بقلم: محمد أعزوز

في 14 غشت 1979، شهد المغرب حدثًا تاريخيًا بارزًا تمثل في استرجاع إقليم وادي الذهب من السيطرة الإسبانية. كان هذا الحدث خطوة حاسمة نحو تحقيق الوحدة الترابية والسيادة الوطنية الكاملة. يعكس هذا اليوم التلاحم الوطني والتضامن بين مختلف مناطق المغرب، ويجسد التزام المملكة بتحقيق التنمية المستدامة في جميع أقاليمها.

وتعد ذكرى استرجاع وادي الذهب محطة تاريخية ورمزًا للوحدة الوطنية والتلاحم بين العرش والشعب، وتجسيدًا للجهود المستمرة لتحقيق التنمية والازدهار في كافة ربوع المملكة.

السياق التاريخي

منذ أواخر القرن التاسع عشر، خضع إقليم وادي الذهب للسيطرة الإسبانية، واستمر الاحتلال لعقود طويلة حتى استرجاعه في عام 1979. ولم يهنأ المستعمر الإسباني، حيث كانت هذه الفترة مليئة بالتحديات والمقاومة المستمرة من قبل القبائل الصحراوية التي لعبت دورًا محوريًا في مواجهة الاحتلال. وفقًا للدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين في كتابه “قبائل الصحراء المغربية: أصولها، جهادها، ثقافتها”، تميزت هذه القبائل بالشجاعة والولاء العميق للوطن، حيث قدمت تضحيات جسيمة للحفاظ على هويتها ومقاومة الاستعمار.

منذ عهد السلطان مولاي إسماعيل، كان العرش المغربي دائمًا في طليعة الدفاع عن الصحراء المغربية ضد أي غزو أجنبي، ساعيًا لتحقيق الأمن والرفاهية لسكان المغرب. تجسدت صلابة المقاومين المغاربة في الصحراء من خلال الجهاد والبطولات التي انبثقت من صميم الفكر المغربي، تحت توجيه وتخطيط وأوامر الملوك العلويين الذين بويعوا طواعية من قبل جميع المغاربة. كانت عزيمة أبناء المغرب بمثابة الطود الشامخ والسد المنيع الذي صد كل طامع أجنبي حاول النيل من مقدسات البلاد.

تفاصيل الحدث

بعد نجاح المسيرة الخضراء، استمر المغرب في جهوده الدبلوماسية والسياسية لاستكمال استرجاع باقي الأقاليم الصحراوية، بما في ذلك وادي الذهب. في 14 غشت 1979، قدم وفد من علماء وشيوخ القبائل وأعيان وادي الذهب البيعة للملك الحسن الثاني في حفل رسمي بالعاصمة الرباط، مؤكدين ارتباطهم الوثيق بالمغرب وتجديد ولائهم للعرش العلوي. وخاطب مبدع المسيرة الخضراء طيب الله ثراه أبناء القبائل الصحراوية المجاهدة قائلاً: “إننا قد تلقينا منكم اليوم البيعة، وسوف نرعاها ونحتضنها كأثمن وأغلى وديعة. فمنذ اليوم، بيعتنا في أعناقكم ومنذ اليوم، من واجباتنا الذود عن سلامتكم والحفاظ على أمنكم والسعي دوما إلى إسعادكم، وإننا لنشكر الله سبحانه وتعالى أغلى شكر وأغزر حمد على أن أتم نعمته علينا فألحق الجنوب بالشمال ووصل الرحم وربط الأواصر”.

في كتابه “التحدي”، تناول الملك الحسن الثاني استرجاع وادي الذهب كجزء من مسيرة التحرير والوحدة الوطنية، مشيرًا إلى أهمية هذه الخطوة في تعزيز السيادة الوطنية وتكريس الوحدة الترابية للمغرب. كما تحدث الملك الحسن الثاني عن الجهود المبذولة لتحقيق هذا الهدف وعن التضحيات التي قدمها الشعب المغربي في سبيل استرجاع أراضيه. وأكد على دور القبائل الصحراوية في الحفاظ على الهوية المغربية، مشيدًا بشجاعتهم وولائهم العميق للوطن.

