التقى الدكتور سلطان بن أحمد الجابر، وزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة، والدكتور ثاني بن أحمد الزيودي، وزير دولة للتجارة الخارجية، مع فوميو كيشيدا، رئيس الوزراء الياباني، بحضور وفد رفيع المستوى وسعادة شهاب الفهيم، سفير الدولة لدى اليابان.

ونقل سلطان الجابر تحيات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، إلى كيشيدا وتمنياته لليابان قيادةً وحكومةً وشعباً بمزيدٍ من التقدم والنماء والازدهار.

كما ناقش الجانبان مستجدات الشراكة الاستراتيجية الشاملة وتنفيذ المشاريع والبرامج المتبادلة في إطارها.

وتأتي الزيارة في إطار تعزيز العلاقات الراسخة بين البلدين الصديقين وتطلعاتهما لتحقيق نمو اقتصادي مستدام، وتعزيز آفاق التعاون المشترك وتطويره في مختلف المجالات، وذلك في إطار مبادرة الشراكة الاستراتيجية الشاملة التي تم إطلاقها خلال زيارة الشيخ خالد بن محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي رئيس المجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي، إلى اليابان في سبتمبر 2022.

والتقى الدكتور الجابر والوفد الإماراتي خلال الزيارة مع كاميكاوا يوكو، وزيرة الخارجية اليابانية، وكين سايتو، وزير الاقتصاد والتجارة والصناعة، وتارو كونو، وزير التحول الرقمي، ويوشيماسا هاياشي، كبير أمناء مجلس الوزراء الياباني، بالإضافة إلى الرؤساء التنفيذيين لكل من بنك اليابان للتعاون الدولي، وشركة "إنيوس"، و"ميتسوي وشركاه"، وشركة "إنبكس"، وشركة "جيرا"، وشركة "إيتوتشو"، وشركة "هيتاشي"، ومجموعة "سوفت بنك".

وأكد خلال اللقاءات حرص القيادة في دولة الإمارات على مد وتعزيز جسور التواصل والتعاون، بما يخدم جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة.

وتناول الدكتور سلطان الجابر في لقاءاته أهمية تأمين إمدادات الطاقة، والاستفادة من حلول الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته من أجل الارتقاء بأداء قطاع الطاقة ورفع كفاءته، بالإضافة إلى تحفيز وتشجيع الابتكار، بما يساعد على استكشاف وتطوير وتطبيق المزيد من الحلول لتحفيز النمو الاقتصادي منخفض الانبعاثات، ودعم أهداف "اتفاق الإمارات" التاريخي الذي تم التوصل إليه خلال مؤتمر الأطراف "COP28".

وأشار إلى أن دولة الإمارات تبنّت منذ وقت مبكر تطوير وتنفيذ مشروعات الطاقة النظيفة محلياً وإقليمياً وعالمياً، ودعا إلى استقطاب المزيد من الاستثمارات في هذا القطاع لتلبية الطلب العالمي المتزايد.

وأشاد الدكتور سلطان الجابر خلال اجتماعه مع وزيرة الخارجية الياباني بالعلاقات الثنائية التي تشهد تطوراً ملحوظاً في إطار الشراكة الاستراتيجية الشاملة، كما شملت المحادثات آخر مستجدات تنفيذ المشاريع والبرامج والمبادرات المشتركة وتعزيز آفاق التعاون.

كما التقى مع وزير الاقتصاد والتجارة والصناعة الياباني، وتم خلال اللقاء استعراض أوجه التعاون الاقتصادي، وسبل تعزيزه بما يخدم المصالح المشتركة، كما بحثا سبل تنمية التجارة، والاستثمار، والطاقة، والطاقة المتجددة، والصناعة والتكنولوجيا المتقدمة، وغيرها من المجالات ذات الاهتمام المشترك.

وعقد الدكتور الجابر اجتماعاً مع وزير التحول الرقمي حيث أكدا حرص البلدين الصديقين على التعاون في مجال التكنولوجيا المتقدمة والتحول الرقمي، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في مختلف القطاعات الحيوية، ودعم وتشجيع الصناعات ذات الصلة، والعمل على استكشاف الفرص الاستثمارية المشتركة.

