لجريدة عمان:
2025-06-03@12:57:21 GMT

في سبيل تدبير «الحوار الاجتماعي»

تاريخ النشر: 11th, August 2024 GMT

تواجه المجتمعات العربية الكثير من أزمات العيش المشترك، وتتعاورها من حين لآخر مشكلات ينظر إليها كطارئ عابر، والحقيقة أن مجتمعاتنا العربية مرغمة على العيش تحت ظِلال لحظة عالمية وجدت نفسها مطالبة بالانخراط فيها حتى وإن لم تكن مستعدة بعد، مجتمعات مُهَيمن عليها من قِبل ليبرلة (=ليبرالية) عالمية تعاظم حضورها للدرجة التي استقرت فيها داخل نظرية المعرفة الراهنة، وهي نظرية غربية بامتياز، لكن يتم تسويقها كأفكار مجردة مما يعلن في أي خصوصية ثقافية عن وجود أزمة؛أزمة هوية.

. فهذه الليبرالية الجديدة تملك ترسانة من مفاهيم اجتماعية يراد لها الاختزال والقفز على الخصوصية، كونها نظرية تتقدمها الفردية المطلقة، مما يضغط بشكل متزايد على طبيعة العلاقات الاجتماعية والتي تقوم على شبكة من المصالح تربط بين أفراد المجتمع، وتعمل على تسييل الإرادات الذاتية لصالح حضور أشمل وأعم، فالمجتمعات في أصلها تتكون من حاصل «الصراع» بين البُنى الثقافية وإجراء عمليات التحييد للنزعات الفردية عملاً على بناء موازنة بين الأمن الفردي (بمعناه الكلي) والوئام المدني الشامل، وهنا فإن هذه الثنائية تتغذى على جملة مفاهيم تكون بمثابة المخزون المعرفي الذي تتقاسمه أشكال التعبير المختلفة عن وجود المجتمع. وهنا فدعوتنا إلى العمل على إنتاج أفكار جديدة بخصوص موضوع «الحوار» لكن قبل الشروع في عرض رؤيتنا نشير إلى أن الأفكار لكي تتكاثف وتنتج حضورها فهي بحاجة إلى آليات معرفية، وحول قضية «الحوار الاجتماعي» فإننا نرى بأنه لن يستقر في المجتمعات العربية دون وجود نظرية تكون بمثابة القاعدة، قاعدة المنهج الذي تقوم عليه عمليات المراقبة والمقاربة المستمرة لهذه المعادلة بين «الفردي والجماعي» وهذا ما يُعرف في سياق سيسيولوجيا الوعي بالاستجابة الموضوعية للرغبة والوظيفة.

والواقع أن المجتمعات تعتمد في وجودها على تقوية مظاهر العيش المشترك القائم على حالة من الحوار السعيد؛ الحوار المُلخِص لقيم الجماعة الإنسانية، والحائز على معاني الرضا والتواصل بين مختلف المكونات، ولكن ليس لقيم اجتماعية أن تظل فاعلة ومؤثرة في السياق الثقافي لأي مجتمع دون أن تستند على جملة معارف يتلقاها الفرد منذ عتبات تكوينه الأولى، ولعل من أكبر الأسباب المُعجِلة بفتور ظاهرة الحوار الاجتماعي في الثقافة العربية هي عدم إعداد الناطقين باسم الظاهرة، إعدادهم الفكري المؤمن بأن الاختلاف ليس سنة كونية فقط، بل هو حقيقة اجتماعية، ومن يجيل النظر في المجتمعات العربية ويطرح السؤال عن غياب «التسامح» كآلية للتعايش بين المكونات المتعددة، فعليه مباشرة أن يذهب إلى الكتلة الحرجة في الوعي، وهي أننا لم نول اهتماما جادا في مناهجنا التعليمية لما يسمى بالإنسانيات حتى الكلاسيكية منها ( الفلسفة – علم الاجتماع – الآداب...إلخ) فللأسف تفتقر مناهجنا وهي العتبة التي يصعد عليها الناطقون باسم المجتمع، تخلو من الدرس الفلسفي والذي هو أساس كل عملية حوار، وهنا تجدر الإشارة إلى أن غيبة المثقف عن تعزيز أطر الحوار الاجتماعي تعود في الأساس إلى تناقض معرفي تأسس عليه وعيه، فهو من ناحية يملك القدرة على تعيين المشكلات في إطارها النظري، لكنه مع ذلك يفتقر القدرة على تصعيد هذا التعيين بشكل مادي ملموس، فيتحول إلى عبء ثقافي يضاف إلى خرائب الوعي العربي الرافض للآخر؛ الآخر الداخلي والخارجي.

