#سواليف

وصلت الرسالة: بضـربة حجر وبعضّة كـلب

#الشيخ_كمال_الخطيب

رسالة حبيب

مقالات ذات صلة شهيدان وجرحى بقصف إسرائيلي على وسط مدينة غزة 2024/07/26

قبل إذ دخلت التقنيات الحديثة على الناس في كل تفاصيل حياتهم، فأصبح الشخص ليس أنه فقط يكلم شخصًا آخر فيسمع صوته، وإنما هو يرى صورته. وأصبح الشخص يكتب للآخر رسالة ينقر حروفها على جهاز لا يزيد حجمه عن كفّ اليد، وإذا بالجواب يصله من أقصى الأرض بأسرع من لمح البصر كتابة أو صوتًا أو صورة.

قبل هذه الطفرة التي تجاوزت حدود الخيال، كان ربّ الأسرة إذا خرج لسفر بعيد من أجل العمل، أو الابن إذا سافر طلبًا للعلم، فكان الزوج يكتب لزوجته وأطفاله رسالة شوق وتطمين، أو كان الأب يرسل لابنه الذي ارتحل لطلب العلم، ففي هذه الحالات وأمثالها، فقد كانت الرسائل تستغرق أيامًا وأسابيع لتصل عبر البريد من بلد إلى آخر بواسطة الطائرات ولعلّها قبل ذلك كانت تصل بواسطة القطارات أو البواخر.

ولأن الرسائل كانت تصل على فترات متباعدة، فكان من تصل إليه رسالة من والد أو ولد أو صديق أو حبيب، كان يقرأ الرسالة أكثر من مرة يتمعن في كل حرف من حروفها، ويقف عند كل كلمة من كلماتها، ويحاول استنباط كل معنى من معانيها ثم يحتفظ بها في مكان خاص بعيدًا عن الأعين ليعود إلى قراءتها بين الفينة والأخرى، بل ولعلّه يضعها عند أنفه لعله من خلاله يشم رائحة الحبيب أو العزيز الذي أرسلها.

فإذا كنا هكذا نتعامل مع الرسائل تصلنا موقعة من حبيب أو صديق أو عزيز، فمن باب أولى أن يكون هكذا تعاملنا مع الرسائل التي تصلنا وتقول لنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، {قُلْ يَا عِبَادِيَ}. إنها الرسائل تصل من الله تعالى عبر آياته في قرآنه الذي وقّع عليه هو جلّ شأنه وتباركت أسماؤه {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ*فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ*لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ*تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} آية 77-80 سورة الواقعة. {وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ*نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ*بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} آية 192-195 سورة الشعراء.

وإذا كنا بالرسائل تصلنا من بشر مثلنا سواء كان أبًا أو أمًا أو زوجًا أو صديقًا فإننا نستأنس بها ونثمّنها، بل وإننا نعمل بكل ما ورد فيها من طلبات أو نصائح أو حتى نواهٍ ننتهي عنها لأننا نعلم أنها خرجت من عند محب وصادق وناصح يريد الخير لنا.

فكيف لا يكون تعاملنا بنفس المنطق مع رسائل رب العالمين تصلنا من خلال آيات قرآنه المجيد ونحن نعلم أن الله سبحانه أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا، وأنه لا يريد لنا إلا الخير {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} آية 185 سورة البقرة.

سمعنا وأطعنا

إنهم أصحاب رسول الله ﷺ الذين كانت تتنزل آيات القرآن على رسول الله ﷺ وهم جلوس وبين يديه، فكانوا يتعاملون مع هذه الآيات أنها رسائل مباشرة وشخصية لكل واحد منهم، فكانوا يسارعون للتنفيذ والالتزام والعمل وهم يقولون: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} آية 285 سورة البقرة.

فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وكان ينفق من خالص ماله على رجل اسمه “مسطح بن أثاثة”، فقد كان فقيرًا ومن أقاربه. فلما كانت حادثة الإفك ووقعت بعض الألسن في عرض عائشة رضي الله عنها زوجة رسول الله ﷺ وبنت أبي بكر الصديق ومنهم مسطح بن أثاثة، قال أبو بكر غاضبًا: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال في عائشة ما قال. فأنزل الله في قرآنه: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} آية 22 سورة النور، فما أن نزلت الآيات إلا واعتبرها أبو بكر رضي الله عنه رساله شخصية موجهة من الله تعالى إليه فقال: “بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي. ثم رجع إلى النفقة التي كان ينفقها على مسطح، وقال: والله لا أنزعها أبدًا”.