وأضفى على هذا اللقاء التاريخي مزيدا من الجمال والروعة قيام الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه بتوزيع السلاح على وفود القبائل في إشارة رمزية إلى استمرار الكفاح من أجل الدفاع عن الوحدة الترابية وعن استتباب الأمن والأمان والاستقرار بالأقاليم الجنوبية المسترجعة إلى الوطن.

الدلالات والمعاني

لم يكن هذا الحدث مجرد تجديد للبيعة، بل كان تجسيدًا للتلاحم العميق بين العرش والشعب والتضامن بين مختلف مكونات المجتمع المغربي. هذا التلاحم هو ما يجعل المغرب قويًا ومتماسكًا في مواجهة التحديات المتنوعة. ويعتبر تجديد البيعة رمزًا للولاء المتبادل والثقة الراسخة بين العرش والشعب. يعزز الشعور بالانتماء والوحدة، مما يساهم في تعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد. كما يعكس هذا التجديد التزام المغاربة بالحفاظ على هويتهم الوطنية وتاريخهم المشترك، ويؤكد على أهمية التضامن والتعاون لتحقيق التنمية المستدامة والازدهار في كافة ربوع المملكة.

التنمية في وادي الذهب

منذ استرجاعه، شهد إقليم وادي الذهب تطورًا ملموسًا في مختلف المجالات، حيث تم تنفيذ مشاريع تنموية كبيرة في مجالات الإسكان والبنية التحتية والزراعة. شملت هذه المشاريع بناء الطرق والجسور، وتطوير المرافق العامة، وتحسين الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء. ومن بين أهم المشاريع نذكر على سبيل المثال، مشروع الطريق السريع “تزنيت الداخلة” الذي يعتبر شريانًا للتنمية بامتياز، ومشروع بناء ميناء الداخلة الأطلسي الذي سيحول الصحراء المغربية إلى مركز ثقل مينائي بحري مغربي إفريقي. تشمل هذه الجهود أيضًا تعزيز الخدمات الصحية والتعليمية، ودعم الاقتصاد المحلي من خلال الاستثمارات والمشاريع التنموية. تسهم هذه المبادرات في رفع مستوى المعيشة وتوفير فرص العمل، مما يعزز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في المنطقة.

تعكس هذه الجهود التنموية التزام المغرب بتحقيق التنمية المستدامة في جميع أقاليمه، وتعكس أيضًا رؤية المغرب المستقبلية لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة تراعي احتياجات الأجيال الحالية والمستقبلية.

المستجدات في ملف الصحراء المغربية دوليًا

على الصعيد الدولي، تواصل المملكة المغربية جهودها لتعزيز موقفها في ملف الصحراء المغربية. في تقريره الأخير إلى مجلس الأمن، أشاد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بجدية المغرب في تعاطيه مع المبادرات الرامية إلى حل النزاع المفتعل، وأكد على التزام المغرب بوقف إطلاق النار والتعاون مع بعثة المينورسو. كما أشار التقرير إلى عرقلة جبهة البوليساريو لعمل البعثة الأممية وتصاعد التوترات العسكرية في المنطقة بدفع من الجزائر.

الاعترافات الدولية بمغربية الصحراء

في السنوات الأخيرة، شهد المغرب سلسلة من الاعترافات الدولية بمغربية الصحراء، مما يعكس جو الثقة الذي بناه المغرب بفضل دبلوماسيته الحكيمة ومصداقيته على الساحة الدولية.

الاعتراف الأمريكي: في 10 دجنبر 2020، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، مؤكدًا دعم واشنطن لمقترح الحكم الذاتي المغربي كأساس وحيد لحل النزاع. هذا الاعتراف كان بمثابة نقطة تحول كبيرة في مسار القضية، حيث عزز موقف المغرب على المستوى الدولي.

الاعتراف الإسباني: في 18 مارس 2022، أعلن رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز دعم إسبانيا لمبادرة الحكم الذاتي المغربية، معتبرًا إياها الأساس الأكثر جدية وواقعية لحل النزاع. هذا التحول في موقف إسبانيا جاء نتيجة للجهود الدبلوماسية المكثفة التي بذلها المغرب لتعزيز علاقاته مع الدول الأوروبية.

