حرارةُ القيظ، وحُمّى كون سائر إلى فسادٍ، وقيم إنسانيّة تتهاوى وتتساقطُ، وعالمٌ يخطو إلى الفساد والانحلال، وأخلاقٌ قالت فيها الأديان وبَنَت صروحَها الفلسفاتُ، وتسمّت، واتُّفق على حدودها الإنسانيّة، فهَوت كما لم تكن.
عالمٌ يسود فيه الغباءُ وحبُّ البقاء لأشلاءِ البشر، عالمٌ فَقَد الرّوحَ والضمير، سقطت فيه الإنسانيّة وتحوّل إلى إظهار وجهه العنصريّ المادّي الفجّ.
بعيدا عن هذا وقريبا منه، لوحةُ «العشاء الأخير»، هل تكون الشعرة التي تقصم ظهر البعير؟ ما بشّر به إيمانويل تود في كتابه «نهاية الغرب» (وهو كتابٌ وددتُ لو أنّ العرب تنبّهوا له وأسرعوا بالتعهّد بنقْله إلى اللّغة العربيّة)، الذي أثار فيه سقوط الغرب وبلوغه درجة الصفر عقديّا وأخلاقيّا واقتصاديّا، نظرًا في عوامل عديدة يسّرت هذا السقوط، لعلّ أهمّها التخلّي عن الأرضيّة الدينيّة نهائيّا، والإفراط في الإعلاء من قضايا جانبيّة، هامشيّة، تُصبح - بفعل أثر الغرب - قضايا أساسيّة، ومحدّدة للذات البشريّة، مثل النسويّة والمثليّة والتحوّل الجنسي.
«لوحة العشاء الأخير» الساخرة التي عرضتها فرقةٌ في افتتاح الألعاب الأولمبيّة في باريس، هي تجسيدٌ لهذا السقوط الغربي المدوّي، يظهر ذلك في أنّها تسهم في إثارة ثلاثة مسائل رئيسة، الأولى: أنّ الهامشيّ، الثانويّ يُصبح أساسيّا ومُحدّدا، ففي السنوات الأخيرة صارت قضايا المثليّة والجنوسة والجندرة والتحوّل الجنسي والهويّة الأجناسيّة، قضايا أساسيّة والحال أنّها قضايا وهْميّة، تُخرج الإنسانية عن سياقها. رأيي الذي أحافظ عليه وأدافع عنه أنّ الغرب يُحدّد لنا دومًا مسار مباحثنا وقضايانا، والحال أنّه آن الأوان لنحدّد سبيلنا ونضبط رهاناتنا الأصليّة، التي حتمًا ليست ماثلة في إحلال العدل في إسناد ضميرٍ لا يُميّز بين المرأة والرجل والبين بين، وليست حتمًا، في تقبّل المتحوّل الجنسي، وليست حتمًا في التعامل مع المثليين بقداسةٍ، فأنا أنكر فعل التحوّل الجنسي، وألفظ وأرفض المثليّة، وأحافظ على الضمائر المشيرة إلى المرأة، والضمائر المشيرة إلى الرجل، ولا أرى فيها تمييزا عنصريّا كامنًا في اللّغة، ولا ينبغي أن تُوجِد اللّغة للمتحوّل ضميرا يجمعني به، فهو نشازٌ، شاذٌّ، لا يُقبَر، ولا يُقتَّل، ولكن لا أطوِّع اللّغة له، ولا يُقاسُ عليه، مثله مثل كلّ الظواهر الشاذّة في الكون. المسألة الثانية، تتمثّل في أنّ إعطاء مساحة للشاذّ ليكون في افتتاح تظاهرة عالميّة، هو فعلٌ خارجٌ عن السِّياق، ففي العادة، هذه المناسبة تُبرز ثقافة البلد المنظّم، وأصولها، وتحتفي بالإنسانيّة، وتدعو إلى التسامح، وإلى الحلم بعالمٍ أجمل. فهل أنّ ثقافة البلد وأصولها ماثلة في عصابةٍ من المثليين والمتحوّلين، يأخذون مشهد الافتتاح، ويتصدّرون لتقديم رسالةٍ إلى العالم، مفادها، نحن هنا، ونحن صورة البلد ومثال الرياضي؟