فى أجواء تستطيع أن تسمع فيها صوت رن الإبرة على الأرض، كانت سيدات وفتيات "نجع عزيز" يتابعن بكل اهتمام قصة الرائدة صفاء إسماعيل سالم، التى وقفت تحكيها أمامهن خلال ندوة "حوار الاجيال" التى تنظمها دوريا فى النجع.


ما جذب انتباه الحاضرات إلى هذا الحد، أن صفاء كانت تحكى قصتها الشخصية مع الزواج المبكر، حين تزوجت فى سن السادسة عشرة من ابن عمتها الذى يكبرها بعشرين عاما، وانتقلت للحياة فى بيت عمتها"بيت أهل زوجها".


نجع عزيز يتبع قرية "الصوامع شرق" بمركز أخميم بمحافظة سوهاج، وهى القرية التى تعمل فى نجوعها الرائدة صفاء، والتى عاشت عمرها كله فى قرية "نيدة" التابعة لمركز أخميم أيضا، وهى من القرى النموذجية على مستوى الجمهورية فى إرتفاع نسب التعليم والرعاية الصحية وتوافر الكثير من الخدمات الأخرى، ومع هذا لم تختلف فيها عادات وتقاليد الزواج عن باقى قرى المحافظة.
"كنت فى الصف الأول الثانوى، عندما انتقلت للحياة فى بيت عمتى كزوجة لابنها، ولم تتغير حياتى كثيرا عما كانت عليه فى بيت أهلى، فقد كنت أذهب للمدرسة ومن بعدها للجامعة، وأساعد عمتى وبناتها فى أعمال المنزل وكأنهن أمى وأخواتى البنات، بل أنى عشت معهن أكثر مما عشت مع أمى وإخوتى، ونسيت أنى زوجة، فقد عاد الزوج لعمله فى السعودية بعد ثلاثة شهور من الزواج، ولم يعد إلا بعد أربع سنوات".
عادات وتقاليد الزواج كانت أقوى من أن تستطيع صفاء أن تقول "لا"لوالدها الموظف المتعلم ذى الشخصية القوية، حين أخبرها أنه قرر زواجها من ابن عمتها، خاصة أنه كان يلبى بهذا القرار رغبة عمتها، فلم يكن يرفض لعمتها طلبا، بالإضافة إلى أن العريس غنى. 
الزواج تم فى عام ١٩٩٧ حيث كان سن الزواج فى القانون هو ١٦ سنة للجنسين، قبل أن يعدل فى ٢٠٠٨ ويصبح ١٨ سنة للجنسين، ولم تكن الهواتف منتشرة فى القرى كما هى الآن، فكانت وسيلة التواصل بين الزوجين طوال الأربع سنوات هى الخطابات.
"كنت أكتب له فى الخطابات، أخدتنى ليه من بيت أبويا لما إنت مش قادر تنزل مصر، ولما رجع كنت حاسه إنه غريب، ما عرفتوش، لأنى نسيت إنى متجوزة، أول ليلة رجع فيها هربت من الأوضة ورحت نمت جنب عمتى فى سريرها، وكنت باعمل كده كتير".


تأخذ صفاء شربة ماء ثم تكمل: "زوجى راجل محترم وطيب ما أقدرش أقول عنه أى حاجة، ودايما كان بيجيب لى أى حاجة باطلبها، وكان بيحس إنى طفلة فعلا بالنسبة له ويفرد لى إيده على السرير عشان أحط راسى عليها، زى ما بنعمل مع أولادنا، ومع كل ده، كنت أقول له أنت اتجوزتنى بدرى، ما خلتنيش أعيش طفولتى".