من جانبه، أكد الدكتور الزيودي، أن اليابان تعد من أهم الشركاء التجاريين لدولة الإمارات “تاسع أكبر شريك تجاري عالمياً، والخامس على مستوى الواردات”، كما تعد دولة الإمارات أكبر شريك تجاري لليابان بين دول مجلس التعاون الخليجي بالصادرات والواردات، حيث تستقبل 47% من الصادرات اليابانية إلى دول المجلس.

وقال معاليه “ تعد اليابان أيضاً شريكاً معرفياً محورياً لدولة الإمارات في مجالات التنويع الاقتصادي وقطاعات اقتصاد المستقبل القائمة على المعرفة والابتكار، وذلك بما تمتلك من مسيرة رائدة وحافلة في هذه المجالات”.

وأشار الدكتور الزيودي إلى أن زيارة وفد دولة الإمارات استهدفت تعزيز العلاقات الثنائية، وإبرام المزيد من الشراكات والاتفاقيات لتسريع وتحفيز النمو في القطاعات ذات الاهتمام المشترك، بما يدعم تعزيز التبادل التجاري، واستكشاف المزيد من الفرص الاستثمارية الجديدة لقطاعات الأعمال والشركات.

وشهدت الزيارة التوقيع والإعلان عن شراكات جديدة في مجالات استراتيجية وحيوية، حيث تم توقيع مذكرة تفاهم للتعاون بين شركة "أدنوك" وبنك اليابان للتعاون الدولي “JBIC” بشأن التمويل الأخضر بقيمة 3 مليارات دولار من شأنها أن تدعم مسيرة "أدنوك" الرائدة في خفض الانبعاثات وتبني الحلول منخفضة الكربون في عملياتها.

كما تم توقيع مذكرة تفاهم بين شركة "أدنوك" ووكالة الموارد الطبيعية والطاقة التابعة لوزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة اليابانية - METI بشأن زيادة المخزون الاستراتيجي تهدف إلى تعزيز التعاون في مجال الطاقة وضمان أمنها واستدامتها في ظل تقلبات الأسواق وسلاسل الإمداد.

وتشهد العلاقات الثنائية تطوراً ملحوظاً في ظل الإرادة المشتركة لقيادتي البلدين الصديقين في الارتقاء بها إلى آفاق جديدة من النمو الاقتصادي المتبادل، وبما يخدم المصالح المشتركة، وذلك عبر تشجيع المزيد من التعاون في العديد من المجالات.

وتمثل دولة الإمارات مصدراً موثوقاً لتزويد اليابان بمصادر الطاقة، وشريكاً استراتيجياً في مختلف المجالات، وتعد أكبر مورد للنفط في اليابان، إذ بلغت صادراتها النفطية خلال شهر أبريل الماضي حوالي 35.8 مليون برميل “تمثل أكثر من 45% من واردات اليابان خلال الشهر” كما مثلت الصادرات النفطية في عام 2023 ما نسبته 44.7% من إجمالي واردات اليابان النفطية.

من جانب آخر، صدّرت دولة الإمارات إلى اليابان أول شحنة معتمدة من الأمونيا منخفضة الكربون في العالم، والتي تم إنتاجها باستعمال تقنية "التقاط الكربون وتخزينه" وذلك من خلال التعاون بين شركتي فيرتيغلوب وميتسوي اليابانية.

وتأتي هذه الشحنة ضمن جهود شركة "أدنوك" لتسريع تطوير سلاسل قيمة عالمية للهيدروجين منخفض الكربون والأمونيا.

كما قامت شركة "مبادلة للاستثمار" بالإعلان عن أول مشاريعها للطاقة المتجددة في اليابان، وذلك من خلال منصة الطاقة المتجددة “PAG REN I” التابعة لشركة "بي إيه جي" والمتخصصة بشكل أساسي في مجال توفير الطاقة الشمسية للشركات. وتهدف المنصة إلى تقديم خدماتها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ مع التركيز بشكل أساسي على اليابان.

تجدر الإشارة إلى أنّ دولة الإمارات تعدّ مصدراً لحوالي 60% من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى اليابان من منطقة الشرق الأوسط خلال عام 2023، في حين استقطبت في المقابل حوالي 82% من إجمالي الاستثمارات اليابانية في دول الشرق الأوسط خلال نفس العام بزيادة بلغت 71% عن العام 2022 وذلك في قطاعات متنوعة مثل التكنولوجيا والطاقة المتجددة والنقل.