، أيُصبح الفعل الخلل، الخارج عن الطبيعة، الاستثناء، الهامشي، هو الأصلُ؟ وما هي الرسالة التي قدّمها هؤلاء؟ وبأيّ حقّ تُفْرَضُ على الوجود البشريّ إلزاما وإكراهًا مشاهد وآراءُ الشواذّ؟ ألم يجد منظّمو الألعاب الأولمبيّة (الذين اعتذروا من بعد ذلك على اللوحة) في فقْد الإنسان لمعنى وجوده، في قتْل الأطفال في العالم، في عمالة الأطفال في دول شرق آسيا، في انتشار الجوع، في هيمنة تجارة القتْل، معنى يُمكن أن يكون فاتحةَ رسالة لعالمٍ يفقد قيمه؟ المسألة الثالثة قيميّة، أخلاقيّة، ذلك أنّ لوحة «العشاء الأخير» حاملة لرمزيتين، رمزيّة فنيّة، إذ هي من أشهر الجداريّة في الكون، وقد رسمها الإيطاليّ ليوناردو دافنشي ما بين 1495 و1498، فاللّوحة لها رمزيّة فنيّة تاريخيّة، وقد أسهمت في بعْث أعمالٍ روائيّة، لعلّ أشهرها رواية «شفرة دافينشي» لدان براون، والفلم الحامل لنفس العنوان الناتج عنها.
والسخريّة من الأعمال الفنيّة التاريخيّة ممكنة ومشروعة، ولكن ما الرسالة؟ إضافةً إلى منزلة المشهد دينيّا، وما يُعبّر عنه «العشاء الأخير» من رمزية مسيحيّة، فيه يكون لقاء السيّد المسيح برُسله وإعلانه أنّ أحدًا منهم سيخونه، فإعادة تجسيد هذا المشهد المسيحيّ الاعتقادي من قِبَل شواذّ، ساخرون، هو انحطاطٌ أخلاقي، فيه عدم تقدير وفلّة الاحترام للدين. ولقد تعلّمنا نحن المسلمين، أنّ نُجلّ كلّ صاحب عقيدة، وإن كان مختلفا عنّا. الإشكالُ الحاصلُ اليوم، والذي يهرب من مواجهته مثقّفونا مخافة الإقصاء أو الاتّهام بالعصبيّة الدينيّة، أنّ العالم يسعى إلى تغليب فكر الشواذّ، ويجعل تقديرهم واحترامهم والإعلاء من شأنهم مسألة مقدّسة، فتحوّلنا إلى إرهاب الأقليّات، وإن صدحت بمثل هذا الموقف كنت رجعيّا غير مدنيّ، كنت متعصِّبا، قادما من عصور الظلام! أنا ضدّ استبداد قضايا الأقليّات، ومع حقوقهم في الحياة، بالنسبة إليّ، النسويّة هي إعادة الاعتبار للمرأة، رفع المظالم التاريخيّة عنها، إحلالها منزلتها الطبيعيّة في الوجود، وما أحوج المرأة العربيّة إلى هذه الحرب، قضايا العنصريّة اللونيّة، ولا يجب أن يكون هنالك تمايز لونيّ أو عرقي أو عنصري، هذا فكري واعتقادي، ولكن ما صار غالبا اليوم من قضايا جندرية وجنوسيّة ومن إرهابٍ للأقليّات الجنسيّة المختلفة، حبلٌ يمدّه الغرب ليختنق به، ولا يجب أن نختنق به، مع الأسف نحن ضالّون، مضِلّون، أجرينا رؤيةَ الغرب على التمايز الجنسيّ و الأجناسيّ، وأخذنا الحداثة دون مراجعةٍ، حداثة الغرب، سمٌّ في عسل.
