جريدة الرؤية العمانية:
2025-12-13@23:28:13 GMT

هيهات منَّا الذلة

تاريخ النشر: 8th, July 2024 GMT

هيهات منَّا الذلة

 

 

 

أ. د. حيدر أحمد اللواتي

جَرَت عادة المجتمعات البشرية أنْ تقوم بإحياء مناسبات تاريخية لها صلة بما تعاصر من أحداث مُهمة، سعيًا منها للاستفادة العملية والمعنوية من تلك الحوادث التاريخية، واليوم يواجه عالمنا الإسلامي تحديات جسام، ويتعرض أهلنا في فلسطين إلى قمع وظلم لا تصفه الكلمات، ومقابل هذا الظلم والقمع تتجسَّد أمام أعيننا أجمل وأروع صور الصمود الذي تقفه ثلّة صامدة بموقف قلَّ نظيره في مواجهة القوة العالمية الغاشمة، وتتجلَّى لنا قيم العزة والشجاعة التي يُسطرها أبطال المقاومة في العالم أجمع.

وتُصادف هذه الأيام أحد أهم الحوادث التاريخية التي مرَّت في تاريخنا الإسلامي ألا وهي "واقعة عاشوراء"، وهي الواقعة التاريخية التي حدثت في سنة 61 للهجرة، واستشهد فيها الإمام الحسين بن علي سبط النبي المصطفى، وتعرض أهل البيت فيها للسبي، فتم سبي السيدة زينب بنت الإمام علي وعدد من نساء أهل البيت من كربلاء إلى الكوفة، ومنها إلى الشام، وهي أولى الحوادث في تاريخ المسلمين التي تسبى فيها نساء مؤمنات. ومن العجيب أن  تكون السبايا بنات النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم!

وسبب الواقعة أنَّ الإمام الحسين عليه السلام، رفض بيعة يزيد بن معاوية، معللاً ذلك بقول بأنه "رجل فاسق فاجر"، وأنَّ "على الإسلام السلام بأن ابتليت الأمة براعٍ مثل يزيد"، وعلى الرغم من قلة المناصرين للإمام الحسين، إلا أنه أصرَّ على رفض البيعة، وعندما حذَّره بعض قوّاد الجيش الأموي الذي قدم لمحاربته، انتفض في وجه قائد الجيش قائلاً: "أفبالموت تخوفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ سأمضي، وما بالموت عار على الفتى *** إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلماً

وآسى الرجال الصالحين بنفسه *** وفارق مثبورا وباعد مجرما

فإن عشت لم أندم وإن مت لم ألم *** كفى بك ذلا أن تعيش وترغما

وكانتْ المواجهة في يوم العاشر من المحرم، وعلى إثرها استُشِهد الإمام الحسين عليه السلام.

إنَّ أهم ما يميز "واقعة عاشوراء" أنَّ الإمام الحسين وأصحابه جسَّدوا فيها كل القيم النبيلة والتي يمكننا الاستفادة منها في غرسها في نفوسنا وفي نفوس أبنائنا ونحن نعيش ذكرى هذه الواقعة الأليمة، فتغدوا قيم الإباء ورفض الظلم والعزة والكرامة قيمًا مغروسة في أجيال المستقبل، من خلال استحضار مواقف وأقوال الإمام الحسين؛ إذ لا يمكن لمُنصِف يمرُّ على واقعة كربلاء إلا ويشعر بالعزة والكرامة والفخر من المواقف والشعارات والخطب التي أطلقها الإمام الحسين وأنصاره الذين رافقوه في مسيرته نحو الشهادة الخالدة.

فمنذ أول مواجهة بين سفير الإمام الحسين مسلم بن عقيل، وبين الكتيبة الأموية التي أُرسِلت لاعتقاله عندما كان في الكوفة، صرخ فيهم مسلم بن عقيل بعد أن جرَّد سيفه هادرًا بأرجوزته: أقسمتْ ألا أقتل إلا حرًّا... وإن رأيت الموت شيئا نكرا.