لم تستقر الأحوال بصفاء وزوجها إلا بعد الزواج بست سنوات، عندما عاد نهائيا من العمل بالسعودية، وعين موظفا بالحكومة ببكالوريوس الخدمة الاجتماعية، وكان عليها أن تنتظر ٤ سنوات أخرى، لترزق بابنها الوحيد محمود، صاحب الـ١٤ عاما الآن.
"ما حصلش حمل تانى، وحمدت ربنا إنه رزقنى بمحمود، عانيت من الختان، حسيت إن فيه حاجة اتهدت في، واستمرت معاناتى بعد الزواج، بصراحة ما حسيتش بزوجى خالص".
عندما وصلت صفاء إلى هذه النقطة فى الحكى بدأت تحاصر الحاضرات بالأسئلة، "أحكى لهم قصتى باعتبارى نموذجا لتغيير الوعى، وباكون عايزاهم هم اللى يتكلموا عن مشاكلهم مع الزواج المبكر، وهم اللى يوصلوا لنتيجة إن المأساة اللى عاشوها مش عايزينها تتكرر مع أولادهم، وبعد ما باحكى قصتى يبدأن يحكين قصصهن أو قصص القريبات أو الجيران".
 

صفاء، صاحبة الـ٤٣ عاما، وصلت إلى هذه الخبرة فى التوعية بخطورة الزواج المبكر"زواج الأطفال"، وختان الإناث، لعملها منذ ٢٠٠٧ كرائدة اجتماعية، وتلقيها للعديد من الدورات التدريبية التى تنظمها وزارة التضامن الاجتماعى للرائدات الاجتماعيات باستمرار.
تعمل صفاء بالوحدة الاجتماعية بقرية الصوامع شرق، والتى يتبعها ١٤ نجعا، تقع كلها شرق النيل وبعضها فى حضن الجبل، فتضطر لأن تنظم بعض لقاءاتها فى بيوتهم.
"فى القرية الأم مدرسة ثانوية مشتركة، ونسبة التعليم لا تتجاوز ٤٥٪، وما زالت الكثير من الأسر تزوج بناتها فى سن ١٥ سنة، وختان البنات ما زال يمارس على يد الدايات أو الممرضات فى الخفاء، لأن الأطباء يخافون من تبعات ممارسة هذه الجريمة، ورغم معرفة الأسر بأن ختان البنات ممارسة خاطئة، لكن سيطرة الجدات تدفعهم لممارسته، لكن لا يستطيعون أن يتحدثوا أمامى عن نية تختين فتاة، والأمل فى الأجيال الجديدة".
اليوميات التى تعيشها صفاء مع الأسر والأطفال فى نجوع قرية الصوامع شرق، تؤكد لها أن الأجيال الجديدة من الفتيات أكثر وعيا بحقوقهن، فمنذ وقت قريب فوجئت صفاء وهى فى مقر الوحدة الاجتماعية، بفتاة لا يتعدى عمرها ١١ سنة، من نجع عزيز، جات تستنجد بها، لتنقذها من عزم والدها على تزويجها، وقد منعها من الذهاب للمدرسة بالفعل، لتستعد للزواج.
الأب لديه ٣ بنات و٤ أولاد، ويسافر للعمل فى إحدى البلاد العربية، وحالة الأسرة ميسورة جدا، كما تصف صفاء، والعريس أيضا غنى ويعمل أيضا فى إحدى الدول العربية، وسيسكن الفتاة فى "فيلا"، فاتجهت صفاء لأهل الفتاة لتتحدث إليهم، فقال لها الأب إنه يريد أن يطمئن إلى أن ابنته ستعيش فى نفس المستوى الذى تربت فيه، وقد أعجب بها العريس بالفعل، وصمم الأب على رأيه.
هددت صفاء الأب بأنها ستبلغ المسئولين عن نيتهم تزويج طفلة فى هذا العمر، بالمخالفة للقانون، واتجهت لقيادات فى النجع لإقناعه بالعدول عن تزويجها فى هذه السن، أو تأجيل الزواج حتى تتم ١٨ سنة، وبالفعل لم تتم الزيجة، ولكن الفتاة لم تعد للمدرسة، فألحقتها صفاء بفصل تعليم الحرف اليدوية الذى تدرب فيه النساء والفتيات على الحرف اليدوية.
"الأهالى فى قرية الصوامع بيخافوا من تهديدى بالابلاغ عنهم، لأنى غريبة عن قريتهم، ولا تربطنى علاقة قربى مع أى عائلة، وفى إحدي المرات عندما علمت أن أسرتين تنويان تزويج فتاة وفتى دون السن القانونية، هددت أم الفتى وأم الفتاة، بأنى سأبلغ الوزارة إن فعلتا، وستوقف الوزارة دعم تكافل وكرامة، الذى تستفيد منه الأسرتان، وتراجعتا بالفعل، خاصة بعد ما حكيت لهما ماحدث لابن شاب المحجر".
شاب المحجر، كان قد تزوج فتاة عمرها ١٥ عاما، أخرجها أهلها من التعليم لتتزوج، فيرتاحوا من عبء واحدة من السبع بنات، اللاتى ظلت الأم تنجبهن حتى رزقت بالولد، ولعدم قدرة الأسرة على تحمل أعباء التعليم، خرجت الفتاة من التعليم، وتزوجت دون أوراق رسمية، ونصح المحامى أهلها بأن يأخذوا شيكا على بياض من العريس، لضمان أن يتزوجها رسميا ببلوغها السن القانونية.
وبعد أن حملت الفتاة، رجعت غاضبة من بيت أهل زوجها، لمعاملتهم السيئة لها، وبعد أيام توفى الزوج إثر حادث فى المحجر الذى كان يعمل فيه، وعندما وضعت الفتاة حملها، اضطر والد الأب المتوفى أن يسجل الطفل باسمه، أى باسم الجد، وكأنه أخ لأبيه المتوفى، لأن مكتب الصحة أصر على وجود قسيمة زواج أو بطاقة عائلية ليسجل الطفل. 
 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: علشان ولادكم احسبوها صح حملة وزارة التضامن التمكين الاقتصادي التمكين الاقتصادي للمراة

