د. عبدالله الغذامي يكتب: لوثة الإبداع وحرقة الفكر
تاريخ النشر: 20th, July 2024 GMT
في تجربة الكتابة الفكرية والإبداعية معاً يتعرض الكاتب لمعاناة النص وتمخضاته، ولا يقف الأمر عند حال الكتابة بوصفها حالة إنتاجية تحول مادةً ذهنيةً إلى مادة محسوسة، بل إن تحول الذهني إلى مكتوب محسوس سيقع في متاهات الفجوات بين عالم الأفكار الذهنية وعالم التمثل الواقعي. ويروى عن جرير أنه كان يتمرغ في صهريج وهو يلاحق القوافي ويجري وراء خواطر تتطاير أمامه فيلهث كي يمسك بأطرافها، وقد قال الجواهري مرةً، إنه يصاب بما يشبه اللوثة الجنونية حين يدخل في مخاضات القصيدة، تلك القصيدة التي يقول عنها الفرزدق، إن خلع ضرس أهون عليه من قول بيت من الشعر، وفي المقابل قال طه حسين إنه غير راضٍ عن أي كتاب من كتبه، وإنه كلما نظر في واحد منها أحس أنه لم يشبع ما في نفسه (قالها في لقاء له مع التلفزيون السعودي أمام المذيع ماجد الشبل في نهاية الستينيات)، ولن يبلغ أي مبدع ولا أي مفكر أعلى درجات التعبير عما في رأسه أو في نيته وسيظل يشعر مع أي وقفة مع نصه أنه لم يقل كل ما كان يود قوله، وهذه حال يعرفها كل مؤلف وكل منشئ.
وفي الحديث الشفاهي تكون الحال أشدَّ من حال الكتابة لأن الارتجال لا يسمح بالتمعن، وكل خطيب يخطب ارتجالاً يكتشف أن الاستطراد يأخذه بعيداً عن فكرته الأصل ويغريه الاستطراد وكأنه يسرقه من أفكاره ويجره لغيرها، وهنا ينتهي للإحساس بما فات عليه قوله.
هذه حالة تحدث بالضرورة الإبداعية لأن الأفكار ذات طبيعة مراوغة وزئبقية، والفكرة أقوى من الذات الكاتبة، وهي التي تتحكم بنا ،وإن توهمنا السيطرة عليها، ولهذا تحدث ثغرات النص، وهي التي يتغذى عليها النقد، وتنبني عليها خطابات التفكيك والتشريح النصوصي، كما تتسلل عبرها النسقيات دون وعي من المنشئ، وذلك لتزاحم الواعي وغير الواعي في لحظة إنتاج القول.
وفي النهاية فإن هذه العيوب تتحول لمزايا لأنها تدفع المفكر والمبدع للشروع بعمل آخر وآخر، ويظل يلاحق نفسه وإبداعيته مما يمنح الفكر مزيداً من الإنتاجية، ولهذا نرى من يقال عنهم بأصحاب الواحدة يتوقفون عند واحدتهم لأنهم تشبعوا منها وفيها، لدرجة لا تفتح لهم مجالاً لإنتاج مزيد. وكلما رضي الكاتب عن شغله وأحس بتمامه فهذه نهايته. بينما تتحرك العقول الحية بدافع حسها العنيف بأنها لم تقل بعد ما تريد قوله وتظل تلهف وراء هدف يبتعد كلما اقتربنا منه.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: عبدالله الغذامي الغذامي
إقرأ أيضاً:
الدبيبة ينعى المفكر نجيب الحصادي: فقدت ليبيا علماً من أعلام الفكر والفلسفة
نعى رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة، ببالغ الحزن والأسى، المفكر والفيلسوف الليبي البارز الأستاذ الدكتور نجيب الحصادي، الذي وافته المنية بعد مسيرة حافلة بالعطاء العلمي والفكري، ترك خلالها بصمات عميقة في المشهد الثقافي والأكاديمي الليبي والعربي.
وفي بيان رسمي، قال الدبيبة: “بقلوب يملؤها الأسى ويعتصرها الحزن، نودّع اليوم أحد أعلام الفكر والفلسفة، الأستاذ الدكتور نجيب الحصادي، ابن مدينة درنة الزاهرة، الذي أنار بعقله وقلمه دروب العلم، فكان منارة لبث الوعي الأخلاقي والعطاء العلمي بقيمه النبيلة ومُثله السامية”.
وأضاف رئيس الحكومة أن الراحل “أثرى بمؤلفاته وترجماته البديعة المكتبة الليبية، ونشر هويتها الثقافية بكل فخر بين كتاباته الأصيلة، كما شهدت له الجامعات ومجمع اللغة ببعد النظر، وصدق الكلمة، وأثره العميق في المشهد الأدبي والنقدي”.
وتقدم الدبيبة بأصدق مشاعر العزاء والمواساة إلى أسرة الفقيد، وتلاميذه، ومحبيه، وإلى الوسط الثقافي الليبي، الذي اعتبره “فقد ركنًا رشيدًا من أركانه”.
وختم البيان بالدعاء للراحل بالرحمة والمغفرة، قائلاً: “سائلين المولى عزّ وجل أن يتغمّده بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جناته، إنا لله وإنا إليه راجعون.”
ويُعد الدكتور نجيب الحصادي من أبرز الأسماء الفكرية في ليبيا والعالم العربي، وله مساهمات متميزة في مجالات الفلسفة، الأخلاق، مناهج البحث، والترجمة العلمية، وتخرّج على يديه آلاف الطلبة، وشارك في تطوير المشهد الأكاديمي من خلال مؤلفاته ومحاضراته، وعضويته في هيئات علمية ولغوية مرموقة.