وظلَّت قيم الحرية والإباء ملازمة للحسين والثلة المؤمنة معه، وتردَّدت على شفاههم طيلة يوم العاشر من المحرم؛ فكان صوت الحسين يهدر تارة بقوله: "هيهات منَّا الذلة"، و أخرى بـ"لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد"، وثالثة: "كونوا أحرارا في دنياكم". ولهذا غدا الإمام الحسين سيد أباة أهل الضيم، وغدا مُعلِّم الإنسانية وأستاذها الذي علَّمها مفاهيم الحرية والإباء والعزة على مر العصور والتاريخ، وظلت ذكراه حاضرة في قلوب محبيه ومريديه، وغدا عَلَمًا لكل ثائر على الجور والظلم، كما ظلَّ الحسين وظلت ذكرى شهادته تقضُّ مضجع الظالمين؛ فالحسين كان ولا يزال بمواقفه وشعاراته التي رفعها يوم عاشوراء يوقظ الضمائر ويحيي النفوس، إلا أنَّ عظم المأساة جعلت البعض من محبي الإمام الحسين ومريديه يفرغون مناسبة إحياء ذكراه من كل قيم العزة والإباء، ويصرِّون على اختزالها بدموع يذرفونها، وصيحات يرددونها، وبحزن يعتصر قلوبهم بما لاقاه الحسين من محن وبلاء، بل ووصل ببعضهم أنْ يقفوا أمام كل من يريد أن يُحيي قيم الحسين في أيام شهادته، مُعللين ذلك بأنه يومٌ مخصص للحزن وذرف الدموع، مع أنَّ القرآن الكريم يؤكد أهمية أخذ العظة والعبرة من الحوادث التاريخية: "لَقَدۡ كَانَ فِي قَصَصِهِم عِبۡرَةٞ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَبِ" (يوسف:111).

 ومن الملاحظ أنَّ المؤرخين يروون بأن الجيش الذي قاتل الإمام الحسين كان هو أيضًا يذرف الدموع عليه، كما كان أنصاره يذرفون دموعهم، لكن الفرق لم يكن قط في البكاء بين من نصره ومن خذله، وإنما انحصر الفرق بينهما في الموقف والقيم التي حملها الطرفان.

وبمقابل هؤلاء، هناك فئة أخرى من المسلمين وقفوا موقفًا سلبيًّا من الإمام الحسين وثورته، وألبسوا الثورة ثوبًا طائفيًّا، وبذلك حرموا أنفسهم من شم عطر الكرامة والشعور بالفخر من تاريخ الحسين ومن عطائه الثري.

إنَّ علينا نحن المسلمين أن ننتبه لهذه الحملات التي تسعى لبتر علاقتنا بالشخصيات الإسلامية الأصيلة وبالقيم التي جُسدت في مواقفهم؛ من خلال تحجيم تلك الشخصيات تارة، وإفراغها من قيمها التي جسدتها تارة أخرى؛ فعاشوراء كيفما نظرنا لها فهي معينٌ ثري لنهل دروس الكرامة والإباء، وحريٌّ بعالمنا الإسلامي لما يمر به من تحديات، وما يتعرض له أهلنا في فلسطين، أن يستغل هذه المناسبة ويتزود منها بقيم العزة والكرامة والإباء لنغرس في نفوس أبنائنا البطولة والشجاعة والشهادة في سبيل الله، وتكون حاضرة أمام أعيننا ونحن نتابع أبطال المقاومة في مختلف بقاع العالم من غزة وجنوب لبنان إلى سوريا وإيران واليمن والعراق، وهم يحملون قيم الحسين ومبادئه في وجه الظلم والجور، ويجسدون صرخته التي أطلقها يوم عاشوراء "هيهات منَّا الذلة".

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

في ذكرى وفاة محمود شلتوت.. أول من حمل لقب الإمام الأكبر وأحد شيوخ التجديد

يحل اليوم السبت الثالث عشر من ديسمبر كل عام ذكرى وفاة أحد أكبر أئمة التجديد الديني في القرن العشرين، باسهامات بارزة وغير مسبوقة، في مضمار الشريعة الإسلامية، وهو الشيخ محمود شلتوت.

من هو الشيخ محمود شلتوت؟

الشيخ محمود شلتوت ولد في محافظة البحيرة في أواخر القرن التاسع عشر، الذي كان قرنا مليئا بالعبقريات الاصلاحية والدينية، وبالتحديد سنة 1893، ورحل عن عمر يناهز الـ70 عاما في عام 1963، بعدما خطا رحلة طويلة في مضمار التجديد الديني، وتولى مشيخة الأزهر الشريف سنة، 1958 وأول حامل للقب الإمام الأكبر وانتخب عضوا بمجمع اللغة العربية أو مجمع الخالدين عام 1943.

ما هي صيغة دعاء سجود السهو؟.. كلمات ثابتة عن النبي لا تغفل عنهاهل يجوز تعليق الدعاء على المشيئة؟.. الأزهر يحذر من خطأ نهى عنه النبي

وأضاف الشيخ شلتوت رحمه الله، في مجال التجديد الديني الكثير والكثير، وقد اختير عضوًا في الوفد الذي حضر مؤتمر "لاهاي" للقانون الدولي المقارن سنة 1937م، وألقى فيه بحثًا تاريخيا هاما، تحت عنوان "المسئولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية" ونال البحث استحسان أعضاء المؤتمر، فأقروا صلاحية الشريعة الإسلامية للتطور، واعتبروها آنذاك في ثلاثينيات القرن العشرين، وفي عز وجود الاستعمار في مصر وفي شتى أرجاء العالم العربي والاسلامي، مصدرًا من مصادر التشريع الحديث، وإنها أصيلة وليست مقتبسة من غيرها من الشرائع الوضعية، ونال بهذا البحث المتفرد، عضوية جماعة كبار العلماء. كما ينسب للشيخ شلتوت أفكاره التنويرية، وكان أول من نادى بتشكيل مكتب علمى للرد على مفتريات أعداء الإسلام، وتنقية كتب الدين الإسلامي من البدع والضلالات، وكانت هذه الدعوة مقدمة لإنشاء مجمع البحوث الإسلامية.