في ظلّ هذا الجدل المحتدم على الصعيد الثقافي الذي ساد هذا الأسبوع كنت أمنع نفسي من قطْعِ سلسة مقالاتي عن أوّل القصص، ونأيتُ بنفسي عن الدخول في اللّغو الدائر حول الرواية الجزائريّة «هوّاريّة» للباحثة والجامعيّة والروائيّة إنعام بيّوض، فإذا بالعالم يهتزّ لمشهد لوحة «العشاء الأخير»، فقطعتُ سلسلة مقالاتي، وقلتُ، يا ربّ نظلّ في مثل هذا الجدل «المتخلّف» الذي يُنكر فيه البعض رواية لأنّها مسّت بطهريّة مدينة أو بلد أو أوهمت بإحالةٍ إلى واقع، فأنا لا أقدر أن تُقْصى كتاباتي لأنّي قلتُ «هو» أو «هي»، وسأحافظ على تخلّفي وإن كره العالم الغربيّ ذلك.
محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العشاء الأخیر ل الجنسی
إقرأ أيضاً:
تواكُلُ المعارضة التونسية على الغرب.. إعادة إنتاج العجز في خطاب جديد
ترتفع الأصوات في تونس في نهاية العام 2025 ضد قيس سعيد إلى حد استعادة الشعار العظيم "الشعب يريد إسقاط النظام"، لكن مع أصوات الداخل نرى عيون المعارضة ترنو إلى الغرب وتنتظر خيرا من مقال هنا وتصريح هناك، فقيادة الصف الأول الغربية لم تنبس بكلمة. وهذا الأمل في إسناد غربي نسميه بلا مورابة" العاهة السياسية المستديمة للمعارضة. فكلما عجزت المعارضة عن خلق التغيير من الداخل، رفعت رأسها نحو الخارج، نحو الغرب تحديدا، طلبا للخلاص. هذا السلوك ليس طارئا ولا وليد لحظة قيس سعيّد، بل هو متجذر في عقل المعارضة تجذر العادة. فالمعارضة حين ترغب في ربح الوقت ترنو خارج الحدود، كأنّ الديمقراطية وجبة جاهزة يأتي بها "ديلفيري".
ما نراه في تونس هذه الأيام هو فصل جديد من هذه الرواية القديمة، رواية التعويل على الضمير الغربي المتخيّل، الذي تُعزى إليه صفات لم يثبت يوما أنه تبناها فعلا (نصير الديمقراطية وحامي الحريات والداعم لانتقال سياسي متوازن). غير أن الوقائع تكشف دوما عن مفارقة مدهشة، هذا الغرب الذي تراهن عليه المعارضة التونسية هو ذاته الذي يُبقي قيس سعيد في موقعه، لا تعاطفا مع مشروعه السياسي، بل لأن له فائدة وظيفية محددة في زمن عولمي تتقدّم فيه الحدود على الإنسان، والأمن على الحرية، والمصلحة على المبادئ. لقد أصبح سعيد بعد ترتيباته مع إيطاليا حارسا أمينا لبوابة أوروبا الجنوبية؛ رجلا يُقدّم للغرب ما يريده من مثله (لن يعبر الأفارقة البحر)، وما دام هذا الالتزام قائما، سيظل الرجُل مقبولا، مهما ارتجّت المؤسسات الديمقراطية وتداعى البناء من الداخل.
المعارضة التونسية: وهن القدرة ورومانسية الاستعاضة.
إن السؤال المركزي هنا ليس حول مواقف الغرب، بل في بنية المعارضة نفسها؛ لماذا تلجأ إلى الخارج كلّما عجزت عن الفعل الداخلي؟ يبدو أنّ المشكلة أعمق من اللحظة السياسية الراهنة، إنها مشكلة القدرة على التنظيم الاجتماعي لا القدرة على الخطابة. لقد عايشتُ المعارضة التونسية فوجدتها بارعة في البيانات، تتقن صياغة التوسل والرجاء، لكنها لم تملك أبدا القدرة على بناء شبكات اجتماعية تعبّئ الجمهور المسكين، فتحوّل غضبه وخيباته إلى وقود معركة سياسية منصفة. إنّها معارضة تتقن الكلام في المصادح أكثر مما تتحرك في الشارع، معارضة تُنتج مواقف ولا تصنع وقائع، تُقيم حجتها على النص لا على القوة الاجتماعية.