الاعتراف الفرنسي: في 30 يوليوز 2024، أعلنت فرنسا اعترافها بمخطط المغرب للحكم الذاتي كأساس وحيد لحل النزاع في الصحراء الغربية، معتبرة أن حاضر ومستقبل الصحراء الغربية يندرجان في إطار السيادة المغربية. هذا الاعتراف يعكس الثقة المتزايدة في الحلول التي يقترحها المغرب.

الاعتراف الفنلندي: في 6 غشت 2024، أعلنت فنلندا دعمها لمخطط الحكم الذاتي المغربي، معتبرة إياه أساسًا جيدًا لحل النزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية. هذا الدعم يعزز من موقف المغرب ويؤكد على مصداقيته في تقديم حلول واقعية ومستدامة.

هذه الاعترافات الدولية بمغربية الصحراء ليست سوى بداية، حيث من المتوقع أن تتبعها اعترافات أخرى، خاصة من داخل الاتحاد الأوروبي. إن هذا الدعم الدولي المتزايد يعكس الثقة في رؤية المغرب المستقبلية لحل النزاع وتحقيق التنمية والازدهار في المنطقة.

فتح القنصليات

شهدت الأقاليم الجنوبية للمغرب، وخاصة مدينتي العيون والداخلة، افتتاح العديد من القنصليات من دول مختلفة، تأكيدًا لدعمها لموقف المغرب في النزاع حول الصحراء المغربية. منذ ديسمبر 2019، افتتحت أكثر من 24 دولة قنصلياتها في هذه المدن، مما يعكس الدعم الدولي المتزايد لمغربية الصحراء. على سبيل المثال، افتتح اتحاد جزر القمر قنصليته العامة في العيون في ديسمبر 2019، تلتها دول مثل الغابون، إفريقيا الوسطى، ساوتومي وبرينسيبي، كوت ديفوار، ومالاوي. كما افتتحت دول عربية شقيقة مثل الإمارات العربية المتحدة، البحرين، والأردن قنصلياتها في العيون.

في الداخلة، افتتحت دول مثل غامبيا، غينيا، جيبوتي، ليبيريا، غينيا الاستوائية، غينيا بيساو، بوركينا فاسو، هايتي، غواتيمالا، جمهورية الرأس الأخضر، طوغو، سورينام، ومنظمة دول شرق البحر الكاريبي قنصلياتها العامة. هذه الخطوات تعكس الدعم الدولي المتزايد لموقف المغرب بشأن قضية الصحراء المغربية، وتعزز طرحه للحكم الذاتي كحل سياسي واقعي ودائم. كما تساهم في دفع عجلة التنمية في الأقاليم الجنوبية، وتشجع على مزيد من الاستثمارات والمشاريع التنموية التي تعزز استقرار المنطقة وازدهارها.

تراجع الاعتراف بالجمهورية الوهمية

شهدت السنوات الأخيرة تراجعًا ملحوظًا في عدد الدول التي تعترف بما يسمى “الجمهورية الصحراوية”. على سبيل المثال، أعلنت كينيا في شتنبر 2022 سحب اعترافها بالجمهورية الوهمية، مما يعكس تزايد الدعم الدولي لموقف المغرب. هذا التراجع ليس حالة فردية، بل هو جزء من اتجاه أوسع يشمل العديد من الدول التي قامت بتجميد أو سحب اعترافها بالجمهورية الصحراوية. حتى الآن، قامت أكثر من 44 دولة بتجميد أو سحب اعترافها بالجمهورية الصحراوية، مما يعكس تحولًا في المواقف الدولية تجاه النزاع في الصحراء المغربية.

تأتي هذه التحولات نتيجة للجهود الدبلوماسية المكثفة التي يبذلها المغرب لتعزيز موقفه على الساحة الدولية، بالإضافة إلى تقديمه لمبادرة الحكم الذاتي كحل سياسي واقعي ودائم للنزاع. هذه المبادرة حظيت بدعم واسع من المجتمع الدولي، مما ساهم في تعزيز موقف المغرب وتقليص عدد الدول التي تعترف بالجمهورية الوهمية. يعكس هذا التراجع في الاعترافات الدولية تحولًا نحو دعم الحلول السلمية والتنموية التي يقترحها المغرب.