محمود شلتوت شيخا للأزهر

وفي سنة 1958م، وبعدما صدر قرار تعيينه شيخًا للأزهر الشريف، سعى الشيخ شلتوت جاهدًا للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وزار الكثير من بلدان العالم الإسلامي، وقد كان مؤمنا أشد الإيمان بضرورة القضاء على الخلاف بين المذاهب الإسلامية، ويعتبر أول من أدخل دراسة المذاهب في الأزهر الشريف، فقد كان مع توحيد المسلمين ولم شملهم، وصدر قبل وفاته قانون إصلاح الأزهر الشريف سنة 1961م. كما دخلت في عهده العلوم الحديثة إلى الأزهر، ولم تعد الدراسة في الأزهر الشريف، من وقتها، مقتصرة على العلوم الدينية فقط وأنشئت العديد من الكليات، وارتفعت مكانة شيخ الأزهر، ومكانته كعالم بارز من علماء الدين الإسلامي في مختلف البقاع.

أول حامل للقب الإمام الأكبر

وفي سنة 1957م اختير سكرتيرًا عامًا للمؤتمر الإسلامي ثم عين وكيلًا للأزهر، وفي سنة 1958م صدر قرار بتعيينه شيخًا للأزهر، وكان أول من حمل لقب الإمام الأكبر، وسعى جاهدًا للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وزار كثيرًا من بلدان العالم الإسلامي.

مؤلفات الشيخ محمود شلتوت

ومن مؤلفاته: « فقه القرآن والسنة، مقارنة المذاهب، القرآن والقتال، ويسألونك. (وهي مجموعة فتاوي)»،كما ألف الكثير من الكتب التي ترجمت لعدة لغات، منها: منهج القرآن في بناء المجتمع، رسالة المسؤولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية، القرآن والمرأة، تنظيم العلاقات الدولية الإسلامي.

والاقتراب من فكر د. محمود شلتوت شيخ الأزهر الراحل لابد وأن يدفعنا الى التفكير اليوم وغدًا، في استكمال طريقه سواء في العمل على إصلاح الأزهر الشريف وتنقية كتب التراث، ليس بدافع الهدم والابادة، كما يتصور بعض الخبثاء ويشيعون ذلك، ولكن بدافع الاستفادة والتقدم للأمام، فما من أمة تدمر ماضيها وتأمل بعد ذلك أن يكون لها مستقبل. كما أن هناك حاجة لإزالة الغبار واللبث عن بعض المفاهيم المغلوطة عن الدين، وتوضيح المعاني الحقيقية للجهاد في العصر الحديث، بعد انتهاء عصر المسلمين والكفار، والاستمرار في دراسة حوار الحضارات والأديان، ونزع الرؤى المتعصبة وتأسيس جيل قادر على معايشة عصره والتقدم التكنولوجي الهائل الموجود بين أيدينا، وفي نفس الوقت الاحتفاظ له بدينه وروحانياته.

طباعة شارك من هو الشيخ محمود شلتوت الشيخ محمود شلتوت محمود شلتوت شيخا للأزهر أول حامل للقب الإمام الأكبر مؤلفات الشيخ محمود شلتوت ذكرى وفاة الشيخ محمود شلتوت

مقالات مشابهة

  • عبر الخريطة التفاعلية.. ما أهمية المنطقة التي وقع فيها كمين تدمر؟
  • الفيصلي يتوّج بلقب درع الاتحاد بعد الفوز على الحسين إربد
  • في ذكرى رحيله.. أول من حمل لقب الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت
  • في ذكرى وفاة محمود شلتوت.. أول من حمل لقب الإمام الأكبر وأحد شيوخ التجديد
  • الأردن.. الأمير علي بن الحسين يهنئ المنتخب بعد الفوز على العراق
  • الحسين إربد ينهي عقد مدربه البرتغالي ماتشادو ويكلف بشار بني ياسين بقيادة الفريق
  • الحسين إربد يتخذ قراراً بأشن مدربه 
  • الإمام العياني.. نجم بزغ في سماء اليمن وقائد جمع بين السيف والقلم
  • "فيها إيه يعني" يتربع على عرش الإيرادات قبل عرضه على يانغو بلاي
  • ذخائر العرب.. "دار المعارف" تعيد طباعة ترجمة الإمام أحمد بن حنبل بإخراج جديد