ما وراء ادعاء أميركا استخدام الجيش في السودان أسلحة كيميائية
تاريخ النشر: 25th, May 2025 GMT
أثار الإعلان الأميركي عن استخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية في العام 2024 موجة من الغضب الرسمي والشعبي في السودان، ليس بسبب نيّة واشنطن فرض عقوبات على السودان -فقد تعوّدنا على عقوباتهم ودعايتهم السوداء- ولكن لعدم وجود أدلة أو منطق يدعم تلك المزاعم، واستسهال إطلاق الاتهامات والأكاذيب، وبناء إستراتيجية حولها تقوم على قهر الشعوب، وسلبها الحقّ في الحياة والاستقرار.
الجيش السوداني ليس بحاجة لاستخدام أسلحة كيميائية في حربه ضد مليشيا الدعم السريع، التي انهارت مؤخرًا، وفقدت الحماس والقدرة على القتال، ولم يعد بمقدورها تعويض خساراتها أو استعادة المناطق التي فقدتها.
أما واشنطن فهي لا تمتلك دليلًا واحدًا على استخدام الجيش السوداني تلك الأسلحة المحرمة، ولا نعرف عنها سوى رواية غير مسنودة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز منتصف يناير/ كانون الثاني 2025، عن مسؤولين أميركيين، لم تسمِّهم الصحيفة، زعموا أن الجيش السوداني استخدم الأسلحة الكيميائية في مناسبتين على الأقل، ضد قوات الدعم السريع.
وفيما تم سلق تلك الاتهامات بمنطق الفتوة والخباثة، لا توجد روايات متطابقة تعزز ذلك، ما دفع المسؤولين الأميركيين للتهرب بالقول إن استخدام الأسلحة الكيميائية كان محدود النطاق، ووقع في مناطق نائية، ولم يُحقق أي فاعلية تُذكر، لتجنّب الأسئلة المحرجة، على شاكلة أين وكيف حدث ذلك، وما هي البيّنة المادية على ذلك الادّعاء الأجوف؟
إعلانفلا يعقل أن يستخدم الجيش السوداني موادّ سامة بلا فاعلية، ثم لماذا لم تظهر آثار تلك الأسلحة على أجساد قوّات التمرّد، إذ إنّه يصعب بالمَرّة التخلّص من تبعات تلك الأسلحة على الطبيعة.
والمثير للدهشة أن الرواية اليتيمة مصدرها صحيفة غربية ليس لها مراسل على الأرض، ولم تسعَ للقيام بعمل استقصائي يسند ظهر اتهامات على ذلك النحو الخطير، والتي للغرابة أيضًا لم تتفوّه بها منصات مليشيا الدعم السريع، وهي تنفث كل ماهو مدسوس ومُختلق في حق الجيش السوداني!
موت منبر جدةبهذا الموقف العدائي الأميركي تجاه السودان، تكون واشنطن قد تخلّت عن حياديتها المفترضة كوسيط، حين لوّحت بسيف العقوبات، ووضعت نفسها عمليًا في موضع الخصم. وقد كشف هذا الانحياز الواضح للمليشيا عن فقدانها للمصداقية، وجعلها طرفًا غير مؤهّل لدعم أي مسار تفاوضي، وغير جدير بالثقة من جانب الأطراف السودانية.
فقد تعثّرت تلك المفاوضات أكثر من مرّة، وعجزت الوساطة عن حمل قوات الدعم السريع على الالتزام بإعلان جدة في مايو/ أيار 2023 والذي قضى بخروج الدعم السريع من بيوت المواطنين والمرافق الحكومية، والدخول في هدنة مؤقتة، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث، ما دفع الجيش السوداني إلى مواصلة القتال، وإخراج قوات التمرد من القرى والمدن بالقوة.
وعلى ما يبدو، ثمة قرائن كثيرة تشير إلى أن مليشيا الدعم السريع مجرد بندقية مؤجرة، وأن أميركا ليست بعيدة عن توجيه نيران الحرب، واستئناف حلقات المشروع الاستعماري القديم بتدمير السودان، وخنقه بالعقوبات، حتى يخضع لها، ودعم حركات التمرّد وحفز الهويات القاتلة، واستباحة كل ما هو موروث ووطني، عبر شعارات خادعة تتغنى بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن النزعة الكولونيالية هي الغالبة على سياساتهم تجاه كل بلد حباه الله بالموارد، أو كما عبّر عن ذلك ليوناردو دي كابريو في فيلم الألماس الدموي: "نحنُ لا نتبنى الحروب، ولكن نخلق الظروف التي تجعلها تستمرّ".
إعلانوهنا قد تعهّدوا بذلك لوكيلهم في الشرق الأوسط، إسرائيل، ومن يقوم بخدمة مصالحهم، ومن بين ذلك دولة معروفة تناصب السودان العداء، هي التي تقف حاليًا وراء استعداء حكومة دونالد ترامب ضد السودان، وتريد أن تستنصر بها لإنقاذ فصيلها العسكري -الدعم السريع-المهزوم على الأرض.