وبلغ إجمالي التبادل التجاري الإماراتي - الياباني في عام 2023 حوالي 47.4 مليار دولار، منها 15.6 مليار دولار مبادلات تجارية غير نفطية، نامياً بنسبة 6.1% مقارنةً بعام 2022.

ضم وفد الدولة الزائر كلاً من سعادة سعيد مبارك الهاجري، مساعد وزير الخارجية للشؤون الاقتصادية والتجارية، ومصبح الكعبي، الرئيس التنفيذي لدائرة الحلول منخفضة الكربون والنمو الدولي في "أدنوك"، ومحمد الرمحي، الرئيس التنفيذي لشركة أبوظبي لطاقة المستقبل “مصدر”، وتوماس براموتيدهام، الرئيس التنفيذي لشركة بريسايت.

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: رئيس وزراء اليابان وزير الصناعة الإماراتي الشراکة الاستراتیجیة الشاملة دولة الإمارات المزید من

إقرأ أيضاً:

"الشراكة الاقتصادية الشاملة مع الهند" تُعيد رسم ملامح الاقتصاد العُماني

 

 

الاتفاقية تُعزِّز فرص توطين الوظائف بالقطاعات الإنتاجية والخدمية

◄ توقعات بتوفير 100 ألف فرصة عمل خلال السنوات العشر المقبلة

◄ 18.7 مليار دولار حجم التبادلات التجارية المتوقع بين عُمان والهند بغضون 5 سنوات

◄ "الشراكة الشاملة" تضع عُمان ضمن شبكة اقتصادية صاعدة تُعيد تشكيل مسارات التجارة

◄ "فرصة تاريخية" للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة لتوسيع آفاق أعمالها

الاتفاقية مع الهند خطوة في الاتجاه الصحيح نحو بناء اقتصاد مرن ومُتجدِّد

 

 

 

محمد بن علي بن حمد العريمي

[email protected]

 

بالنظر إلى التطورات المُتسارعة في المشهد الاقتصادي الإقليمي والدولي، تبدو اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين سلطنة عُمان وجمهورية الهند (CEPA) خطوة تحمل طابعًا استراتيجيًا واسع التأثير، ليس فقط من حيث تعزيز التبادل التجاري؛ بل من حيث إعادة صياغة الدور الاقتصادي للسلطنة على مدى السنوات المقبلة.

المؤشرات الأولية القائمة اليوم تُظهر أن التعاون بين البلدين آخذ في النمو بوتيرة ثابتة؛ حيث بلغ حجم التجارة الثنائية خلال العام المالي 2024-2025 ما يقارب 10.61 مليار دولار، وهو رقم يعكس علاقة اقتصادية راسخة قابلة للتوسع بمجرد تفعيل الاتفاقية المرتقبة. ويأتي ذلك في وقت تتطلع فيه السلطنة إلى اقتصاد أكثر تنوعًا، وأكثر قدرة على المنافسة، وأكثر انفتاحًا على الأسواق الآسيوية والعالمية.

وإذا ما نظرنا إلى طبيعة العلاقة الاقتصادية بين البلدين، فإن الموقع الجغرافي الاستراتيجي لعُمان يمنحها نقطة قوة محورية؛ فالموانئ العُمانية- مثل صلالة والدقم وصحار- لا تُعد بوابات بحرية عادية؛ بل منصات إقليمية ذات قدرة عالية على خدمة التجارة الدولية وربط آسيا بأفريقيا والخليج وأوروبا. وفي حال اكتملت الاتفاقية، فإنَّ هذه الموانئ لن تكون مجرد نقاط عبور للسلع العُمانية أو الهندية، وإنما محاور لوجستية تجذب الاستثمارات الصناعية والخدمية، وتدعم حركة إعادة التصدير، وتُسهم في بناء منظومة اقتصادية تُضاعف القيمة المضافة داخل السلطنة. ومن شأن هذه المنظومة أن تُعيد تشكيل قطاعات واسعة تتعلق بالنقل والتخزين والخدمات اللوجستية والصناعات التحويلية، الأمر الذي ينعكس على توسيع فرص العمل وتحسين نوعية الأنشطة الاقتصادية.

