعلى صعيد مواز فإن الخطاب السياسي لقوات “الدعم السريع” يبدو مراوغاً ولا يملك أية صدقية في ما يتعلق بمسألتي التفاوض ووقف الحرب، ذلك أن أداءها العسكري على الأرض يتجه نحو توسيع هذه الحرب ومحاولة تفكيك مؤسسة القوات المسلحة السودانية عبر تواصل الضغط عليها في عمليات عسكرية غير مبررة على اتساع الجغرافيا السودانية، ويكون التكتيك الأساس فيها هو ضرب مقومات الحياة للمدنيين في المناطق المختلفة، حيث يُلجأ إلى تدمير محطات المياه أولاً.

وعوضاً عن الخطابات السياسية العلنية تستخدم قوات “الدعم السريع” وسائل التواصل الاجتماعي في معاركها ضد الجيش، إذ لا يمكن أخلاقياً أو سياسياً تبرير عملياتها على الأرض في ما يتعلق بمحارق المدنيين، وتدشين خطاب شعبوي معاد للجيش والقوى المتحالفة معه، ويبدو لنا أن الأغراض النهائية لقوات “الدعم السريع” هي الاستيلاء على سلطة منفردة حتى ولو على بلد مهلهل، وذلك في سيناريو مماثل للسيناريو الصومالي الذي حدث خلاله إسقاط الجيش.

المشهد السوداني الراهن، بما ينطوي عليه من استقطاب سياسي، له غرض محدد لكل فريق عسكري يبدو معرقلاً لجهود الحل التفاوضي والجنوح إلى محاولة حل الأزمة السودانية بإجراءات تجنح إلى السلام، وهو أمر يجعل جهود المجتمع الدولي والإقليمي المنسقة خلال الأشهر الماضية في مهب الريح، وربما غير مجدية، وربما تسهم هذه المعطيات جميعها في عرقلة نجاح “مؤتمر القاهرة” المزمع عقده نهاية الشهر الجاري، إذ تدور الأزمة السودانية في دوامة تآكل الدولة والصراعات العسكرية الممتدة أفقياً ورأسياً بلا غرض، سوى تحقيق شهوات الانتقام والثأر.

* نقلاً عن اندبندنت عربية

الوسومأديس أبابا الجيش الخطاب السياسي الدعم السريع السودان القاهرة تنسيقية تقدم د. أماني الطويل مصر واشنطن وزارة الخارجية

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: أديس أبابا الجيش الخطاب السياسي الدعم السريع السودان القاهرة تنسيقية تقدم د أماني الطويل مصر واشنطن وزارة الخارجية الاستقطاب السیاسی الدعم السریع

إقرأ أيضاً:

اتهامات للدعم السريع باختطاف وقتل فتيات بالفاشر

اتهمت اللجنة العليا لنازحي مخيم زمزم في شمال دارفور غرب السودان قوات الدعم السريع باختطاف 23 فتاة من المخيم، وسط تقارير تؤكد وفاة 5 منهن بعد احتجازهن في سجن دقريس بنيالا، عاصمة جنوب دارفور، في ظروف يُعتقد أنها ناجمة عن التعذيب وسوء المعاملة.

وفي 13 أبريل/نيسان الماضي، شنت قوات الدعم السريع هجوما واسعا على مخيم زمزم، الذي يقع على بُعد 15 كيلومترا جنوب مدينة الفاشر، فرضت خلاله سيطرتها على المنطقة، وسط معارك عنيفة في محيط المدينة، مما أدى إلى تصاعد التوتر الأمني وتفاقم الأزمة الإنسانية.

وقال المتحدث الرسمي باسم النازحين في مخيم زمزم، محمد خميس دودة، للجزيرة نت إن الفتيات المختطفات نُقلن إلى نيالا عقب اجتياح المخيم، مشيرا إلى معلومات موثوقة تفيد بوفاة 5 منهن تحت التعذيب، بينما لا تزال أوضاع المحتجزات الأخريات مجهولة وسط تكتم شديد.

ووصف المتحدث هذه الحادثة بأنها انتهاك جسيم لحقوق الإنسان، مطالبا المجتمع الدولي بالتحرك الفوري لحماية المدنيين وضمان الإفراج عن المحتجزات.

من جهته، وصف الناشط محمد آدم ما حدث بأنه "جريمة إنسانية مروعة"، مشيرا إلى أن التقارير الميدانية تؤكد أن الفتيات فارقن الحياة نتيجة الجوع والتعذيب داخل السجن. ودعا المنظمات الحقوقية إلى اتخاذ إجراءات عاجلة والضغط دوليا لإنقاذ المحتجزات وتقديم الدعم الإنساني للنازحين.

سكان الفاشر يعانون من نقص حاد في الغذاء والدواء بسبب الحصار المفروض على المدينة (الجزيرة) قصف مستمر

وفي سياق متصل، أفادت مصادر ميدانية بسقوط قتيلين و3 جرحى إثر قصف طائرة مسيّرة تابعة لقوات الدعم السريع على حي أولاد الريف بمدينة الفاشر، ليلة الاثنين، مما زاد من معاناة السكان الذين يعانون بالفعل من نقص حاد في الغذاء والدواء بسبب الحصار المفروض على المدينة.

