ما زلنا في رحاب الشاعر المتألق " إيليا أبو ماضى". في نيويورك التي باتت، مع الزمن، عاصمة الأدب العربي المهجري، التقى "إيليا" بكل من " جبران خليل جبران"، و"ميخائيل نعيمة"، وانضم إلى الرابطة القلمية التي تأسست في عام 1920 بهدف تجديد الأدب العربي والابتعاد عن الأساليب التقليدية. كان "أبو ماضى" من أهم أعضائها وأكثرهم تأثيرًا، نظرًا لروحه الإنسانية المتفائلة التي انسجمت مع فلسفة الرابطة ودعوتها إلى تحرير اللغة والشعر من الجمود.
في هذه الفترة كتب " أبو ماضى" أشهر قصائده وعلى رأسها " الطلاسم" التي ظهرت في ديوانه " الجداول" 1927، وقد أثارت القصيدة جدلا واسعا بسبب طابعها الفلسفي العميق وتساؤلاتها الوجودية. لكنه ظل يؤكد أن الشعر بالنسبة له ليس غموضا مفتعلا ولا تشاؤما. بل بحث هادئ عن المعنى، قائم على التفاؤل والإيمان بقيمة الإنسان. وتجلت هذه الفلسفة أيضا في قصائد مثل " فلسفة الحياة"، و"كن بلسما" التي قدمت رؤيته الأخلاقية والجمالية بطريقة بسيطة قريبة من الروح. ومع نضوجه الأدبيّ أصدر ديوانه "الخمائل" عام 1946، وهو أحد أجمل أعماله، لما يجمعه من موسيقى رفيعة وتأملات إنسانية وذلك إلى جانب دواوينه الأخرى: " تذكار الماضى"، "ديوان إيليا أبو ماضى"، و" الجداول" و"تبر وتراب". كما كتب مقالات فكرية متعددة في مجلة " السمير" عبر فيها عن رؤيته للإنسان والعالم، وعن رفضه للتعصب الدينى والطائفى مؤكدا أن جوهر الدين هو الحب.
كانت حياة "أبو ماضي" مليئة بالحركة والتحول، فقد انتقل من قرية صغيرة في لبنان إلى القاهرة، ثم عبر المحيط إلى الولايات المتحدة. وكل مرحلة من حياته تركت أثرا واضحا على شعره. تميزت تجربته بانتقالها من البساطة الريفية إلى زخم المدن الكبرى. ومن مواجهة الفقر إلى الانفتاح على العالم والاطلاع على آداب وثقافات جديدة. وقد جعل هذا التنقل بين المراكز الثقافية عبر ثلاث قارات منه شاعرا عالميا بروح عربية يجمع بين الحنين والمغامرة، والتأمل والرصد.لقد ترك " أبو ماضى" إرثا شعريا وفكريا كبيرا، وأصبح شعره جزءا لا يتجزأ من الذاكرة الثقافية العربية ويتم تدريسه في المدارس والجامعات، تسترشد به الدراسات الأدبية و يتناقله القراء في العالم العربي والمهجر. وتميز إرثه بأنه يجمع بين البساطة والعمق، وبين النزعة الفلسفية والإيقاع الموسيقي، مما جعله قريبا من القارئ مهما اختلفت ثقافته أو خلفيته.كما أن تجربته في المهجر ألهمت أجيالا من الشعراء والكتاب الذين وجدوا في قصته مثالا على قدرة الإنسان على تجاوز الحدود الجغرافية والثقافية.. وما زال للموضوع بقية
المصدر: الأسبوع
إقرأ أيضاً:
شاعر الحب والألم والصحافة الذكية.. ذكرى ميلاد كامل الشناوي| فيديو
تمر اليوم الأحد، ذكرى ميلاد الشاعر والصحفي الكبير كامل الشناوي، أحد أبرز وجوه الأدب العربي في القرن العشرين، الذي ارتبط اسمه بالإبداع والشجن والظرف، وحكاية حب مأساوية لازمته حتى وفاته في نوفمبر 1965.
ولد كامل الشناوي في السابع من ديسمبر 1908 بقرية نوسا البحر بمحافظة الدقهلية، بعد أشهر قليلة من وفاة الزعيم مصطفى كامل، فأطلق والده اسمه كامل تيمنا بالزعيم الراحل.