ومع أن الاتفاقية تفتح آفاقًا واسعة أمام التجارة في الاتجاهين، إلّا أن الجانب الأكثر أهمية بالنسبة للسلطنة يكمُن في تعزيز الصناعات المحلية؛ إذ تستهدف عُمان ضمن "رؤية 2040" بناءَ اقتصادٍ متنوعٍ قائمٍ على الصناعة والتكنولوجيا والخدمات المتقدمة، وليس اقتصادًا يعتمد على سلعة واحدة. ومع الحصول على نفاذ تفضيلي إلى سوق تتجاوز قوامها 1.4 مليار نسمة، فإنَّ مجالات مثل البتروكيماويات، والفولاذ، والألمنيوم، والأسمنت، والرخام، والمنتجات الزراعية، والمنتجات التقليدية العُمانية يمكن أن تشهد توسُّعًا نوعيًا في صادراتها. هذه الأسواق الضخمة لا تستوعب المنتجات فحسب؛ بل تُحفِّز أيضًا الصناعات المحلية على رفع مستويات الجودة، وتحسين سلاسل الإنتاج، وزيادة الطاقة التشغيلية، وإيجاد مساحات أكبر للشركات الصغيرة والمتوسطة التي تطمح إلى التصدير.

وتُعزِّز الاتفاقية أيضًا فرص توطين الوظائف وزيادة الطلب على الكفاءات الوطنية داخل القطاعات الإنتاجية والخدمية؛ فالتوسع الصناعي المتوقع يتطلب مهندسين، وفنيين، ومتخصصين في اللوجستيات، ومهارات متنوعة في مجالات النقل والتسويق والإدارة؛ الأمر الذي يفتح الباب أمام آلاف الوظائف المباشرة وغير المباشرة. وبالنظر إلى معدلات النمو المحتملة بعد تفعيل الاتفاقية، فإنَّ زيادة الأنشطة الصناعية واللوجستية يمكن أن تولِّد بين 10 آلاف إلى 100 ألف فرصة عمل خلال السنوات الخمس إلى العشر المقبلة، بحسب حجم المشاريع التي ستستغل هذه الزيادة في النشاط الاقتصادي. وهي فرص لا تُسهم فقط في تعزيز التوظيف؛ بل في رفع جودة الخبرات الوطنية، وزيادة مستوى الإنتاجية، وتحقيق استقرار اجتماعي ناتج عن فرص عمل مستدامة.

ومن زاوية مستقبلية، يمكن اعتماد سيناريوهين لتقدير أثر الاتفاقية على حجم التجارة الثنائية: الأول: سيناريو مُتحفِّظ يفترض نموًا سنويًا بمتوسط 8%، والثاني: سيناريو تفاؤلي يفترض نموًا بمتوسط 12%، وذلك مقارنة بمعدل النمو الطبيعي للتجارة الذي يدور حول 3%. وبناءً على هذه الحسابات، يمكن أن يرتفع حجم التجارة الثنائية من 10.6 مليار دولار اليوم إلى ما يقارب 15.6 مليار دولار خلال خمس سنوات في السيناريو المُتحفِّظ، وإلى ما يتجاوز 18.7 مليار دولار في السيناريو المتفائل. ومع استمرار النمو لعشر سنوات، يمكن أن يصل الحجم التجاري بين البلدين إلى نحو 23 مليار دولار في السيناريو المُتحفِّظ، فيما قد يصل إلى قرابة 33 مليار دولار في السيناريو التفاؤلي. وهذه القفزات المحتملة لا تأتي فقط من زيادة حجم المبادلات التقليدية؛ بل من توسع في الصناعات التحويلية، والاستثمار في خطوط إنتاج جديدة تستهدف السوقين معًا.

هذه الأرقام ليست مجرد تنبؤات نظرية؛ بل تعتمد على تجارب مماثلة، مثل اتفاقيات التجارة الحرة التي أبرمتها الهند مع دول أخرى وأدت إلى ارتفاعات ملحوظة في أحجام التجارة، وعلى بيانات فعلية تُظهر أن الصادرات غير النفطية العُمانية تنمو بالفعل بمعدلات صحية. كما إن الاستثمارات الصناعية المسجلة في السلطنة خلال 2025 تُظهر اهتمامًا غير مسبوق من مستثمرين يبحثون عن قاعدة مستقرة للإنتاج وإعادة التصدير. وهذا يعني أن الاتفاقية يمكن أن تكون المحفز النهائي الذي يطلق موجة جديدة من الاستثمارات الصناعية في عُمان، لا سيما إذا ما اقترنت بحوافز واضحة للمستثمرين وتسهيلات لوجستية وجمركية ترفع من تنافسية السلطنة.