فشل مشروع الانفصال الجزائري

مع تزايد الدعم الدولي لمقترح الحكم الذاتي المغربي، أصبح واضحًا أن مشروع الانفصال الذي مولته الجزائر قد فشل. هذا الفشل يأتي نتيجة للجهود الدبلوماسية المكثفة التي بذلها المغرب لتعزيز موقفه على الساحة الدولية، بالإضافة إلى تقديمه لمبادرة الحكم الذاتي كحل سياسي واقعي ودائم للنزاع في الصحراء المغربية. على سبيل المثال، أظهرت تصريحات المعارض الجزائري أنور مالك أن الجزائر أصبحت ألعوبة في يد الحركات الانفصالية، مما يعكس تخبط النظام الجزائري في إدارة أزماته الداخلية والخارجية.

هذا الفشل يأتي على حساب رفاهية الشعب الجزائري، الذي يعاني من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في بلاده. بينما تستمر الجزائر في تمويل ودعم جبهة البوليساريو، يعاني الشعب الجزائري من نقص في الخدمات الأساسية وتدهور في مستوى المعيشة. هذا الوضع يعكس التناقض بين الموارد الكبيرة التي تمتلكها الجزائر وبين الحالة الاقتصادية والاجتماعية المتردية التي يعيشها المواطنون. في المقابل، يواصل المغرب تحقيق إنجازات دبلوماسية وتنموية في أقاليمه الجنوبية، مما يعزز موقفه ويزيد من عزلة الأطروحة الانفصالية.

يخلد الشعب المغربي ذكرى استرجاع وادي الذهب سنويًا في 14 غشت، مما يعكس الأهمية الكبيرة لهذا الحدث في الذاكرة الوطنية. يُعد هذا الاحتفال فرصة لتجديد العهد والولاء للوطن وللتأكيد على الوحدة الوطنية والتضامن بين جميع المغاربة. تبقى ذكرى استرجاع وادي الذهب رمزًا للوحدة الوطنية والتنمية المستدامة التي يسعى المغرب لتحقيقها في جميع أقاليمه.

هذا الحدث التاريخي يعكس قوة الإرادة الوطنية والتلاحم بين العرش والشعب، ويجسد الرؤية المستقبلية للمملكة نحو تحقيق التنمية والازدهار. إن الاحتفال بذكرى استرجاع وادي الذهب هو تأكيد على أن المغرب، تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس وشعبه المتلاحم، قادر على مواجهة التحديات وتحقيق الإنجازات. إنه تذكير دائم بأن الوحدة الوطنية هي الأساس الذي يبنى عليه مستقبل مشرق ومستدام، حيث تتجسد فيه قيم التضامن والتعاون لتحقيق رفاهية وازدهار جميع أبناء الوطن.

 

 

المصدر: أخبارنا

كلمات دلالية: الحکم الذاتی المغربی التنمیة المستدامة الصحراء المغربیة على سبیل المثال الوحدة الوطنیة الدعم الدولی الحسن الثانی موقف المغرب فی الصحراء تعزیز موقف لحل النزاع هذا الحدث مما یعکس یعکس ا

إقرأ أيضاً:

الإمارات من الصحراء إلى الريادة الخضراء

هالة الخياط (أبوظبي)

في أقل من نصف قرن، نجحت دولة الإمارات العربية المتحدة في إعادة رسم علاقتها بالبيئة على نحو جعلها واحدة من أبرز النماذج العالمية في التوازن بين التنمية الاقتصادية وحماية الطبيعة. 
فمن أرض صحراوية شحيحة الموارد، نشأت دولة تبني اليوم اقتصاداً متنوعاً منخفض الكربون، وتُصمّم سياسات بيئية قائمة على المعرفة والابتكار، وتشارك في قيادة العمل المناخي العالمي، وتحوّل إرث المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، إلى منظومة مؤسسية متكاملة تعمل وفق أحدث المعايير الدولية.
ومنذ بدايات الاتحاد، شكّل الاهتمام بالبيئة جزءاً أصيلاً من رؤية المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، الذي آمن بأن «البيئة ليست ملكاً لجيل واحد، بل أمانة للأجيال المقبلة». هذا الإيمان تحوّل إلى نهج وطني شامل، حيث تواصل القيادة الرشيدة هذا النهج بوعي أكبر يتناسب مع متطلبات القرن الحادي والعشرين. وأرسى صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، رؤية متكاملة تقوم على دمج البعد البيئي في كل مراحل التنمية، وتعزيز التوازن بين متطلبات الاقتصاد الحديث واستدامة الموارد الطبيعية.
وهذا التحوّل العميق لم يكُن وليد السنوات الأخيرة فحسب، بل امتداداً لرؤية تأسيسية رسّخت العلاقة بين الإنسان والطبيعة في صميم مشروع بناء الدولة. واليوم، ومع تسارع التحديات المناخية عالمياً، تتقدم الإمارات بخطى ثابتة نحو عام 2050، مستندةً إلى استراتيجيات وطنية طموحة، ومبادرات بيئية واسعة النطاق، وتعاون دولي مكثّف، ونظام بحثي يزداد رسوخاً وقدرة على خلق الحلول.