ولما نزل قول الله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} آية 245 سورة البقرة، فقال أبو الدحداح رضي الله عنه: “يا رسول الله وأنّ الله يريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح فقال أبو الدحداح: أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده وقال: إني قد أقرضت ربي حائطي -بستاني- فيه ستمائة نخلة. وكانت زوجته أم الدحداح رضي الله عنها في البستان، فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح قالت: لبيك، قال: أخرجي فقد أقرضته ربّي عزّ وجل، فقالت: ربح بيعك يا أبا الدحداح، ونقلت منه متاعها وصبيانها.

لقد فهم أبو الدحداح أن تلك الآية كانت كأنها رسالة شخصية ومباشرة من الله تعالى إليه، وكذلك فهمت زوجته، فما كان منهما إلا الاستجابة وسرعة التنفيذ رضي الله عنهما.

وهذا ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه وكان جهوري الصوت، فلما نزل قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} آية 2 سورة الحجرات. فظن أن هذه الآية هي رسالة شخصية من الله إليه لأنه كان جهوري الصوت، وظنّ أنه المقصود بمن يرفع صوته في حضرة رسول الله ﷺ، وراح يقول: “أنا كنت أرفع صوتي فوق صوت رسول الله فأنا من أهل النار وحبط عملي. وجلس في بيته حزينًا لأيام حتى أن رسول الله ﷺ تفقّده بغيابه، فذهب إليه بعض الصحابة وقالوا له: تفقّدك رسول الله ﷺ وظنّ أنك مريض فما قصتك؟ فقال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت رسول الله وأجهر له بالقول، حبط عملي وأنا من أهل النار”. فأتوا رسول الله ﷺ فأخبروه بما قال، فقال النبي ﷺ: بل هو من أهل الجنة. قال أنس بن مالك راوي الحديث: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما كان يوم اليمامة كان بيننا بعض الانكشاف فجاء ثابت بن قيس بن شماس وقد تحنّط ولبس كفنه وقال: بئسما تعودون أقرانكم فقاتلهم حتى قُتل رضي الله عنه.

الرسالة في ضربة حجر وعضة كلب

لم يكن فهم الصحابة رضي الله عنهم لآيات القرآن الكريم فقط أنها رسائل من الله تعالى إليهم، وإنما هم الذين صفت نفوسهم حتى أنهم كانوا يعتبرون من كل شيء ويراجعون أنفسهم في كل أمر. فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد كان في موسم حج وهو يرمي الجمرات، فكان أن أصابه حجر رماه أحد المسلمين نحو الجمرات فأصاب رأس عمر فشجّه، فليس أن عمر قد غضب وسأل عن الفاعل ليوبخه، فهو لم يفعل هذا أبدًا، وإنما اتهم نفسه وقال: “ذنب بذنب والبادي أظلم”.

ومثل عمر رضي الله عنه وسيرًا على دربه ونهجه في فهم الرسائل الربانية إليه حتى لو لم تكن آيات تتلى، فها هو عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي يقول: “اعتلّ -مرض- أبو زرعة الرازي فمضيت مع أبي لعيادته، فسأله أبي عن سبب هذه العلة، فقال: بتّ وأنا في عافية فوقع في نفسي أني إذا أصبحت أخرجت ما أخطأ فيه سفيان الثوري -يقصد أنه سيحصي المواقف والأقوال والفتاوى التي أخطأ فيها العالم الجليل سفيان الثوري وينشرها بين الناس-، فلما أصبحت خرجت إلى الصلاة وفي دربنا كلب ما نبحني قبلها قط ولا رأيته عدا على أحد، فعدا عليّ فعقرني وحُممت – أصابتني الحمى- من أثر عضة الكلب، فوقع في نفسي أن هذا لما وضعت في نفسي عن سفيان الثوري فأضربت فاقتنعت فإن ذلك الرأي”.

وإذا كان كلب أبي زرعة مأمورًا من الله تعالى وقد فعل ما لم يفعله من قبل بعضّ أبي زرعة لتكون رسالة له لترك ما سبق ونوى فعله من فعل سيء، فإن كلاب جيش إسرائيل قد دُرّبت ولا تُؤمر من الجنود الذين يصطحبونها إلا بالعضّ ونهش الأجساد وتمزيق لحوم الآدميين، حتى لو كان هؤلاء كحالة امرأة عجوزًا تجاوزت السبعين وهي “دولة الطنانة” أو طفلًا وبه إعاقة عقلية وجسدية كحالة “محمد صلاح بَهار”، وكما حصل ويحصل مرارًا وتكرارًا بحق أبناء شعبنا في غزة في هذه الأيام.