ومن شأن هذه التحولات أن تُعيد تشكيل الاقتصاد العُماني ليصبح أكثر مرونة في مواجهة التقلبات العالمية، وأكثر قدرة على النمو الذاتي من خلال الإنتاج المحلي والصناعات الوطنية. ومع ازدياد النشاط اللوجستي، وتوسع المناطق الحرة، وتجدد الاستثمارات الصناعية، سيكون للسلطنة موقع جديد على خارطة التجارة العالمية، موقع يعكس قدرتها على استغلال مواردها الجغرافية والبشرية والاقتصادية لبناء اقتصاد متنوع ومستدام. وإذا ما تم توظيف هذه الفرص بالشكل الصحيح- عبر التخطيط، وإدارة الموارد بكفاءة، وتطوير التشريعات، وتحفيز الكفاءات الوطنية- فإن السنوات العشر المقبلة قد تشهد تحولًا جذريًا في شكل الاقتصاد العُماني وحجمه.

وبذلك تبدو اتفاقية (CEPA) أكثر من مجرد إطار للتجارة؛ بل خطوة استراتيجية نحو مستقبل اقتصادي مزدهر؛ فهي تفتح الأبواب للأسواق، وترفع من جاذبية الاستثمار، وتوسع من فرص العمل، وتدفع بالصناعات الوطنية نحو مستويات أعلى من المنافسة، وتعيد تعريف موقع عُمان على خريطة التبادل التجاري العالمي. ومع استمرار الجهود الحكومية، ودعم القطاع الخاص، وتكامل الرؤى الوطنية، يمكن أن تتحول هذه الاتفاقية إلى أحد أهم محركات النمو الاقتصادي في تاريخ السلطنة الحديث، وإلى بوابة نحو مرحلة جديدة من الاستقرار والازدهار والتنمية المتوازنة التي تتماشى مع تطلعات رؤية "عُمان 2040".

وبينما تتعمق سلطنة عُمان في توسيع شراكاتها الدولية، تمثّل اتفاقية التجارة الحرة مع الهند نقطة تحول قادرة على إطلاق موجة جديدة من النشاط الاقتصادي الذي يترابط فيه التصنيع بالتجارة، ويُكمل فيه الاستثمار اللوجستيات، ويتقاطع فيه النمو الصناعي مع توسع أسواق التصدير. والعلاقة مع الهند ليست علاقة تجارية عابرة؛ بل علاقة راسخة تستند إلى تاريخ طويل من التبادل والتداخل الاقتصادي والثقافي؛ ما يجعل الاتفاقية القادمة امتدادًا طبيعيًا لمسار مشترك يتطور باستمرار. ويُتوقَّع أن تُشكِّل الاتفاقية حافزًا لعددٍ من القطاعات التي كانت تتطلع إلى الوصول إلى أسواق أكبر، وفي مُقدمتها القطاعات الصناعية التحويلية التي تعتمد على المواد الأولية المتوفرة في السلطنة، وتستهدف خلق قيمة مُضافة قبل التصدير.

ومع تزايد الاهتمام العالمي بالاستدامة، يُمكن لعُمان أن تستفيد من الاتفاقية في تعزيز صناعات صديقة للبيئة، من خلال توجيه الاستثمارات نحو قطاعات مثل: الطاقة النظيفة، والصناعات منخفضة الانبعاثات، والمبادرات التي تُقلِّل من البصمة الكربونية؛ فالهند- باعتبارها واحدة من أكبر الاقتصادات الناشئة- تمتلك طلبًا مُتزايدًا على مواد صناعية تتوافق مع معايير الاستدامة، وهو ما يُمكن أن يفتح المجال أمام السلطنة لإعادة تموضُع منتجاتها الصناعية والزراعية كخيارٍ جذّابٍ للأسواق التي تسعى لتحقيق التوازن بين التكلفة والجودة والمعايير البيئية. كما يمكن للموانئ العُمانية- عبر بنيتها الحديثة- أن تصبح منصة رئيسية لنقل البضائع الخضراء؛ ما يُسهم في تعزيز تنافسية السلطنة في سلاسل الإمداد العالمية.