يقول محمد سعيد النعيمي، وكيل وزارة التغير المناخي والبيئة، إن دولة الإمارات تواصل ترسيخ مكانتها كإحدى الدول الرائدة عالمياً في حماية البيئة والعمل المناخي، من خلال رؤية وطنية متكاملة تجمع بين التنمية المستدامة والنمو الاقتصادي وحماية الموارد الطبيعية. 

ويضيف: «لقد شهدت السنوات الأخيرة نقلة نوعية في العمل البيئي والمناخي في الدولة، سواء من حيث التشريعات والسياسات أو من حيث تنفيذ المبادرات والمشروعات الميدانية. وأصبحت حماية البيئة والعمل المناخي جزءاً أساسياً من خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فاليوم، لا ينظر إلى الاستدامة باعتبارها التزاماً بيئياً فحسب، بل كأداة لتحقيق الأمن الاقتصادي والاجتماعي والغذائي للدولة».
ويشير وكيل الوزارة إلى أن استراتيجية الإمارات للحياد المناخي 2050 ليست مجرد خطة لخفض الانبعاثات، بل برنامج وطني شامل لتحويل التحديات المناخية إلى فرص تنموية جديدة. وتعمل الاستراتيجية على إعادة تشكيل منظومة العمل في ستة قطاعات رئيسية هي الطاقة، الصناعة، النقل، الزراعة، المباني، والنفايات، مع التأكيد على أن النمو الاقتصادي والعمل المناخي يسيران جنباً إلى جنب. 
وقد بدأت الدولة بالفعل تنفيذ مشروعات استراتيجية في مجالات الطاقة النظيفة والتحول الصناعي الأخضر، وتطوير تقنيات النقل المستدام، فيما تُمثل الأجندة الوطنية الخضراء 2030، إطاراً طويل الأجل لتحويل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد أخضر يعتمد على المعرفة والابتكار.

نموذج عالمي 
وبعد خمسة عقود من تأسيس الاتحاد، تقف دولة الإمارات اليوم كنموذج عالمي في دمج التنمية الاقتصادية مع حماية البيئة، حيث لا تُعتبر الاستدامة مجرد شعار، بل ممارسة يومية متجسّدة في السياسات والمشاريع والوعي المجتمعي. ومن الصحراء إلى المدن الخضراء والمشاريع الطموحة للطاقة المتجددة، تؤكد الإمارات أن الإنسان والطبيعة يمكن أن يلتقيا في تناغم وانسجام مستدام، في رؤية وطنية بعيدة المدى تستهدف الحياد المناخي بحلول عام 2050.
ويشير محمد سعيد النعيمي وكيل وزارة التغير المناخي والبيئة، إلى أن استراتيجية الإمارات للحياد المناخي 2050، لا تقتصر على خفض الانبعاثات، بل تشكّل برنامجاً وطنياً شاملاً يربط بين النمو الاقتصادي وحماية الموارد الطبيعية. ويضيف: «نحن نسعى إلى تحويل التحديات المناخية إلى فرص تنموية، من خلال مشاريع الطاقة النظيفة، والتحول الصناعي الأخضر، والنقل المستدام، والزراعة الذكية، وحماية التنوع البيولوجي، ضمن إطار عمل يدمج البحث العلمي والابتكار والتكنولوجيا».