وكأن القرآن ينادي عليك

فإذا كان أصحاب رسول الله ﷺ قد تعاملوا وفهموا أن آيات القرآن الكريم كأنما هي رسائل شخصية من الله تعالى إليهم، فكان جوابهم على تلك الرسائل، سمعنا وأطعنا. فهل نحن في هذا الزمان نقرأ القرآن ونعيشه بشعور أن الله تعالى يخاطبنا وأن كلامه وآياته المباركة موجهة إلينا، وأنها رسائل شخصية ومن وقّع عليها هو سبحانه؟

فهل إذا قرأت قول الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} آية 134 سورة آل عمران، قلت في نفسك إن الله يريدني أن أكظم غيظي وأن أعفو عمن ظلمني، سمعنا وأطعنا سأفعلها يا رب وإني عفوت.

وهل إذا قرأت قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} آية 11 سورة الحجرات، فقلت في نفسك سمعنا وأطعنا لن أسخر من مسلم بعد اليوم أبدًا.

وهل إذا قرأت قول الله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَٰرِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} آية 30 سورة النور، فقلت في نفسك إن الله يخاطبني ويريدني أنا فلان أن أغضّ بصري سمعنا وأطعنا يا رب.

وهل إذا قرأت قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} آية 143 سورة النساء، فقلت في نفسك أن الله يريدني أن أجعل ولائي خالصًا له سبحانه وللمؤمنين فلن أوالي كافرًا وعدوًا أبدًا.

وما أجمل همسات العتاب وما أصدقها على لسان القرآن كلام رب العالمين، أوردها الأستاذ مجدي الهلالي في كتابه النافع “تحقيق الوصال بين القلب والقرآن،” فلكأن القرآن يناديك ويقول: “هل أستحق منك هذه المعاملة مع أن هدفي إسعادك وإدخال السرور والبهجة على قلبك ومساعدتك على مواجهة الحياة حلوها ومرّها؟! أأكون في بيتك وتهجرني كل هذا الهجر؟! أتسمع آياتي تتلى ولا تنصت لها؟! وحتى حين أكون بين يديك فلماذا لا يصير نصيبي منك إلا حنجرتك؟! أتدري أنني سأشكوك إلى ربك يوم القيامة أنك قد هجرتني وأنك لم تعمل بأوامر الله تعالى فيّ، فها بادر قبل فوات الأوان واجعلني حجّة لك لا عليك”.

هل لك قلب

لأن القلوب هي التي تتفاعل مع آيات الله تعالى التي نزلت في قرآنه {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} آية 28 سورة الرعد، فلا بد لهذه القلوب أن تكون دائمًا على جاهزية لتلقي آيات الله تعالى وتدبرها “الاستقبال” ثم لإصدار الأوامر إلى الجوارح للعمل بمقتضاها “البث”. فالقلب هو الذي يستقبل الرسائل من الله تعالى عبر آياته، وهو الذي يحولها ويبثها لتصبح سلوكًا واستجابة لأوامر الله تعالى، ولذلك لا بد من العناية بالقلب وصيانته لأنه معرّض للصدأ والخلل “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب”. وقال ﷺ: “إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء. قالوا: وما جلاؤها يا رسول الله؟ قال: كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن”. فكيف سيذكر الموت قلب ميت، لذلك لا بد من صيانة القلب والعناية به.

إنه الأمر العجيب أن الرجل إذا لقي أخاه سأله عن أولاده وعن عمله وعن صحته وعن تجارته وقلّما يسأله عن السؤال الأهم، كيف حال قلبك؟ وليس الجواب إذا كان السؤال أن يُقال القلب بخير، وإنما أن ذلك الشخص قد لا يملك قلبًا، وقد قال ابن القيم: “أطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن وفي مجالس الذكر، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجده في هذه المواطن فسل الله أن يمنّ عليك بقلب فإنه لا قلب لك”.