خيبة أمل هائلةبالعودة للعقوبات الأميركية- التي سوف تدخل حيز التنفيذ بعد فترة إخطار مدتها 15 يومًا للكونغرس، على أن تشمل قيودًا على الصادرات الأميركية إلى السودان، وحرمان المصارف الحكومية السودانية من الوصول إلى خطوط الائتمان الحكومية الأميركية- هي بالمناسبة ليست جديدة.
فقد ظلت العقوبات الأميركية على السودان باقية بالرغم من قيام السودان بتسديد مبلغ 335 مليون دولار؛ تعويضًا لعائلات أميركية من ضحايا هجمات شنها تنظيم "القاعدة" على سفارتَي واشنطن في كينيا وتنزانيا عام 1998، مقابل رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ودمج مصارف السودان في النظام المالي العالمي، وهو ما لم يحدث عمليًا.
وقد حصدت الخرطوم خيبة أمل هائلة، وظلت إلى اليوم تحت رحمة العقوبات الأميركية، وهي في الحقيقة إستراتيجية كولونيالية ثابتة تقوم على سياسة الجزرة والعصا، بينما في الحقيقة لا توجد جزرة، والبيت الأبيض -أيًا كان قاطنه- ظلّ يتعامل بنفس الأسلوب مع السودان، ما يعزز فرضية أن الحملة ضد السودان تنشط فيها مراكز نفوذ أميركية لا تتأثر بطبيعة النظام الحاكم.
الخارجية السودانية في تفنيدها تلك المزاعم أبدت استغرابها كيف أن الإدارة الأميركية تجنّبت تمامًا طرح اتهاماتها عبر الآلية الدولية المختصة والمفوضة بهذا الأمر؛ المنظمة الدولية لحظر الأسلحة الكيميائية بلاهاي، والتي تضم كلا البلدين في عضويتها، لا سيما أن السودان يتمتع بعضوية مجلسها التنفيذي، ورفضت تلك الإجراءات الأحادية، التي تخالف اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، خاصة من طرف "لديه تاريخ في توظيف المزاعم الباطلة لتهديد سيادة الدول وأمنها وسلامة أراضيها"، على حد تعبير بيان الخارجية السودانية التي تجاهلت كذلك حقيقة خطيرة وهي وجود أسلحة أميركية عثر عليها الجيش السوداني بطرف قوات الدعم السريع، دون أن تعرضها على أروقة الأمم المتحدة، أو تتقدم بشكوى بها في مجلس الأمن والمنظمات الدولية.
إعلان من قام بتزويد الجنجويد بأسلحة أميركية؟القوات المسلحة السودانية ضبطت مؤخرًا صواريخ جافلين في مخازن الدعم السريع بمنطقة صالحة غرب أم درمان، يبلغ سعر الصاروخ ومنصة الإطلاق، اللذين تصنعهما مجموعتا "رايثيون" و"لوكهيد مارتن" الأميركيتان، 178 ألف دولار بحسب ميزانية البنتاغون لعام 2021، علاوة على تسليح جنود المليشيا ببنادق آلية أميركية الصنع من طراز (إيه آر- 15) استخدمتها في استهداف مواقع مدنية بالعاصمة الخرطوم ومدينة الفاشر المحاصرة.
فمن هي الجهة التي زودت الدعم السريع بتلك الأسلحة الأميركية، دون أن تأبه بقرار مجلس الأمن بحظر الأسلحة في دارفور، ولماذا صمتت الولايات المتحدة عن انتهاكات قوات الجنجويد وجرائمها الموثقة في السودان؟
على شاكلة تغطية فضيحة كلينتونسيناريو وجود أسلحة كيميائية في السودان ليس جديدًا، وقد انطلت الكذبة على الرأي العام الأميركي إبان فترة حكم الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، في أعقاب فضيحة المتدربة مونيكا لوينسكي، ساعتها قام كلينتون بقصف مصنع الشفاء شمال الخرطوم في 20 أغسطس/ آب 1998؛ بسبب مزاعم ارتباطه بإنتاج أسلحة كيميائية، ليتضح لاحقًا أن المصنع يعمل في إنتاج الأدوية والعقاقير الطبية.
لكن الولايات المتحدة لم تُقدِم على الاعتراف بخطأها أو تقديم اعتذار رسمي للسودان بشأن قصف مصنع الشفاء، رغم أن التحقيقات اللاحقة أثبتت أن المنشأة كانت مخصصة للأدوية وليس لها صلة بإنتاج الأسلحة الكيميائية. كما لم تُظهر إدارة الرئيس بيل كلينتون في حينها اهتمامًا يُذكر بالآثار الإنسانية والصحية المترتبة على هذا القصف، والذي اعتبره كثيرون محاولة لصرف الأنظار عن أزمات داخلية، في سياق سياسي دقيق وملتبس.