نشأ في أسرة تجمع بين العلم والمكانة الاجتماعية؛ فوالده الشيخ سيد الشناوي كان قاضياً شرعياً، ووالدته صديقة هانم بنت سعيد باشا، وكان شقيقه مأمون الشناوي شاعراً غنائياً، بينما كان عمه الإمام الأكبر الشيخ محمد مأمون الشناوي شيخ الأزهر.
مسيرة تعليمية وصحفية غنيةالتحق كامل الشناوي بالأزهر لخمس سنوات قبل أن يتجه إلى المطالعة الحرة والانخراط في مجالس الأدباء، حيث درس الأدب العربي والأجنبي.
بدأ حياته الصحفية بالعمل مع طه حسين في جريدة الوادي، ثم انتقل إلى روز اليوسف مع محمد التابعي، وتنقل بين آخر ساعة والمصور، قبل أن يتولى رئاسة قسم الأخبار في الأهرام عام 1954، ثم رئاسة تحرير أخبار اليوم حتى رحيله.
كان يقول عن نفسه: "ما بقتش في شعري صحفي، لكن أصبحت شاعرا في صحافتي"، وهي العبارة التي تلخص العلاقة المتشابكة بين الشعر والصحافة في حياته.
الإبداع الشعري وأغاني الخلودعرف الشناوي بذكائه الحاد وخفة ظله، حتى وصفه أنيس منصور بأنه «آخر ظرفاء الأدب والصحافة»، رغم أن هذه الروح المرحة كانت تخفي ألماً دفيناً بدا جلياً في قصائده العاطفية.
أبدع الشناوي أعمالاً متميزة مثل: «اعترافات أبي نواس»، «أوبريت جميلة»، «الليل والحب والموت»، و«أوبريت أبو نواس»، وغنت أعماله كبارالفنانين مثل:
أم كلثوم: «على باب مصر»
محمد عبد الوهاب: «الخطايا»، «نشيد الحرية»
عبد الحليم حافظ: «لست قلبي»، «حبيبها»
نجاة: «لا تكذبي»
فريد الأطرش: «عدت يا يوم مولدي»، «لا وعينيكي»
وقد أصبحت قصائده العاطفية قصصًا مغناة، يعيش القارئ معها تجربة حب حقيقية، وليس مجرد أبيات شعرية.
لقب «الشاعر المحروم» وتجربة الحب المأساويةلقب كامل الشناوي بـ«الشاعر المحروم» بعد أن عاش تجربة حب مأساوية ظلت تطارده طوال حياته. وفق رواية رجاء النقاش في كتابه شخصيات لا تنسى، كشف مصطفى أمين أن الشاعر كان يزور المقابر يومياً، تحضيراً للجو الذي سيواجهه بعد رحيله.
العقاد وصفه بالعبارة الشهيرة: "لا تزال كما أنت، لست صغيرا ولا تريد أن تكون كبيرا"، وهو تعبير عن الألم الدفين الذي رافقه حتى وفاته، وحدث أن مات مكتئباً دون مرض يذكر.
موهبة شعرية وذكاء ثقافي واسعرغم أن الشناوي لم يدون سوى ديوان صغير، إلا أن أعماله بقيت كنزاً محبباً لعشاق الشعر.
وقد كان قادراً على منافسة نزار قباني لولا انشغاله بالصحافة وصخب الحياة.
قبل عام من وفاته، عاش تجربة قريبة من الموت ووصفها بأنها «بروفة للموت»، ليشعر بقرب النهاية التي صدق إحساسه بها.
وكانت ذاكرته القوية وحضوره المتميز في الأوساط الأدبية والفنية سبباً في دعم المواهب الشابة مثل عبد الحليم حافظ وبليغ حمدي، كما حافظ على استخدام اللغة العربية الفصحى طوال حياته، بينما اتجه شقيقه مأمون إلى العامية.
إرث خالد في الشعر والحبلا تزال قصائد كامل الشناوي، مثل «لا تكذبي» و«عدت يا يوم مولدي»، شاهداً على شاعر عاش الحب حتى الألم، محافظاً على مكانته كواحد من أبرز شعراء العاطفة في العصر الحديث، وترك إرثاً خالدًا يجمع بين الشعر والصحافة والإبداع الفني.