وأنا أزيد على ذلك وأقول: واطلب قلبك عند مآسي المسلمين وجراحهم وآلامهم ودموعهم، أطلب قلبك، كيف حاله مع أربعين ألف شهيد ومائة ألف جريح وعشرة آلاف مفقود ومليوني مهجّر ومشرّد في غزة. واطلب قلبك عند مشاهدة طفل لا يجد شربة ماء، وعند مريض لا يجد حبة دواء، وعند امرأة لا تجد الثوب والكساء. فإذا كان هذا كله، بينما قلبك يتمتع وهو عطشان وفيه متسع للطرب وجوعانوفيه متسع للكيف والاستمتاع فاعلم أنه لا قلب لك، فابحث عن قلبك واسأل الله أن يعافيك.

نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.

رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

المصدر: سواليف

كلمات دلالية: سواليف الشيخ كمال الخطيب من الله تعالى إلیه رضی الله عنه رسول الله ﷺ فی نفسک إذا کان ا أبد ا من أهل

إقرأ أيضاً:

ثبات غزة يقهر الطغيان ويغيظ العدى

سالم البادي "أبو معن"

بادئ ذي بدء نعرج على مفهوم الطغاة والطغيان في اللغة قبل أن نشرع في المقال.. ففي معاجم اللغة العربية: طَغَا، يَطْغُو، مصدر طَغْوٌ، طُغْوَانٌ .. وطَغَا الْحَاكِمُ: تَجَاوَزَ الْحَدَّ، تَجَبَّرَ، جَارَ... والطّاغُوتُ: الطاغي المعتدي، أو كثيرُ الطغيان.. والطّاغُوتُ: طاغية ظالم ومعتدٍ غاشم.

الطّاغُوتُ: كل ما عُبِدَ من دون الله، من الجن والإنس والأصنام في التنزيل العزيز: {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوتِ ويُؤْمِنْ باللهِ فَقَدِ استمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى} (البقرة: ٢٥٦).

إذا الطاغوت أو الطاغية هو كل حاكمٍ متكبرٍ، متجبرٍ، متغطرسٍ، ديكتاتوري؛ يحكمُ الناسَ بالحديد والنار؛ ويفرض حكمَه على الناس بقوةِ السلاح، ويحكمُ الناسَ بالظلمِ، والاستبدادِ، والطغيانِ.

قال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} (المائدة: ٦٠).

لقد حذرنا الله تعالى من الطغيان في أول آيات نزلت في الكتاب: {كلا إن الإنسان ليطغى*أن رآه استغنى*إن إلى ربك الرجعى} (العلق: ٨،٧،٦).

بالرغم من عاقبة الطغاة في الدنيا والآخرة كما وضحها لنا ديننا الإسلامي الحنيف وأثبتتها أحداث ونهاية الأمم التي خلت، تجد أن زماننا مليء بالدهماءِ، والغوغاءِ الخانعين الراضخين المنبطحين للطواغيت.. يمجدونهم، ويعظمونهم، ويطيعونهم في كل شيء، حتى لو أمروهم بدخول جُحرِ ضبٍ لدخلوه، أو أمروهم بقتل أنفسهم لقتلوا أنفسهم.

بل أشرُ وأخزى من ذلك! تجد أن هؤلاء الفئة يدافعون بكل قوةٍ وشراسةٍ عن الطغاة؛ بل ويتعاونون معهم؛ ويحبونهم، ويعشقون تقبيل أرجل طواغيتهم، ويعلنون الولاء الكلي لهم؛ بل ويتجسسون على أهلهم، وأقربائهم، وأصحابهم -الذين لا يزال لديهم مسحة من العزة والكرامة- فيصبحون طاغوتيين أكثرَ من الطاغوتِ.

ومن الأمورِ العجيبةِ والغريبةِ التي تجعلُ الإنسانَ محتارًا ومذهولًا، أن تُصبحَ الضحيةُ تعشقُ جلادَها؛ وتساعدَه وتعاونَه على سلخِ جلدِها؛ وهي ضاحكةٌ مستبشرةٌ!!!

ولو أن هؤلاء الخانعين رفضوا الانصياعَ لأوامر الطغاة، واستيقظت ضمائرهم، وأحسوا بحلاوة العزة والكرامة وشعروا بلذة الحرية من التذلل لعبيدٍ أمثالهم، وفروا من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد...لأبادوا الطواغيتَ، ومحقوهُم من الوجود، كما حصل مع المسلمين الأوائل، الذين استطاعوا بقوة العبادة لرب العالمين، أن يقتلوا طواغيت قريش، وطواغيت فارس والروم؛ ويحرروا العبيد من أسار العبودية لطواغيتهم.

بسبب أن الشعوب هم مصدرُ الطواغيت، فقد قال ابن خلدون في مقدمته المشهورة: «لو خيّروني بين زوال الطغاة أو زوال العبيد، لاخترت بلا تردّد زوال العبيد، لأنّ العبيد يصنعون الطواغيت ولا يبنون الأوطان».

