في السنوات الأولى من حياتنا المدرسية، عقب كلّ عيد، وبعد انقضاء إجازته، اعتاد معلمونا أن يخصّصوا الحصص الأولى، لأحاديث العيد، وكثيرا ما يطرحون هذا السؤال:
كيف قضيت العيد؟
كان الفضول يمدّ عنقه من نوافذ هذا السؤال، فتذهب السكرة، وتعود الفكرة، لكن السؤال يظلّ يبحث عن جواب، ونحتار: من أين نبدأ؟ التفاصيل الكثيرة، تزدحم في أذهاننا، ولكن، هل تصلح كلها للكلام؟ هل سيقابلها التلاميذ الأشقياء بالسخرية؟ وحين يطول الصمت، يطرح المعلم أسئلة تحفيزية من طراز: هل ارتديتم الملابس الجديدة؟ فيجيب الجميع: نعم أستاذ،
هل عايدتم الأهل، والأقارب والأباعد؟
- نعم أستاذ
هل ذهبتم لأماكن اللعب والأراجيح؟
- نعم أستاذ
إذن تكلّموا عن هذا
وتبدأ الألسن بالكلام، وتتدفّق التفاصيل، ولكعك العيد والحلوى حصّة، لابدّ من ذكرها، مثلما للعربات الخشبية التي تجرّها الخيول حصّة، ودواليب الهواء الخشبية المتهالكة الأضلاع، والأراجيح، والألعاب، ولكي تكتمل بهجة العيد لا بدّ من مشاهدة فيلم من أفلام المغامرات التي تُعرض داخل خيمة تنصب في ساحة عامة، أو في قاعة صغيرة، ويذهب البعض إلى حديقة الحيوانات، والمتنزهات، أو يجلس في البيت قبالة الشاشة الصغيرة لمشاهدة الأفلام والبرامج التلفزيونية التي تعرضها القناة الوحيدة، وغالبا ما تكون الإجابات في البداية تطوعية، لمن يرغب بالحديث، وحين تنتهي أحاديث الراغبين ويسود الصمت، يبدأ المعلم باشراك بقية التلاميذ، وكثيرا ما يكون بالدور حسب العدد الموجود في الصف، وعادة تكون الغيابات كثيرة بعد إجازة العيد، فالجميع يعرف أن اليوم الأول بعد الإجازة تكون الدراسة به غير منتظمة، وليس الدوام في الصفوف سوى تزجية وقت.
ونعود إلى سؤال المعلّم، المحرج: كيف قضيت العيد؟
قلّة من التلاميذ يقولون إنهم قرأوا قصصا مسلية، اشتروها، من مكتبات صغيرة، بما حصلوا من (عيديّات) سخيّة، وفي النهاية معظم إجاباتنا تكون متكرّرة، كوننا نعيش في مدينة امتصّ الفقر دمها، وأكل أطرافها، وجعل أيامها متشابهة، خالية من الألوان، سوى ألوان العيد، وبعد أن ينتهي الجميع من الكلام، يطلب المعلّم الانتقال إلى المرحلة الثانية وهي الأصعب، كونها مرحلة الانتقال من الشفاهية إلى التدوين، عندما يطلب المعلم من التلاميذ تحويل الأحاديث إلى نصوص في دفاتر التعبير، فيسود الصمت، فالجميع يفكّر بكيفية تحويل الكلام الدارج العادي إلى نصّ مكتوب بلغة عربية فصيحة، خالٍ من الأخطاء الإملائية، طبعا الأخطاء النحوية واردة جدا، ولكن يشفع لنا كوننا لم نكن نعرف النحو، ولم ندرسه، ولاحقا درسناه تحت مسمّى (درس القواعد)، ولكن المعلّم لا يتركنا لوحدنا في متاهة سؤاله، فيقوم بمساعدتنا، وشيئا فشيئا ننجز المهمة، وإذا اتّسع وقت الحصّة، يختار المعلم بعضها للقراءة أمام التلاميذ، لينال أصحابها التصفيق، وكلمات ثناء من المعلم، وعلامة في دفتر الدرجات.
وحين يرنّ الجرس معلنا نهاية الحصّة، نغادر الفصول، فيما تبقى أحاديث العيد مستمرّة.
وعيدا بعد عيد، صرنا نجهّز أنفسنا لنجيب عن سؤال المعلّم: (كيف قضيت العيد؟) بكلّ أريحية، فنسعى لملء أيام الأعياد بكل ما يتاح لنا من تفاصيل تجعلنا نتباهى بها أمام زملائنا، تلك التفاصيل لو استرجعناها، وقارناها بأعياد هذه الأيام لاستغربنا بساطتها، فوجه الحياة تغيّر، وتغيّرت معه الأعياد، فالقناة التلفزيونية الواحدة صارت مئات القنوات، ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تأتي بالعيد لبيتك، والمولات المليئة بالمطاعم والأسواق تفتح أبوابها على مدى 24 ساعة، والفنادق والمنتجعات توفّر اليوم جوّا من المتعة والاسترخاء، أمّا غرف الضيوف التي تغصّ بالمهنئين، فمعظم وقت جلوسهم يمضونها في قراءة رسائل التهاني التي تصل إليهم عبر هواتفهم النقّالة، فالكثيرون يستقبلون التهاني عبرها، والسفر صار متاحا، للكثيرين، وتلك هي طبيعة الحياة، التغيّر والتبدّل المستمرّان، كما قال الفيلسوف اليوناني هرقليطس: «إنك لا تنزل في النهر الجاري مرتين، فهناك مياه تجري فيه باستمرار»، ومع ذلك لا يزال الأطفال في المناطق العمانية يعيشون تفاصيل العيد بكل حذافيرها، يرتدون الدشاديش ويتحزمون بالخناجر الصغيرة، ويضعون المصرّ (العمائم) على رؤوسهم، وحين يتحصّلون على العيديات يحثّون الخطى إلى مكان (العيود) الذي يزدحم بالباعة الذين ترتفع أصواتهم بنداء (عيود عيود) وسط الأهازيج والفنون الشعبية التقليدية، والرزحات التي تحيي تراث الأجداد، ليشتروا ما يحتاجون إليه من ألعاب ومأكولات وحلوى تشكل مصدر فرح وسرور للصغار والكبار.