لا شك أن اتهام الجيش السوداني باستخدام أسلحة كيميائية يمهّد لسيناريو التدخل العسكري الدولي في السودان، ومن غير المستبعد أن تغزو أميركا الأراضي السودانية بهذه الفرية المضحكة، كما فعلت مع العراق من قبل، والهدف من وراء ذلك إيقاف انتصارات الجيش السوداني، والسيطرة على الموارد الطبيعية والمعدنية وساحل البحر الأحمر، فأميركا لديها مطامع قديمة في هذه المنطقة، أو بالأحرى لدى إسرائيل أحلام توسعية في النيل والبحر الأحمر.
إعلانوهو عين ما أشار إليه السفير التركي لدى السودان فاتح يلدز في تدوينة على منصة "إكس" عندما سخر من الادعاءات الأميركية باستخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية، وقال: "إنهم فقدوا مصداقيتهم منذ سنوات عندما شنوا حربًا بناءً على ادعاءات كاذبة بوجود أسلحة دمار شامل في العراق".
وهذا بالضرورة يتطلب الحذر واليقظة، وتكوين فريق سوداني مُتمرّس من الشخصيات الدبلوماسية والعسكرية للتعامل مع هذه المزاعم الأميركية الخطيرة، وما يمكن أن تفضي إليه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الأسلحة الکیمیائیة الجیش السودانی أسلحة کیمیائیة استخدام الجیش الدعم السریع کیمیائیة فی تلک الأسلحة فی السودان
إقرأ أيضاً:
عقوبات أمريكية جديدة على السودان على خلفية اتهامات باستخدام أسلحة كيميائية
أعلنت الولايات المتحدة فرض عقوبات جديدة على السودان، بعد اتهام الحكومة التي يديرها الجيش باستخدام أسلحة كيميائية ضد معارضيها خلال الحرب الأهلية، دون توضيح تفاصيل حول مكان أو وقت الاستخدام. وتتزامن هذه الإجراءات مع تصاعد التوترات بين الأطراف المتنازعين وتفاقم الأزمة الإنسانية في البلاد. اعلان
أعلنت واشنطن فرض عقوبات جديدة على السودان، اتهمت فيها الحكومة التي يديرها الجيش باستخدام أسلحة كيميائية خلال العام الماضي ضد معارضيها في الحرب الأهلية المسترة منذ أكثر من سنتين.
وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية تامي بروس في بيان صدر يوم الخميس إن المجلس العسكري السوداني انتهك اتفاقية الأسلحة الكيميائية.
وأضافت: "تدعو الولايات المتحدة حكومة السودان إلى وقف استخدام الأسلحة الكيميائية والوفاء بالتزاماتها بموجب اتفاقية الأسلحة الكيميائية".وتُلزم الاتفاقية الدول الموقعة عليها بتدمير مخزوناتها من الأسلحة الكيميائية.
ولم تُقدّم بروس تفاصيل حول مكان أو وقت استخدام هذه الأسلحة المحظورة. إلا أن صحيفة "نيويورك تايمز" ذكرت سابقًا من هذا العام، نقلاً عن مسؤولين أمريكيين كبار، أن القوات الحكومية السودانية استخدمت غاز الكلور لاستهدافقوات الدعم السريعفي مناطق نائية.
من المنتظر أن تدخل الجولة الأخيرة من العقوبات الأمريكية حيز التنفيذ في حوالي 6 يونيو القادم، وتشمل فرض قيود على الصادرات الأمريكية إلى السودان والحصول على قروض من الحكومة الأمريكية.
Relatedواشنطن ترحل 8 مدانين بارتكاب جرائم إلى وجهة غير معلومة وتقارير تتحدث عن جنوب السودانهل تُمهّد استعادة الخرطوم الطريق لنهاية الحرب في السودان؟السودان يعلن "تحرير الخرطوم" ويتهم الإمارات بالتدخل العسكري المباشر في الحربوفي يناير الماضي، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، المعروف بـ"حميدتي"، الذي اتُهمت قواته ووكلاؤه بارتكاب إبادة جماعية خلال النزاع المسلح.
وقال وزير الخارجية الأمريكي السابق أنتوني بلينكن حينها إن قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها قتلت مدنيين ومارست عنفًا جنسيًا ضد النساء على أساس عرقي.
وبعد أسبوع من فرض العقوبات على حميدتي، أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي السباق جو بايدن فرض عقوبات أيضًا على القائد العسكري عبد الفتاح البرهان، الخصم الرئيسي لحميدتي، والذي يُزعم أن جنوده ارتكبوا جرائم حرب.
وبدأت الحرب الأهلية في السودان في أبريل 2023، إثر انهيار التحالف بين البرهان وحميدتي، لتتحول بسرعة إلى صراع دامي على السلطة.
وتقدر الأمم المتحدة أن عشرات الآلاف من الأشخاص قتلوا في النزاع، وأُجبر نحو13 مليون شخص على مغادرة منازلهم هربًا من العنف.
كما تشير إلى أن المجاعة انتشرت بشكل واسع في البلاد، ويصف عمال الإغاثة الوضع الإنساني في السودان بأنه أسوأ أزمة إنسانية في العالم.
انتقل إلى اختصارات الوصولشارك هذا المقالمحادثة