[email protected]
حصائد ألسنتهم
المغيرة التجاني علي
من ضمن الآثار السالبة التي أحدثتها هذه الحرب الدائرة رحاها في بلادنا العزيزة , انتشار خطاب الكراهية و توسع رقعة العنف اللفظي و تمدد مساحات التراشق الاعلامي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي التي أتاحت لعدد من الأفراد استخدام كم من عبارات السب و الشتم و التحقير والإهانة وكيل الاتهامات والسخرية و التقليل من الشأن و الحاق الأذى بالآخرين وإثارة العداوة والبغضاء و تشكيل صور سالبة عن الآخر المختلف مما يؤدي الي تقسيم المجتمع الي جماعات متناحرة و يهدد صرح القيم الموروثة الفاضلة .
لقد انفرط العقد و زادت حدة التوتر والانقسام و اشتعلت نيران الكراهية بين الأفراد والمكونات الطبيعية للمجتمع و ذلك بنشر المعلومات المضللة والأكاذيب و التي تقود الي إحداث اضطرابات اجتماعية و احتجاجات عنيفة واثارة الآراء المتطرفة التي تودي الي زيادة العنف و توسع رقعة الاقتتال , كما تؤثر أيضا علي عقول الاجيال اللاحقة فتدمغها بالتطبيع مع العنف والعدوانية و تهدد الثقة في أمكانية التعايش الآمن المستقر .
إن التسجيلات الصوتية الحية التي توفرها منصات التواصل الاجتماعي المفتوحة أتاحت لعدد من المهرجين و البلهاء و حتي من النخب والكوادر الحزبية نشر خطاب الكراهية ضد الأفراد والجماعات بناءً على العرق أو الجهة أو الموقف السياسي فولجوا جميعا في بث كثير من صور الفرقة والتمييز و العنف بلا ضابط و لا قيد و ذلك لصعوبة تتبع و مساءلة أصحابها مما يشجع علي المزيد من انتهاج هذا السلوك الضار بالمجتمع والذي ينتشر سريعا وعلي نطاق واسع كانتشار النار في الهشيم و يعمل علي نشر خطاب الكراهية مما يُفسد العلائق ويُعيق التواصل البناء ويعزز من التحيزات القبلية و الجهوية والسياسية ويُقلل من التعرض لوجهات النظر المختلفة باحترام وتقدير .
• و إن في تعاليم ديننا الاسلامي الحنيف الكثير من الحث علي بذل المعروف بين الناس و بث الكلام الطيب و الدعوة الي التعايش الآمن بحسن القول , كما فيه من التحذير من إلحاق الأذى النفسي و اللفظي بالأخرين و النهي عن السب والشتم و زرع الفتنة بين الناس و التوجيه الي عدم نشر الشائعات والأكاذيب و البعد عن النميمة والبهتان و الحلف الكاذب و التلفظ بالكلمات البذيئة الجارحة . و الرسول الكريم قد أوصي أتباعه بحفظ اللسان و استخدامه في مجالات الخير و عدم الخوض في أعراض الناس , ففي حفظه حفظ الأنفس من الاثم والعذاب فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده . وقد قال ايضا" من سلم لسانه من العذاب سلم من كل عذاب " فللسان دورٌ عظيمٌ في إيصال الخير والشرّ، فمن طيّب لسانه وكثّر من قول الخير، نالَ ثواب ذلك عند الله، ومن ساء لسانه وكثّر من قول الشرّ، نالَ عقوبة ذلك ايضاً .
أن للكلام الطيب والقول اللين أثر طيب , و الكلام الجارح المسيء مثل النار تحرق ما حولها , فنشر المحبة والتسامح و بذل الخير من صفات المؤمن الفطن و قد جاء في الأثر أنه ( ما كب الناس في النار الا حصائد السنتهم ) يُحذّر من خطورة اللسان وما قد يسببه من أذى للآخرين , كما يُؤكّد على ضرورة التحكم فيه وحفظة من الكلام المحرّم و مراقبته و كبح جماحه من الخوض في الكلام الجارح و الاكثار من الكلام الطيب الذي ينشر الأخاء و المحبة و الود بين الناس .
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
أخطر من الإلحاد
ذات يوم وبعد انتهاء إحدى ندواتى الثقافية، اقترب منى رجل ستينى، مهندم الثياب، حزين الوجه، بدا متردداً وهو يصافحنى بعد أن قال لى إنه يريد استشارتى فى أمر خاص بعيداً عن موضوع الندوة. استحثنى تلعثمه لأرحب به وأحفزه لينتحى بى جانباً، ويقول لى بأسى شديد: إن ابنى الوحيد ملحد، ينكر الدين كلية، ويطرح أفكاراً غريبة، وقد جربت معه المقاطعة والخصام، فلم أفلح، وحاولت تهديده بالفضح لكنه لم يكترث، ولا أعرف ماذا أفعل.