لا يولد الطاغي طاغية من بطن أمه، ولكن الشعوب هي التي تصنع طغاتها بنفسها، وذلك بإطاعتهم العمياء، ومؤازرتهم على الظلم، والسكوت عن الحق، وغيرها من الأمور التي تحسسهم بأنهم جبابرة متسلطين.

وفي الحقيقة هم أقل ثقافة وعلما ومكانة من الآخرين، وربما يكونوا أشباه الرجال، والشعوب هي المسؤولة عن وضعهم في هذه المناصب وتسليمهم السلطة والقيادة.

أليست الشعوب هم من جعلوا من الخونة والعملاء أمناء ومسؤولين...؟؟ أليست الشعوب من جعلت من الأقزام عمالقة وزعماء...؟؟ أليست الشعوب من جعلت من المرتزقة والإرهابيين مقاما وشأنا...؟؟ ألا تعلم الشعوب بأن الطغاة المستبدين هم سبب هزيمتهم وذلهم وخنوعهم وتشردهم وتجويعهم وفقرهم.!! ألم تستوعب الشعوب الدروس والعبر وتصحو من غفلتها وسباتها العميق...؟؟

ما زالت الشعوب تصفق وتهتف للطغاة، والإعلام المزيف يقدس ويمجد لهم، ويكذب ويلفق الأكاذيب، ويزور الحقائق.

بيد أن الطاغية يُصنع له مجدا وتاريخا مزيفا عن طريق المتملقين والمتسلقين والمنتفعين والانتهازيين، ورجال باعوا مبادئهم وقيمهم وأخلاقهم، وخانوا أوطانهم وشعوبهم من أجل إرضاء الطاغية.

نرى في عالمنا المعاصر الطغاة راسخين على عروشهم، فإذا سقط أحدهم خلَّفه على الفور طاغية آخر أسوء منه.. وكأن الطغيان يعيد إنتاج نفسه.

منذ فجر التاريخ وهناك حكام وملوك طغاة جبارون، حاربوا دعاة الإصلاح وأهل الإيمان في كل ملة ودين، وقد كان الرسل وأتباعهم، أول من تعرض للمحاربة والعداوة من هؤلاء، ولكنهم صبروا على ذلك، وطال صبرهم، حتى ظن البعض منهم أن ملك هؤلاء الطغاة لن يزول أبدا، وأنه قد مكن لهم من أمر الدنيا، وقد مدَّ الله في طغيانهم حينا من الدهر {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (البقرة: ١٥]، حتى ازدادوا إثما، ثم انتقم منهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ومكن للرسل وأتباعهم في الأرض.

ل قد حمل القرآن الشعوب المسؤولية، فقد عاقب الله تعالى تلك الأمم بالقوارع، فأهلك قوم نوح بالطوفان، وعاد بريح صرصر في يوم نحس تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر، وثمود بالصيحة مشرقين وجعل عاليها حجارة من سجيل، وقوم شعيب أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، وأهلك فرعون وقومه بالغرق ومن قبل بالسنين ونقص الثمرات، وبالجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والرجز.

إلا أنه جلَّ وتعالى شرع بعد ذلك الجهاد لقتال أهل البغي والطغاة، وأمر بالتصدي لكل متكبر جبار، يعادي الحق وأهله.

يجب على الشعوب أن تقف عند استلهام الدروس والعبر والعظة من مصير هؤلاء الطغاة، والتصدي لهم بكل الوسائل المشروعة وترسيخها في نفوس وأذهان الاجيال.

 يقول الشاعر الخالد أبو القاسم الشابي: إذا الشعب يوما أراد الحياة .. فلا بد أن يستجيب القدر… ولا بد لليل أن ينجلي .. ولا بد للقيـد أن ينكسـر

ولا يفوتنا أن نذكر أحد طواغيت هذا العصر، تثبيتا لإخواننا المجاهدين في فلسطين وخاصة غزة، ألا وهو "شارون" الذي وصل به الحال أن يتعفن وهو حي، وتلك نهاية الطغاة وإن بدت نهاية متميزة تليق بتاريخه الدموي المشحون بالجرائم والمذابح، كانت كل حياته ملوثة بدماء الأبرياء، وسيرته مكتوبة بأنين الضحايا ودموع الثكلى وعذاب الأسرى، وصرخات المعذبين والمقهورين، وكانت أبشع جرائمه طحن عظام أطفال فلسطين، وتلك جريمة تميز بها شارون بين كل طغاة التاريخ، فاستحق من أجلها تلك النهاية المتميزة، حيث تحول جسده إلى صديد، وأيام حياته الأخيرة إلى ألم ربما تتضاءل أمامه آلام النمرود.