ويأتي ذلك في وقت تشهد فيه المنطقة تحوُّلات جيو-اقتصادية عميقة تتجه فيها دول عديدة إلى تعزيز الاندماج الإقليمي والانفتاح على آسيا، ما يجعل توقيع الاتفاقية مع الهند خطوة تجسد فهمًا استراتيجيًا لموازين القوى الاقتصادية الجديدة. والهند اليوم واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، وضمن أكبر خمس اقتصادات عالمية من حيث الناتج المحلي الإجمالي؛ وبالتالي، فإن تأسيس شراكة اقتصادية شاملة معها يضع عُمان ضمن شبكة اقتصادية صاعدة ستعيد تشكيل مسارات التجارة خلال العقود المقبلة. ومن خلال هذه الشبكة، يمكن للسلطنة أن تعمّق دورها كمركز إقليمي للتجارة والخدمات الصناعية، وأن تستفيد من الطلب الهائل في الهند على المواد الخام والمنتجات الصناعية والسلع الاستهلاكية.

وإذا ما نظرنا إلى تأثير الاتفاقية على الشركات الصغيرة والمتوسطة في عُمان، سنجد أن الاتفاقية قد تكون فرصة تاريخية لهذه الفئة من الشركات لتوسيع آفاق أعمالها؛ فالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة تشكل جزءًا أساسيًا من هيكل الاقتصاد الوطني، وتحتاج إلى بيئة تجارية تدعم منتجاتها وتمكنها من الوصول إلى أسواق جديدة. ومع تيسير الإجراءات الجمركية، وتخفيض الرسوم، وتسهيل النفاذ إلى الأسواق، يُمكن لهذه الشركات أن تجد في السوق الهندية منفذًا واسعًا لتسويق منتجاتها؛ سواء في قطاعات الأغذية، أو المنسوجات، أو المنتجات العطرية، أو الصناعات التقليدية. وهذه النقلة يمكن أن تُسهم في خلق ثقافة تصدير أقوى، وترسيخ روح المبادرة، وتعزيز الابتكار داخل الشركات العُمانية.

أما على مستوى الأمن الغذائي، فإن الهند- باعتبارها قوة زراعية ضخمة- يمكن أن تكون شريكًا استراتيجيًا للسلطنة في تلبية الاحتياجات الغذائية المتزايدة. ومع تسهيل الاستيراد عبر CEPA، يمكن لعُمان أن تؤمِّن سلة غذائية متنوعة بأسعار تنافسية، ما يرفع من مستوى الاستقرار الغذائي ويعزز من قدرة السوق المحلي على مواجهة تقلبات الأسعار العالمية. وفي المقابل، يمكن للمنتجات العُمانية الفريدة- مثل التمور واللُبان ومنتجات الرخام- أن تجد طريقها إلى منافذ البيع الهندية بطريقة أكثر سلاسة، وهو ما يشكل مكسبًا اقتصاديًا وثقافيًا في آن واحد.

ومع توسع المبادلات التجارية وتحسن كفاءة سلاسل الإمداد، ستصبح السلطنة مركزًا لوجستيًا أكثر جاذبية للشركات العالمية التي تبحث عن نقطة ارتكاز بين آسيا وأفريقيا والخليج. ويمثل هذا التحول فرصة كبيرة للقطاع الخاص العُماني الذي يمكنه استثمار هذا الموقع عبر إنشاء مراكز تخزين وتوزيع حديثة، وتطوير شبكات نقل، وإطلاق خدمات لوجستية متقدمة تدعم التجارة العابرة للقارات. وهذا التحسين في أداء الموانئ والمناطق الحرة سيؤدي إلى دوران اقتصادي أسرع داخل السلطنة، ويُعزّز إيرادات الدولة من الأنشطة المرتبطة بالنقل والموانئ والجمارك والخدمات المساندة.