إقرأ أيضاً:

غريتا.. من أنتم أمام هذه الفتاة.. .؟

ليست بطلة من زمن الإغريق، ولا سيدة أنقذها فارس من قصرٍ محاصر، وليست مرشحة لجائزة "نوبل" للسلام لأننا كعرب كتبنا عنها، أو لأن قناة ناطقة باسمنا خصصت لها تقريرًا مطولًا.

إنها ببساطة: غريتا تونبرج.

فتاة خرجت من عتمة غرفتها في العاصمة ستوكهولم، لتضيء لنا المرآة التي كنا نهرب منها. جاءت لا لتقنع أحدًا، بل لتضعنا، نحن سكان هذا الشرق المترنح بين الأناشيد والبيانات، أمام السؤال الصعب: ماذا فعلتم.. .. ؟

تركت دفء بيتها، وبحيرة الطفولة، وغناء أمها الأوبرالي، وهمسات والدها على عشاء عائلي هادئ، وأبحرت إلى العالم تحمل كوكبًا على كتفيها.

لم تكن تبحث عن بطولة تُروى في كتب الأطفال، بل عن حق بسيط في التنفس، في النجاة، في أن يستمر الغد.

من قال إن البطولة لا تسكن في جسد هش.. .. ؟

من علمنا أن الإعاقة تسقط الإرادة.. .. ؟

من أقنعنا أن الفتيات خُلقن للتجمّل فقط.. .؟

غريتا، هذه الفتاة التي كسرت قواعد الجينات وأصفاد الصمت، صعدت على منابر العالم بلسانٍ لم يكن يومًا طليقًا، وخاطبتنا جميعًا:

"العالم يحترق.. أما زلتم تنظرون إلى صوركم الشخصية.. ؟"

سخرت من المؤتمرات، ومن طقوس النفاق البيئي، ومن بلاغة مندوبي القمم المناخية، وسخرت - ضمناً - منا نحن العرب، وإن لم تقلها علنًا.