هكذا نرى عدو الله والإسلام "شارون"، سفاح صبرا وشاتيلا، وجزار جنين وقد جعله الله عبرة وعظة للعالمين، فمن جلطة في المخ إلى شلل تام في أطرافه كلها، بحيث لا يستطيع أن يحرك حتى جفون عينيه، وهو الذي قاد الجيوش واكتسح سيناء ولبنان وذبح الأسرى المصريين، وهو الذي كان يتحكم في مصير الدول، وكما سقط طغاة وجبارون سقطت أمم وأنظمة، ففي بضع سنوات من تاريخ الإنسانية سقطت أشهر النظم الديكتاتورية في العالم في الاتحاد السوفيتي وفي رومانيا وفي بولندا والمجر وصربيا وتشيكوسلوفاكيا وفي بلغاريا وألبانيا، فالباطل لن يدوم وإن طال بقاؤه حينا من الدهر.

وهذه هي "غزة" المحاصرة المجاهدة المقاومة الصابرة تضرب أروع الملاحم الأسطورية في الحروب، وتبرهن للعالم معنى الصمود والرباط والثبات والكفاح والجهاد من أجل الحرية.

وهنا مفارقة غريبة وكأن الزمان يعيد نفسه... فهذا الطاغية السفاح "نتنياهو" يصف شارون بأنه طاغية ومستبد في انتخابات حزب الليكود عام ٢٠٠٥م، وجاء "طوفان الأقصى" ليسقي الطاغية السفاح نتنياهو من نفس كأس "شارون" وكأنه يخلفه في طغيانه وجبروته وبشاعة حربه الصهيونية على قطاع غزة.

على مدار أكثر من ٢٢ شهرا وهذا الطاغية السفاح المستبد المجرم الفاسد " نتنياهو" المطلوب جنائيا من قبل محكمة جرائم الحرب العالمية، وقضايا فساد يقع في قعر الطغيان، والطغاة على أشكالها تقع".

هذا الطاغية المستبد المجرم "نتنياهو" يدخل التاريخ من أوسع أبوابه ويسجل اسمه في سجل أكبر مجرم وطاغية وظالم وفاسق وفاسد وقاتل وحارق الأطفال والنساء والشيوخ في عصرنا الحديث، ومطلوب للعدالة.

وإننا مؤمنون بالله عزوجل، وليس لدينا أدنى شك بأن نهاية "الطغاة والطغيان" حتمية طال الزمن أو قصر.

المجرم الطاغية "نتنياهو" لا يعلم من أين سيأتيه انتقام الله تعالى، فجنود الله تعالى كثيرة ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُو﴾ وأخذ الله تعالى أليم.

قال تعالى: ﴿فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (العنكبوت:٤٠)، وسينتقم الله من المجرمين الطغاة بعزَّته وجلاله: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (السجدة:٢٢).

جرائم الصهاينة المحتلين الطغاة في "غزة" لن تمر مرور الكرام، وسيلقى كل مجرم وطاغية وظالم وعميل وخائن مصيره في الدنيا والآخرة، قال تعالى: }فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ{ (المعارج: 42).

أخيرا... ثبات أهل غزة لا يمكن تفسيره بأنه ثبات من عند أنفسهم؛ ولكنه تثبيت من الله تعالى لهم، أو كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} (محمد: ٨ - ١١).

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • ما هي سورة الاستجابة؟.. تصعد بدعواتك إلى السماء بسرعة البرق
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (رصف الدخان)
  • أنوار الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
  • هل يجوز قضاء السنن الرواتب لمن فاتته؟.. الإفتاء تجيب
  • علي جمعة: الخطأ من شيم النفس البشرية وعلى المسلم أن يتوب ويتسامح مع نفسه والآخرين
  • الإفتاء: القلب السليم أصدق من صورة الطاعة أو المعصية
  • لماذا سميت سورة يس بقلب القرآن؟.. 10 أسباب لا يعرفها كثيرون
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (نحن…)
  • أفضل سورة للرزق بعد صلاة العصر.. اقرأها الآن لتودع الفقر والشقاء
  • ثبات غزة يقهر الطغيان ويغيظ العدى