إن الكلفة العالية تدفعها المجتمعات التي يغيب فيها الحوار، وهي كلفة تمس الجوهري في طبيعة المجتمع (=التعايش)، والنداءات المكثفة والعبارات عالية التكوين البلاغي حول: «الحوار..السلام الاجتماعي..التعايش...إلخ» تعكس شيئا واحدًا وإن اختلفت، هي الرغبة الأصيلة في المجتمع لصناعة تعايش مثمر، تعايش يجد فيه الجميع أنفسهم مساهمين وقادرين على التعبير عن أنفسهم، وهذا أمر غريزي، فالجميع يريدون أن يعيشوا في سلام، وأن يكونوا قادرين على تحقيق طموحاتهم والتعبير عن رغباتهم، وأزمة الحوار ليست فقط في رغبتنا تعميمه دون أدوات للشغل تهيئ له المكانة والفاعلية المطلوبة، إنها تعود إلى فهمنا العاطل لماهية الحوار، فما زالت المجتمعات العربية تعتقد بأن للحوار وجودا مستقلا، كأنه مسألة نظرية محصنة بالبداهة، وأنه لا ينتمي إلى التفاعل الإنساني، يولد منه، ويتحرك فيه، والحقيقة أن الحوار عملية إبداعية CRÉATION - فالحوار يتشكل نتيجة عمليات التركيب والتأليف من عناصر موجودة في الظاهرة، ولذا فإن المجتمعات العربية مطالبة في المقام الأول أن تعرف الطريق الصحيح إلى صناعة الحوار قبل الحديث عن فاعليته وضروراته للتعايش والسلام المدني بين الأفراد، فالماهية الحقيقية للحوار تعود إلى التكوين والإحداث في الظاهرة الثقافية، تكوين يقوم على تغذية الفرد بثقافة التسامح والقبول الإيجابي للآخر القريب والبعيد، والإحداث، أن يفهم كيف يستمد الحوار قوته وجدارته من التركيب المستمر لعناصر ثقافية شاردة، وأنه دون هذه العملية المفاهيمية لن يكون هناك أي جدوى من الدعوة إلى الحوار الاجتماعي، كونه لن يتحقق من تلقاء نفسه، وأن تعاظمت الرغبات.

إن الطريق يبدأ من إعادة دمج مفهوم «الحوار» في كافة مظاهر النشاط الإنساني داخل المجتمع، والبداية من تعقيم المناهج بأساليب تنقلها من تعليم (بنكي) وظيفته استيداع المعرفة في ذهن المتلقي دون أن يكون مشاركا فيها، مشاركة بالوعي، وهنا فإنه لن يكون قادرا على القيام بدوره في الدفع بمعاني التعايش والانسجام بين البنى الاجتماعية المختلفة، وهنا فالحاجة إلى تعليم (حواري) يصنع وعي الناشئة على أن المجتمع سمي مجتمعا لأنه لا يتكون من عنصر واحد، وأن المجتمع هو جِماع الخصوصيات الثقافية القادرة على النزول إلى التشارك والإسهام مع غرائمها لصالح حضور كلي بيانه السلام الاجتماعي وبرهانه التعايش.

والحل لتدبير حوار اجتماعي فعّال أن ينظر إليه كمغزل ثقافي يُنتج من داخل حيز الفاعلية للمكونات الاجتماعية المختلفة، وهو ما سيجعل منه حقيقة اجتماعية قارّة، وليس رصيدا يسحب منه عند الأزمات.