وفي كل هذه الموجات من التوسع، يظل الإنسان العُماني محور التنمية ومحركها الأساسي؛ فالاتفاقية ستسهم في خلق بيئة اقتصادية أكثر تنوعًا، توفر فرصًا وظيفية ذات قيمة أعلى، وتدعم برامج التدريب والمهارات، وتفتح أمام الشباب آفاقًا جديدة للمشاركة في الاقتصاد العالمي. ومع صعود قطاعات جديدة، ستتسع فرص التخصص في مجالات الهندسة والتقنية واللوجستيات والتجارة الدولية، وهو ما ينعكس إيجابًا على جودة الحياة وعلى قوة الاقتصاد الوطني.

ومع مرور الوقت، يمكن أن يؤدي تفعيل الاتفاقية إلى زيادة حضور السلطنة على خريطة الاقتصاد الدولي، ليس بوصفها مُصدّرًا للمواد الخام أو النفط فحسب؛ بل بوصفها مركزًا اقتصاديًا متنوعًا يربط أسواق آسيا بالخليج وبأفريقيا. هذا التحول يجعل من اتفاقية (CEPA) خطوةً في الاتجاه الصحيح نحو بناء اقتصاد مرن، ومتجدد، قادر على مواكبة المتغيرات العالمية. وإذا ما توفرت الإرادة، وتكاملت الجهود بين القطاعين العام والخاص، وتم الاستثمار في البنية التحتية والموارد البشرية، فإن السلطنة ستكون أمام مرحلة جديدة من النمو النوعي، مرحلة يُعاد فيها تشكيل اقتصادها بصورة أقوى وأكثر إشراقًا، وتعكس طموحاتها الحقيقية في أن تكون مركزًا إقليميًا للتجارة والصناعة في المستقبل القريب.

وفي ضوء هذه المُعطيات المتداخلة، ومع ما تحمله المؤشرات الاقتصادية من دلالات واضحة على اقتراب مرحلة جديدة في العلاقات العُمانية الهندية، تبدو السلطنة أمام منعطفٍ تاريخيٍّ يُمكن أن يغيِّر مسار اقتصادها خلال العقد المقبل. فكل الأرقام، وكل التوجهات، وكل السيناريوهات المستقبلية تشير إلى أن تفعيل الاتفاقية لن يكون مجرد حدث اقتصادي عابر؛ بل نقطة انطلاق نحو دورة نمو أكثر نضجًا وجرأة وتنوعًا. ومن المتوقع، إذا ما سارت الأمور وفق الإيقاع الذي ترسمه اليوم المعطيات، أن تتضاعف التجارة الثنائية خلال سنوات قليلة، وأن تتجاوز حاجز 20 مليار دولار في منتصف العقد المقبل، وربما تقترب من 30 مليار دولار خلال عشر سنوات، في حال استفادت السلطنة إلى أقصى حد من مزايا التموضع الجغرافي والتكامل الصناعي مع الهند.

ولا تقف التوقعات عند حدود التجارة وحدها؛ بل تمتد إلى الصناعات التحويلية التي يُرجَّح أن تشهد توسعًا ملحوظًا، خاصة تلك المعتمدة على المعادن والبتروكيماويات والمواد البنائية، إلى جانب فرص متنامية في الصناعات الخضراء والطاقة المتجددة والتكنولوجيا الصناعية. ومع بروز الموانئ العُمانية كمراكز توزيع إقليمية، يتوقع أن تتسارع حركة الاستثمار في المناطق الحرة والمناطق الاقتصادية الخاصة، بما يعيد تشكيل الخريطة اللوجستية في المنطقة، ويجعل من السلطنة محطة رئيسية في سلاسل الإمداد بين آسيا والخليج وأفريقيا.

وعلى مستوى سوق العمل، تشير التقديرات المستقبلية إلى إمكانية خلق الوظائف النوعية التي يمكن أن تمنح الشباب العُماني فرصًا غير مسبوقة للاندماج في قطاعات صناعية وتقنية جديدة، وترفع من مستوى المهارات الوطنية، وتدعم مسار التوطين في القطاع الخاص. ومع اتساع رقعة التصنيع والتصدير، ستنشأ احتياجات موازية في قطاع الخدمات والتعليم والتقنية، ما ينتج دورة اقتصادية متكاملة ترفد بعضها بعضًا، وتُرسي قواعد نمو متواصل ومستقر.