الزراعة محور أساسي
ويمثل قطاع الزراعة محوراً أساسياً في مساعي دولة الإمارات لمواجهة التغير المناخي وتعزيز الأمن الغذائي المستدام. 
ويشير محمد سعيد النعيمي، وكيل وزارة التغير المناخي والبيئة، إلى أن الوزارة تعمل على تنفيذ مبادرات طموحة لتطوير منظومة الإنتاج الزراعي المحلي، ورفع كفاءة استخدام الموارد، بما يشمل تطبيق تقنيات الزراعة الذكية مناخياً والزراعة العمودية والمائية. وقد تم العام الماضي إطلاق المركز الزراعي الوطني، ليكون منصةً وطنية متخصّصة في البحث والابتكار الزراعي، بما يعزّز الإنتاج المحلي من المحاصيل الاستراتيجية ويقلّل الاعتماد على الواردات، مع دعم المزارعين المواطنين بالتدريب والبرامج والتقنيات الحديثة الذكية مناخياً.
وليس الزراعة وحدها محور الجهود، بل تولي الدولة اهتماماً خاصاً بقطاع الثروة السمكية، الذي يُعد رافداً أساسياً للأمن الغذائي الوطني ومكوناً أصيلاً في تراث الإمارات. وتؤكد الوزارة على تطوير ممارسات الصيد المستدامة، التي تضمن الحفاظ على المخزون السمكي للأجيال القادمة، بالتوازي مع تنمية مشاريع الاستزراع السمكي الحديثة، لتلبية الطلب المتزايد على الأسماك مع الالتزام بأعلى معايير الاستدامة البيئية. هذه الإجراءات تأتي ضمن استراتيجية وطنية شاملة للأمن الغذائي، تهدف إلى بناء منظومة غذائية مرنة وقابلة للتكيف مع التغيرات المناخية، وضمان استدامة الموارد الطبيعية.
كما يُعد ملف جودة الهواء من الأولويات الوطنية، باعتباره ركيزة أساسية لجودة الحياة ومحركاً للتنمية المستدامة. ويؤكد النعيمي وكيل وزارة التغير المناخي والبيئة أن «الأجندة الوطنية لجودة الهواء 2031 تمثّل الإطار الاستراتيجي الذي يوحد الجهود الوطنية ويحدد مستهدفات هذا الملف الحيوي»، مع اعتماد نهج تشاركي يجمع بين الجهات الحكومية، والقطاع الخاص، والأوساط الأكاديمية، لضمان تطبيق أفضل الحلول والتقنيات للوصول إلى هواء نقي ومستدام.

حماية الطبيعة
وفي سياق تعزيز الحضور الإماراتي في مجال حماية الطبيعة، تقول الدكتورة شيخة سالم الظاهري أمين عام هيئة البيئة - أبوظبي: إن «استضافة أبوظبي للمؤتمر العالمي للاتحاد الدولي لحماية الطبيعة (IUCN) مثّلت محطة محورية في مسيرة ريادة الدولة» مؤكدة أن هذه المؤتمرات وفّرت منصة لاستعراض التجربة الإماراتية في الحلول القائمة على الطبيعة لمواجهة التغير المناخي، وتعزيز كفاءة إدارة الموارد الطبيعية وحماية التنوع البيولوجي عبر سياسات علمية مبتكرة. 
وتضيف: «الحفاظ على الطبيعة ليس هدفاً بيئياً فحسب، بل التزاماً وطنياً مستمراً، يتحقق من خلال تحويل مخرجات هذه المؤتمرات إلى مشاريع واقعية على أرض الواقع، بما يدعم الأجندة البيئية العالمية ويعزّز شراكات دولية فاعلة».
وتتجلى رؤية الإمارات أيضاً في حماية التنوع البيولوجي والنظم البيئية، حيث تم تطوير شبكات المحميات الطبيعية وتوسيع نطاقها لتشمل مختلف المناطق، مع مشاريع نوعية لإعادة تأهيل الموائل الطبيعية واستزراع الشعاب المرجانية وزراعة أشجار القرم. 
وفي هذا الإطار، يشير محمد سعيد النعيمي وكيل وزارة التغير المناخي والبيئة إلى أن الدولة قامت حتى الآن بزراعة أكثر من 50 مليون شجرة قرم باستخدام تقنيات حديثة مثل الطائرات من دون طيار وتحديد المواقع الدقيقة للزراعة، ضمن تحقيق هدف زراعة 100 مليون شجرة بحلول عام 2030. وتعكس هذه المبادرات اهتمام الإمارات بالحلول القائمة على الطبيعة، وهو ما يبرز في إطلاق «تحالف القرم من أجل المناخ» بالتعاون مع إندونيسيا، الذي يضم أكثر من 45 دولة تسعى إلى تعزيز دور النظم الساحلية في امتصاص الكربون وحماية التنوع البيولوجي البحري.