وهنا تتجلى المفارقة، المعارضة تطلب دعما خارجيا بينما لم تقم بواجبها الداخلي، وكأنها تجهل الوظيفة الأولى للسياسة أن تبني كتلة اجتماعية حيّة قبل أن تطلب شرعية أو دعما من الخارج. لدينا قناعة تزداد رسوخا ونحن نتابع تحركات المعارضة التونسية المشتتة، إن السياسة ليست خطابة وشعارات في مظاهرات ميكروسكوبية بل توازن قوة على الأرض. من لا يمتلك الناس، لن يمتلك التاريخ، ولن يسمعه الغرب إلا بقدر ما يخدم مصالحه. وامتلاك الناس/ الشارع طريقه مكشوفة، ولكن المعارضة تتعامى عنها وتنتظر النجدة.
التاريخ يعيد نفسه بلا خجل
من حقبة بورقيبة إلى حقبة بن علي والآن مع قيس سعيد؛ يتشابه المشهد وإن تغيّرت الوجوه. هذا لا يشير فقط إلى فشل سياسي، بل إلى عجز بنيوي في الخيال الاستراتيجي للمعارضة؛ وكأنها لا تتعلم من التاريخ لأنها لا تعتبره مصدر معرفة، بل خزانا للندب والعويل. إنّ السلوك السياسي الذي لا يتغير أمام الخيبة المستمرة، لا يسمى إصرارا أو مبدأ، بل يسمى مرضا معرفيا. المعارضة التونسية لا تكفّ عن تكرار الرواية نفسها بانتظار نتيجة مختلفة؛ وهذه علامة كلاسيكية على أن الوعي السياسي لم يُجرِ نقدا جذريا لذاته، النقد الذي يتجاوز التكتيك إلى سؤال البنية لماذا لا نُنتج قوة؟ لماذا نُعلّق فشلنا على الخارج ثم ننتظر منه النجدة؟
الغرب ليس نبيا ديمقراطيا بل قوة مصلحة
تُهمل المعارضة التونسية معادلة بسيطة في وضوحها مفادها أنّ الغرب ليس ذاتا أخلاقية بل جهاز مصلحي، والديمقراطية ليست مبدأ مطلقا عنده، بل سلعة، وأداة، وخطاب جاهز للاستخدام حين تنسجم نتائجه مع مصالحه الاستراتيجية. وما دامت تونس اليوم تؤدي وظيفة حراسة الحدود، فهي شريك لا عبء، وشريك لا يزعج إلا عندما يتجاوز دوره. بل يمكن القول بوضوح، تونس في هذه اللحظة ليست دولة، بل سياج بشري يحمي أوروبا من الجنوب. هذه الحقيقة التي تعرفها المعارضة جيدا، لكنها تتغافل عنها لأنها تفضّل التعلّق بأمل خارجي هلامي بدل مواجهة سؤالها الأصعب: كيف تصنع قوة في الداخل؟
الغرب لا يتدخّل لإسقاط سعيّد لأن إسقاطه يفتح حدودا، يعيد حركة الأفارقة نحو البحر، يخلق فوضى سياسية قد تجبر أوروبا على تحمل ما لا تريد. لذلك، فدعم الديمقراطية في تونس بلغة المصالح ليس أولوية، الأولوية الغربية هي الاستقرار الأمني ومنع الهجرة غير النظامية، وهي أدوار يقوم بها قيس سعيد دون كلفة كبيرة على الشركاء الأوروبيين. لماذا يتخلى الغرب عنه إذن؟ ومقابل ماذا؟
إنّ السياسة في النسخة الغربية ما بعد 2015 واضحة جدا، الحدود أولا، ثم نرى. ومن يضمن الحدود يضمن الدعم، ومن لا يضمنها، لن تنفعه الصور في مؤتمرات المعارضة ولا المقالات التي تُنشر في جريدة لوموند.