أما على المدى الطويل، فإن تفعيل الاتفاقية قد يمهد لمرحلة يصبح فيها الاقتصاد العُماني أكثر قدرة على مواجهة التقلبات العالمية، وأكثر استعدادًا لاستيعاب التحولات التقنية والبيئية والاقتصادية. ومع استمرار التنويع، وتوسّع الصادرات، وتعاظم دور السلطنة كمركز لوجستي محوري، يمكن لعُمان أن تنتقل من موقع المنافس الإقليمي إلى موقع اللاعب الفاعل في التجارة الدولية. وقد نشهد خلال عشر سنوات اقتصادًا عُمانيًا متجددًا، واسع القاعدة الإنتاجية، متصلًا بشبكات التجارة العالمية، ومتقدمًا بخطى ثابتة نحو تحقيق رؤية "عُمان 2040" بوصفها رؤية طموحة لاقتصاد مرن، مبتكر، ومستدام.

وهكذا.. فإنَّ المستقبل يحمل لسلطنة عُمان فرصًا هائلة إذا ما تم اغتنام اللحظة، والاستفادة من المكاسب الاستراتيجية التي تقدمها اتفاقية (CEPA)، وتحويلها إلى واقع اقتصادي ملموس. وما يبدو اليوم خطوة جريئة نحو تعزيز التجارة قد يتحول غدًا إلى قصة نجاح اقتصادية إقليمية تُضاف إلى سجل عُمان، وتمنحها موقعًا راسخًا بين الاقتصادات الأكثر ديناميكية واستشرافًا للمُستقبل.

إنَّ تحقيق السيناريو التفاؤلي يتطلب مجموعة من العوامل التمكينية؛ أبرزها تسريع عمليات التصديق والتوقيع والتنفيذ للاتفاقية مع وضع آلية متابعة مشتركة لضمان تطبيق بنود التفضيل الجمركي وإزالة العوائق الإجرائية. كما يشمل تطوير البنية الأساسية اللوجستية للموانئ والمناطق الحرة ومرافق التخزين والتبريد وطرق الربط الداخلي لالتقاط الطلب المتزايد. كذلك، تعد الحوافز الاستثمارية للقطاعات ذات القيمة المضافة وبرامج التدريب الفنيّة من العناصر الأساسية لضمان استدامة النمو الصناعي. إضافة إلى ذلك، فإن إقامة تحالفات تجارية وشراكات تسويقية مع موزعين هنود يسهم في تسهيل النفاذ إلى الأسواق الهندية على مستوى المدن والمناطق، بينما تتيح حزم الدعم للصادرات الصغيرة والمتوسطة وصول المنتجات العُمانية إلى رفوف السوق الهندي بفعالية وجودة تنافسية.

بشكل عام.. تُشير هذه التقديرات إلى أن تفعيل اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين سلطنة عُمان والهند، يُمثِّل فرصة استراتيجية لعُمان لتعزيز التجارة الثنائية، وتنويع الاقتصاد، وجذب الاستثمارات، وخلق فرص عمل واسعة؛ ما يُسهم في تعزيز النمو الاقتصادي المستدام وتقليل الاعتماد على النفط، مع تعزيز قدرة السلطنة على لعب دور متنامٍ في التجارة الإقليمية والدولية.

مقالات مشابهة

  • الربط الكهربائي الخليجي يبحث الاستعدادات النهائية لتصدير الطاقة إلى العراق
  • رئيس الدولة: بحثت مع رئيس جمهورية قبرص تحقيق أهداف الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين بلدينا
  • رئيس الدولة والرئيس القبرصي يبحثان تعزيز الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين
  • وزير الكهرباء يبحث مع سفير السويد بالقاهرة ووفد شركة لينكسون "Linxon " التعاون المشترك
  • وزير الخارجية الصيني والمبعوث الخاص لرئيس الدولة لدى الصين يبحثان تعزيز الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين
  • وزير الخارجية يبحث مع رئيس الوزراء الإماراتي أزمات الدول العربية
  • عبدالله بن زايد ووزير خارجية الصين يؤكدان عمق الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين
  • الصين تدعو لتعميق الشراكة مع الإمارات بالنفط والغاز
  • الإمارات وقبرص تعززان علاقاتهما التجارية والاستثمارية
  • "الشراكة الاقتصادية الشاملة مع الهند" تُعيد رسم ملامح الاقتصاد العُماني