مبادرات عابرة للحدود

لا تقتصر الريادة الإماراتية على الداخل فحسب، بل تمتد لتصبح قوة فاعلة على المستوى الدولي. فقد أطلقت الدولة مبادرات عابرة للحدود، مثل «مبادرة محمد بن زايد للماء»، ومؤسسة الأنهار النظيفة، وصندوق ألتيرا الذي تم الإعلان عنه خلال مؤتمر COP28، ويستهدف حشد 250 مليار دولار للاستثمار في حلول مواجهة تغير المناخ. كما تستضيف الإمارات مؤتمرات عالمية كبرى، مثل مؤتمر الأطراف COP28 والمشاركة في مؤتمر الأمم المتحدة للمياه، لتكون منصة حوار دولية تجمع الخبراء وصناع القرار لمواجهة التحديات المناخية بشكل مشترك.

ويشير خبراء دوليون إلى أن تجربة الإمارات في الجمع بين البحث العلمي والتطبيق العملي تمثّل نموذجاً يمكن تعميمه عالمياً. فليز بيغون، ممثلة منظمة هارت فولنس، تقول: «الابتكار التقني الذي توظفه الإمارات في مشاريعها البيئية، مثل استخدام الذكاء الاصطناعي والطائرات المسيّرة في زراعة أشجار القرم واستعادة الموائل الطبيعية، يجعل الدولة فاعلاً رئيسياً في مستقبل العمل البيئي العالمي». 

كما تؤكد ليليانا يورغي من لجنة الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة في هولندا أن الإمارات أصبحت منصة عالمية مؤثرة في صياغة مستقبل العمل البيئي من خلال سياساتها الفاعلة واستضافتها للمؤتمرات الدولية، ما يعزّز قدرتها على حماية الأنواع المهددة بالانقراض والتدهور البيئي.

أخبار ذات صلة مشاركة قياسية في «الاستعراض الحر للسيارات» «ربدان» تنال اعتماد الرابطة الجنوبية للكليات بأميركا

وأكدت آدا ناتولي، أستاذ مساعد في جامعة زايد ومؤسسة مبادرة مشروع دولفين الإمارات، أن دولة الإمارات حققت تقدماً ملحوظاً على المستوى الوطني والإقليمي والدولي في مجال حفظ التنوع البيولوجي وتعزيز القدرة على التكيف مع التغير المناخي، مشيدة بسرعة الدولة في تنفيذ السياسات البيئية الرئيسية وفاعليتها في دعم المبادرات الوطنية والإقليمية والعالمية لحماية الأنواع الرئيسة.
وأوضحت أن تجربة الإمارات في إدارة واستعادة النظم البيئية في البيئات القاحلة، تمثّل نموذجاً يمكن أن يستفيد منه الآخرون، مشيرة إلى أن البيئة البحرية أيضاً تحظى باهتمام خاص، حيث تعمل مبادرة مشروع دولفين الإمارات بالتعاون مع جامعات وجهات محلية وعالمية على حماية الحيتان والدلافين والخنازير البحرية، التي تلعب دوراً محورياً في صحة النظم البيئية البحرية.
كما شدّدت على أهمية المنصات الدولية والتعاون العالمي مثل استضافة أبوظبي للمؤتمر العالمي للاتحاد الدولي لحماية الطبيعة، مؤكدة أن الاجتماعات الحضورية تظل وسيلة فعّالة لتبادل الخبرات والتوصل إلى اتفاقيات مشتركة، مع التأكيد على الحاجة لتطوير أدوات لقياس التأثير الفعلي للمؤتمرات على المدى القصير والمتوسط والطويل.