نحن الذين ننتظر من ينقذنا دائمًا، ولا نحاول إنقاذ أحد، حتى أنفسنا.

الفتاة السويدية، التي ربما لم تسمع يومًا عن جامعة الدول العربية، ستحاول كسر حصار غزة، لا لتنال إعجابًا أو وسامًا، بل لأنها ترى في وجوه الفلسطينيين انعكاسًا للوجع الذي يسكن الكوكب.

غريتا لا تحضر على الشاشات لتتحدث عن “النصف الممتلئ”، بل تضع الإصبع على الجرح وتضغط، حتى نصرخ أو نستيقظ.

(غريتا ليست مشروع فتاة.. بل مشروع ضمير.. .)

لم تقل "أنا ضعيفة"، ولم تنتظر قرارًا من زعيم. لم تطلب تأشيرة لدخول التاريخ، بل دخلته من البحر، من الخطر، من المستحيل.

حملت حقيبة صغيرة، فيها صور للغابات المحترقة، وعيون أطفال لا يجدون هواءً، ومضت.

إنها ليست شجاعة فحسب، إنها المرآة التي تفضحنا.

مرآة لكل الحكومات التي لم تزرع شجرة، ولكل شعوب تصفق للشعارات بينما يموت النهر خلف شاشاتها.

أيها العرب:

غريتا لم تسأل عنكم، لكنها علمتكم درسا لن تنسوه.

ليست ابنة عاصمة منهوبة، ولا حفيدة شهيد، ومع ذلك، خرجت لتحمي ما تبقى من إنسانية.

أما أنتم؟ فقد اكتفيتم بنشر صورها مع تعليقات مؤثرة، وكأن البطولة تُستعاض بها عبر زرّ الإعجاب.. .، ،

في لحظة التوقف عن المحاولة.. نفقد إنسانيتنا.. ، ،

ربما لن تصل السفينة "مادلين" إلى غزة، وربما تُحتجز، وربما تعود، وربما تنتهي هذه الرحلة دون نصر ظاهر.

لكن الحقيقة الأعمق: أنها جربت.

وفي عالم ماتت فيه المحاولة، صارت المحاولة بحد ذاتها ثورة.

لا يهم إن مُنعت أو مُسحت أخبارها من وكالاتكم الرسمية.

المهم أنني - ذات صباح - قرأت على شاشة الحاسوب عبارة صغيرة لها تقول:

"في اللحظة التي نتوقف فيها عن المحاولة، نفقد إنسانيتنا."

عندها فقط، أدركت أن كثيرين ماتوا رغم أنهم على قيد الحياة،

وأن غريتا وحدها، كانت الحياة.. .. ، !! محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث مصري، متخصص في الجيوسياسية والصراعات الدولية، ، ، !! [email protected]

مقالات مشابهة

  • ابن الشهيد خالد عبد العال: أبويا مستخسرش روحه وعمره علشان الناس
  • خبير قانوني: زواج فتاة من شاب مصاب بمتلازمة داون حرية شخصية
  • زوجة إسماعيل الليثي تخرج عن صمتها: مفيش تريند.. اللي قلته حقيقي
  • فتاة تتقذ أختها من سيارة محلهما.. فيديو
  • صفاء أبو السعود تغازل جمهورها بـ "ست الستات".. صوت العيد يعود بصيف جديد
  • النبي الذي فداه الله بكبش عظيم.. إسحاق أم إسماعيل؟ على جمعة يحسم الجدل
  • غريتا.. من أنتم أمام هذه الفتاة.. .؟
  • أسماء بنات حلوة وفخمة
  • محمود عامر في حديث القلب لـ"الفجر الفني": "أوصاني أبي أن أُبقي علاقتي بالناس مثل طرف رباط.. ولا أخون من خانني"
  • بطريرك الأقباط الكاثوليك يترأس قداس حج يوبيل الرجاء لخدام التعليم المسيحي بالقاهرة