وقال العقيد أحمد حسين مصطفى، المتحدث الرسمي باسم القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح، للجزيرة نت إن قوات الدعم السريع لا تزال تستهدف المدينة بالمدفعية الثقيلة والطائرات المسيّرة، لكنه أكد أن قواته تحقق تقدما ملموسا لفك الحصار عن الفاشر، مشددا على أن "النصر بات قريبا"، في ظل العمليات العسكرية الجارية.

الوضع الإنساني

ويواجه سكان الفاشر أوضاعا إنسانية قاسية، حيث قفزت أسعار المواد الغذائية إلى مستويات غير مسبوقة، في حين أغلقت غالبية المتاجر في الأسواق بسبب القصف المستمر، وسط نقص حاد في الإمدادات الضرورية، مما يجعل الحياة أكثر صعوبة للمدنيين المحاصرين داخل المدينة.

وأفاد تاجر البضائع صالح هارون، أحد الموردين الرئيسيين في الفاشر، بأن الأوضاع قد تفاقمت بشكل كبير بعد الهجمات التي شنتها قوات الدعم السريع على 3 قرى غرب الفاشر، وهي قولو وقرني والشريف.

إعلان

وأوضح للجزيرة نت أن هذه الأحداث أدت إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية في المنطقة، مما أثر سلبا على حياة السكان المحليين، مشيرا إلى أن بعض التجار كانوا يعتمدون في السابق على عربات الكارو التي تجرها الحمير للوصول ليلا إلى هذه القرى وجلب البضائع الضرورية، إلا أنه منذ وقوع تلك الحوادث، توقفت هذه الأنشطة التجارية تماما، مما زاد من معاناة الأهالي الذين يعتمدون على هذه الإمدادات.

وأضاف هارون أن الوضع الحالي يتطلب تدخلا عاجلا لمساعدة السكان والتجار على حد سواء، وأن استمرار تدهور الأوضاع قد يؤدي إلى تفشي المجاعة وفقدان المزيد من سبل العيش الضرورية.

وفي بيان عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك، حذّرت تنسيقية لجان المقاومة بالفاشر من أن المجاعة تهدد آلاف الأسر، نتيجة استمرار أزمة الغذاء لعدة أشهر والتدهور السريع في الأوضاع المعيشية. وأضافت أن الأزمة امتدت لتشمل نقص الدواء والمياه، مما يزيد من صعوبة الحياة اليومية للسكان الذين يعانون من الحصار والقصف.

وأكدت التنسيقية أن القصف المتواصل يجبر السكان على البقاء داخل منازلهم، مما يمنعهم من البحث عن الغذاء أو تلقي الرعاية الصحية، بينما تعرقل الظروف الأمنية وصول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين.

ودعت التنسيقية المنظمات الدولية والجهات الحكومية إلى التدخل العاجل لإنقاذ المدنيين، محذرة من كارثة إنسانية واسعة إذا استمرت الأزمة دون حلول ملموسة.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وسّعت قوات الدعم السريع عملياتها إلى 4 ولايات في دارفور، شملت الجنوب والشرق والغرب والوسط، ضمن محاولة للسيطرة على المنطقة، مما أدى إلى ارتكاب مجازر واسعة.

وفي أبريل/نيسان الماضي، تخلّت الحركات المسلحة في الفاشر عن حيادها، وأعلنت دعمها للجيش السوداني، مما دفع قوات الدعم السريع إلى محاصرة المدينة ومهاجمة مخيم زمزم المجاور.

إعلان

مقالات مشابهة

  • هجمة بمسيرة.. الدعم السريع تضرب هدفين استراتيجيين في جنوب السودان
  • اتهامات للدعم السريع باختطاف وقتل فتيات بالفاشر
  • مسيرات الدعم السريع تهاجم للمرة الثالثة على التوالي المنشآت الحيوية جنوبي البلاد
  • السودان وفروقات الوعي السياسي
  • استفزاز ودي وحميد للقوى المدنية السودانية
  • في بيان أصدرته: “الدعم السريع” تؤيد العقوبات الأمريكية على الجيش لاستخدامه الأسلحة الكيمائية والتسبب بكارثة إنسانية
  • هل استخدم جيش السودان الأسلحة الكيميائية ضد الدعم السريع؟
  • المذيعة تسابيح خاطر تواصل استفزاز السودانيين وتنشر تقرير تتهم فيه الجيش باستخدام “السلاح الكيماوي” في حربه ضد قوات الدعم السريع
  • ما وراء ادعاء أميركا استخدام الجيش في السودان أسلحة كيميائية
  • “صمود” تكوين حكومات من قبل الجيش والدعم السريع أمر لا يخاطب أولويات السودانيين