سألته إن كان يقرأ، فقال : قليلاً، واستفسرت إن كان على استعداد لنقاش مع أحد، فأخبرنى بأنه استعان بمشايخ وأقارب للحوار معه، فاستفزهم بأسئلته، فكفروه، وفشلت المحاورات.
قلت له: لا تقاومه، ولا تلعنه، واترك جسراً دائماً للحوار معه، وحفزه على القراءة والبحث، ولا تغضب من تصوراته، وإنما ناقشها بهدوء ودون غضب. فابنك لديه الحق فى أن يفكر ويبحث ويشك ويسأل ويقرر معتقده بنفسه، وكثيرون قبلنا وحولنا مروا بلحظات شك عصيبة، فأصبحوا مفكرين عظاماً يهتدى بهم الناس.
تذكرت الرجل المهموم وأنا أقرأ حيثيات حكم محكمة القضاء الإدارى برفض دعوى مرتضى منصور بمنع عرض فيلم الملحد، استناداً إلى أن هيئة الرقابة على المصنفات الفنية وحدها هى صاحبة الحق فى الإجازة والمنع طبقاً لنصوص القانون. فالفيلم الذى يناقش قضية مهمة وحيوية فى المجتمع المصرى، تعرض لتعطيل عرضه بسبب إصرار بعض المتصدرين للمشهد على ممارسة حق الوصاية على الناس، والمجتمع، والدولة. وبمجرد إعلان الكاتب إبراهيم عيسى قبل عامين عن انتهائه من كتابة فيلم «الملحد» حتى اعتبر المنصبون أنفسهم أوصياء على الناس، العمل الفنى جرماً، وحظره ضرورة إسلامية، رغم أن أحداً منهم لم يره.
وقالت المحكمة فى حيثيات حكمها إنه من المعلوم بالضرورة أن حرية التعبير تنبع من فيض الكرامة الإنسانية التى أنعم بها المولى عز وجل على البشرية جمعاء، وهى تعد أحد الأعمدة الرئيسية فى بنيان الحقوق والحريات المصرى.
وأوضحت أن فن السينما من أهم وسائل التعبير عن الرأى، والفكر، ونشر الأخلاق، والقيم، والمفاهية الإنسانية، وحمايته باعتباره إحدى صور الإبداع لا يستقيم أمره أو يستوى على صحيح مقصده إلا بتقييمه فى إطار كونه عملاً فنياً.
وتدور قصة الفيلم حول شاب مسلم تمرد على الوسط المحيط به نتيجة التشدد الدينى الذى رباه عليه من والده، ومن ثم أعلن إلحاده تحدياً لوالده المتشدد، وما لبث أن توفى الأب حتى رجع الابن للبحث والتفكير ليصل إلى الإيمان باقتناع ورضا.
وأتصور أن الإلحاد يمثل موجة طبيعية تعانى منها المجتمعات المنغلقة، التى لم تعتد حواراً ولم تقبل نقاشاً. ولا شك فى أننا فى مصر- رغم رحابة العالم وثورة العقول وتطور التواصل - مازلنا نخشى من عمل فنى يناقش قضية مجتمعية خطيرة بمنطق ووعى.
ما المخيف فى استجلاء فلسفة الملحدين؟ وما المزعج فى مناقشة رؤاهم وتصوراتهم؟ إن التسليم وهز الرأس والانصياع لكل ريح هو تكرار لفكرة الكافرين بالأنبياء التى واجهوا بها رسالات السماء عندما كرروا عبارة «وجدنا آباءنا لها عابدين» كمبرر لعبادة الأوثان.
وهذا المنطق لا يمكن أن يصنع إيماناً حقيقياً، ولا أن يبنى مجتمعاً صلباً قوياً بشبابه ومتماسكاً بشيوخه، ومتسعاً بمحاورات الألباب فيه، وهذا يمثل خطراً ربما أشد من ظاهرة الإلحاد نفسه، فغياب التفكير والتدبر كفيل بانسحاق الإنسان. وأحسب أن تصريح الرئيس السيسى الأخير بشأن توارث معتقدات الناس، وكيفية ترسخها فى الأذهان دون بحث واقتناع جدير بالبحث والاهتمام.
والله أعلم.
[email protected]