وللعيدين، عيد الأمس واليوم نكهة فرح، تعطّر أيّامنا، وتجعلنا نعود لممارسة أعمالنا بروحية جديدة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المعل م
إقرأ أيضاً:
عندما يصنع الحزب سياسة تعليمية عاقلة
عندما يصنع #الحزب #سياسة_تعليمية_عاقلة
#الدكتور_محمود_المساد
شاركت أمس بندوة ناضجة، وعميقة أطلق فيها الحزب الديمقراطي الاجتماعي الأردني “ورقة موقف حول التعليم والمناهج”، تصلح، بل تؤسّس لمستقبل الوطن من المدخل الوحيد الصحيح – التعليم والمناهج – توجّه الحزب بها للمجتمع الأردني بكل مكوّناته، وأطيافه، من دون تمييز، أو إقصاء؛ ليرسم – بعد تشخيصه الدقيق لواقع التعليم الأردني – إطار العمل السياسي الذي قد ينهض بالتعليم، والمتعلمين الذين هم بحق رأس مال الدولة البشري الذي يبني بتميزه، ومعرفته قوّة الدولة الأردنية، ومستقبلها المنيعالمزدهر.
أتوقع – إن أرادت الجهات المعنيّة أن تقرأ الورقة بعناية واضحة، وفهم تام، ووعي ناضج، ورغبة طموحة – فبمقدورها أنتلتقط جملة من الرسائل التي بوساطتها تقود إلى التغيير الشامل المنشود، الذي تتحقق به الآمال، وهذه الرسائل هي:
1- التعليم شأن مجتمعي يجب أن لا يُترَك للتربويّين فحسب،فهو أداة الدولة في تشكيل أفراد مجتمعها بالشكل، واللون الذي تريده، ويعكس بحق مكوّنات مجتمعها وأطيافه. وهنا يلزم تحديد السّمات، والخصائص التي تريدها، بل وتطمح إليها في الخريج بوصفه منتَجًا لعملها، وفي ضوء ذلك يتم تقييمها عليه.
2- العمل على إعادة تصويب مسيرة التعليم نحو هدفه الرئيس،وهو المتعلم/ المتعلمة، بعد أن انحرف التعليم بهدفه نحو المحتوى، واقتصر على حفظه، واستذكاره على أوراق الاختبارات، مع العلم أنها أدوات فقط لإعمال العقل، واكتساب مهارات التفكير، وإنتاج المعرفة.
3- الوصول إلى اليقين بأن المتعلم/ المتعلمة هما المُدخل الرئيس لنظام التعليم، وأن المجتمع جاء بهما للمدرسة من أجل التعلم،وليس من أجل الاستماع فقط. ففي التعلم يتفاعل الطلبة مع الموقف التعلمي بحواسهم كافة، في حين ما نمارسه حاليا يقتصر على الاستماع، وبث المعلم لما يعرف. وهنا يجدر القول:إن هناك فرقًا بين المسجد والمدرسة، في المسجد يجب الاستماع، وفي المدرسة يجب التفاعل، والتأمل، والانغماس،والتعبير، والاستمتاع.
4- مراعاة حاجات المجتمع الحقيقية المتنوعة بشكل يضمن المساواة، والعدالة، وتكافؤ الفرص. لقد ابتعد نظام التعليم عنها إلى تهميش فئات وطبقات، وبخاصة الأطراف، والتحيز الواضح للأغنياء وأصحاب المواقع المؤثرة، حتى بات التعليم حِكرًا عليهم، وعلى أبنائهم، ومواقعهم محفوظة بعد تخرجهم،وغيرهم ينتظر إعلانات التوظيف، على الرغم من بيع الأرض الوريث الوحيد من أجل دراسة الأبناء.
5- كبح جماح تراجع شروط الحضانة الصحية لبيئات المواقف التعلمية، حيث غدت مملة، وباهتة، وجافة، وقلقة. والحاجة ملحّةلبيئات حاضنة، ودافئة، وحافزة، وإيجابية التواصل.
6- بذل الجهود المخلصة لإعادة هيبة المعلم ومكانته، كونه الأساس الأهم للتعليم الناجح. نعم، لقد بات المعلم فاقدًا مكانته داخل الوسط الاجتماعي، وفاقدًا تقدير الآخر له، ( مع الفارق بين الذكور، والإناث )، والحاجة اليوم ملحّة بدرجة عالية لإعادة الألق إليه من جديد، والاهتمام بمكانته معنويّا، ومِهْنيّا، وماديّا؛ وهو كما نعلم جميعا أنه القدوة الصالحة،وأن يحظى باحترام شديد؛ من أجل أن نصل به إلى ما يريده الوطن، ويصبو إليه من منَعة، وازدهار.
7- ومن دون تحسين كل ما سبق بشكل شامل ومتكامل، فلا أمل بمستقبل مناسِب!!.