التواكل السياسي: بنية نفسية قبل أن يكون خيارا استراتيجيا
يمكن فهم هذا التواكل من زاوية سوسيولوجية أيضا المعارضة التونسية (كغيرها من معارضات عربية يقيم كثير منها في عواصم الغرب نفسه ويحظى باللجوء السياسي) لم تتربّ في حضن الثقة الشعبية، بل في حضن المثقفين والصحافيين والدوائر النخبوية. إنها تعيش داخل الفضاء الرمزي أكثر من الفضاء الاجتماعي، لذلك، حين تكتشف عجزها عن التعبئة، تبحث عن سند بديل. الخارج هنا ليس فقط خيارا سياسيا، بل تعويضٌ نفسي عن غياب القدرة الداخلية. الخارج يُشعرها بأنها لا تزال فاعلا، حتى ولو كان الفعل ورقيا، لغويا، رمزيا.
هذا ما يفسّر ازدهار البيانات، والندوات، والرسائل الموجهة للأصدقاء الديمقراطيين ولمنظمات حقوق الإنسان. المعارضة تصنع حدثا لغويا، لا حدثا سياسيا، تكوّن حضورا خطابيا بديلا عن حضورها الميداني، إنها تُراكم الكلمات لأنها لا تملك الأرض.
الأسباب التي جاءت بسعيّد لا تزال قائمة
لا يبدو المشهد التونسي اليوم غريبا إذا ما استُحضر عمق الانقسام التاريخي داخل المعارضة نفسها. فالأسباب التي جاءت بقيس سعيّد إلى الحكم لم تتغير، بل ما تزال تُنتج أثرها بهدوء. هذه معارضة ممزقة على أسس استئصالية، تحكمها ذاكرة الصراع أكثر مما يحكمها وعي المصلحة العامة. إنّ التيار الحداثي أو اليساري لا يزال يعتبر الإسلاميين كيانا رجعيا ظلاميا لا يُعقد معه ميثاق ولا تُكتب معه صفحة جديدة، حتى وإن كان هذا الرفض يكلّف البلاد انسدادا سياسيا طويلا. لقد أسقطوا حكومة النهضة حين كانت فرصة التعايش ممكنة، ثم شكرهم الغرب بجائزة نوبل للسلام مكافأة على تحويل الخصومة السياسية إلى قاعدة استقرار شكلي. لكن الثمن الحقيقي لهذا الانتصار كان غياب القدرة على الحكم بعد ذلك، وغياب القدرة على المعارضة أيضا.
إنّ الخلل لا يكمن فقط في قصر نظر الغرب أو مصلحته، بل في عجز النخبة التونسية عن تجاوز ثنائيات ما قبل الدولة الحديثة. فالمعارضة التي أطاحت بالإسلاميين بالأمس -بدل أن تُفاوضهم وتُهذّبهم داخل اللعبة الديمقراطية- هي المعارضة نفسها التي تحاول اليوم إسقاط قيس سعيّد دون أن تغيّر أدواتها ولا تصورها للآخر السياسي. إنها تخوض معركة جديدة بذات المنطق القديم (استبعادٌ بدل ائتلاف، قطيعة بدل بناء، إقصاء بدل تعلّم من التاريخ). وهكذا يستمر الوضع من عاش على الاستئصال مات به، ومن رفض الشريك اليوم لا يجد من يشترك معه غدا.
لذلك يمكن القول إنّ سعيّد ليس شذوذا في المسار السياسي، بل نتيجة طبيعية لانكسار توافقي لم يلتئم. هو ابن الفراغ، ابن القطيعة، ابن تلك اللحظة التي فضّل فيها الجميع الانتصار الأيديولوجي على الحلّ السياسي. وما لم تتغير بنية الوعي داخل المعارضة أي داخل المجتمع فإنّ تونس لن تنتج بديلا، بل ستبدّل ألوان الأزمة فقط. فالحكم قد يتغيّر، لكن المنطق المُنتِج للأزمة باقٍ كما هو.
ربما لا تحتاج البلاد اليوم إلى بيانات جديدة بقدر حاجتها إلى عين نقدية تُبصر الجرح لا السكين فقط، إلى معارضة تُصلح ذات بينها قبل أن تحلم بإصلاح السلطة. فإنّ من لم يُجد صياغة تحالف يُحسن فقط صياغة عريضة احتجاج، وإن لم يحدث التحوّل في بنية التفكير، فسيتغيّر الأشخاص وسيبقى الجوهر كما هو يعيد إنتاج نفسه بثبات هندسي لا يفاجئ إلا من لا يقرأ التاريخ.