غسان علي عثمان كاتب سوداني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المجتمعات العربیة الحوار الاجتماعی

إقرأ أيضاً:

مؤسسة سباركِل الخيرية تغيّر حياة آلاف الأطفال في مالاوي

تحتفل مؤسسة “سباركل”، بمرور 10 سنوات على تأسيسها أي عقد كامل من الجهود المتفانية لتغيير حياة الأطفال والنساء والعائلات في أربعة مجتمعات في مالاوي.
وتطمح “سباركل” إلى إحداث تحوّل إيجابي في حياة 100,000 شخص في مختلف أنحاء مالاوي، وذلك من خلال تعزيز فرص الحصول على تعليم عالي الجودة لآلاف الأطفال وتشييد 5 قاعات دراسية جديدة وتوفير ما يزيد عن 500 وجبة غذائية يوميًا في مراكز برنامج تنمية الطفولة المبكرة التابعة للمؤسسة.
نجحت مؤسسة “سباركل”، منذ تأسيسها عام 2015 وحتّى اليوم، في إحداث أثر إيجابي في حياة أكثر من 20,000 طفل وعائلة في مالاوي من خلال برامجها الأربعة الشاملة، وتحديدًا برنامج التعليم وبرنامج التغذية وبرنامج الرعاية الصحية وبرنامج تمكين المجتمعات. وعلى مدار العقد الماضي، ساهمت المؤسسة في تعليم أكثر من 5,000 طفل وقدّمت أكثر من 31,000 علاج طبي في عيادة “سباركل” ووزّعت 700,000 وجبة غذائية، بالإضافة إلى جمع تبرّعات تجاوزت قيمتها 10 ملايين درهم إماراتي.

وفي هذا السياق، صرّحت سارة بروك، مؤسِسة “سباركل”: “أثبتت لنا السنوات العشرة الماضية القوة الاستثنائية لما يمكن تحقيقه عندما تتكاتف المجتمعات وتعمل جنبًا إلى جنب نحو رؤية واحدة مشتركة. فقد تأسّست مؤسسة “سباركل” على اعتقاد راسخ بأنّ كل طفل، أينما ولد، يستحقّ فرصة للنجاح والتميّز. وفيما نتطلّع إلى المستقبل، نجدّد التزامنا بتعزيز الأثر الذي نحدثه في المجتمعات، وتطوير نموذج عملنا بطريقة مستدامة، وبإيصال رسالتنا بصوت أعلى، وتوفير مستقبل أكثر إشراقًا للجميع”.

وفي إطار التزامها بتحقيق الاستدامة والأثر على المدى الطويل، تتبنّى مؤسسة “سباركل” استراتيجية عالمية لزيادة فرصها في جمع التبرّعات وتعزيز شبكة شركائها والمؤسسات الداعمة لها. وتتطلّع “سباركل” إلى توسيع نطاق عملها واستكشاف مصادر دعم جديدة بالاستفادة من شراكاتها الدولية ومن خلال تأمين التبرّعات العينية والتقدّم للحصول على المنح الهادفة. وتشكّل هذه المساعي ركيزة أساسية لتحقيق أهداف المؤسسة الاستراتيجية وضمان استمرارية نموها وأثرها الإيجابي عبر مختلف برامجها.


مقالات مشابهة

  • وزير العدل يمنح تفويضات موسعة للمديرين الإقليميين لتعزيز نجاعة تدبير المحاكم
  • إخلاء سبيل سيدة متهمة بالتعدي على طالبة جامعية
  • مهندس صيني يحقق اختراقا في نظرية رياضية معقدة حيّرت العلماء
  • نظرية الظل.. ما لا نبوح به لأحد
  • مؤسسة سباركِل الخيرية تغيّر حياة آلاف الأطفال في مالاوي
  • إخلاء سبيل بلوجر شهير بعد التحقيق معه في مشاجرة بمنطقة البيطاش بالإسكندرية
  • شوبير:الأهلي يضم لاعب جديد على سبيل الإعارة
  • نظرية المجال الحيوي ودورها في سياسة العنف اليميني بأوروبا
  • إخلاء سبيل مالكة بيوتي سنتر وآخرين في واقعة اعتداء محامي المحلة
  • إخلاء سبيل صاحبة بيوتى سنتر و5 آخرين تعدوا على محام بالمحلة بكفالة ألف جنيه