الطاقة النظيفة

 تتصدر الإمارات العالم في تبني الطاقة النظيفة وتحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والاستدامة. 
ويشير محمد سعيد النعيمي، وكيل وزارة التغير المناخي والبيئة، إلى أن استراتيجيات الدولة لا تقتصر على خفض الانبعاثات فحسب، بل تشمل مشاريع ضخمة للطاقة المتجددة، مثل مجمع محمد بن راشد للطاقة الشمسية ومشروعات شركة «مصدر» حول العالم، إلى جانب تطوير الطاقة النووية السلمية في براكة. 

ويضيف: «استراتيجياتنا الوطنية تُظهر أن النمو الاقتصادي والعمل المناخي يسيران جنباً إلى جنب، حيث تُحوّل التحديات البيئية إلى فرص تنموية مبتكرة».
وتأتي هذه الجهود ضمن أطر شاملة مثل الأجندة الوطنية الخضراء 2030، التي تمثل خريطة طريق طويلة الأجل لتحقيق التنمية المستدامة وتحويل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد أخضر. وتستند الأجندة إلى خمسة مسارات استراتيجية تشمل تعزيز الطاقة النظيفة والتكيّف مع التغير المناخي، وتطوير اقتصاد معرفي تنافسي، وضمان بيئة مستدامة وقيمة للموارد الطبيعية، بما يدعم مباشرة جهود العمل المناخي ويعزّز التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

نموذج للحضارة البيئية

قدمت الإمارات للعالم نموذجاً متكاملاً للحضارة البيئية، حيث تتجسّد الاستدامة في كل جانب من جوانب الحياة: من السياسات الحكومية والمبادرات المجتمعية، إلى البحث العلمي والابتكار التكنولوجي، وصولاً إلى الشراكات الدولية الفاعلة. وهكذا، تتقدم الدولة بخطى ثابتة نحو عام 2050، محافظة على إرث الشيخ زايد، وراعية للبيئة، وملتزمة بتحقيق مستقبل مزدهر ومستدام لأجيالها القادمة، لتصبح بحق عاصمة عالمية للحضارة البيئية، حيث يلتقي الإنسان والطبيعة في انسجام مستدام.

البحث العلمي 

يقول البروفيسور ربيع رستم، أستاذ الطاقة وعلوم الأرض والبنية التحتية بجامعة هيريوت وات دبي: استطاعت الإمارات تحويل إرث الشيخ زايد إلى نظام مؤسّسي متكامل يعتمد على البحث العلمي والسياسات المستدامة. 
ويضيف: «دمج أهداف الحياد المناخي ضمن استراتيجية الإمارات للحياد المناخي 2050 يعكس توجهاً استراتيجياً يربط بين النمو الاقتصادي والالتزام بسياسات مدعومة بأدلة بحثية. ومع ذلك، يبقى التحدي في ضمان التنفيذ الشامل والمستدام لتلك السياسات عبر تطوير البنية التحتية البحثية والكفاءات الوطنية، وآليات تقييم ومساءلة فعالة».

الذكاء الاصطناعي

تدعم تقنيات المعلومات والذكاء الاصطناعي إدارة التنوع البيولوجي بشكل ملموس، كما يوضح دكتور رستم أنه «تم استخدام خوارزميات التعلم العميق وتحليلات بيانات الأقمار الصناعية لرصد تكاثر غابات القرم، بما أظهر توسعاً يفوق 9.000 هكتار حتى عام 2024، مع تحسين حسابات مخزون الكربون باستخدام نماذج ذكاء اصطناعي متقدمة». 
ويشير إلى أن هذه الجهود تمثّل نموذجاً ناجحاً يدمج التكنولوجيا والبحث العلمي لدعم إدارة النظم البيئية بفعالية، مع تعزيز قدرة الدولة على مواجهة فقدان التنوع البيولوجي والتغيرات المناخية.

الابتكار

تؤكد الدكتورة شيخة الظاهري أمين عام هيئة البيئة - أبوظبي أن الابتكار والتكنولوجيا هما العمود الفقري للنجاح في هذا المسار. وتشير إلى أن دمج الذكاء الاصطناعي والطائرات المسيّرة وتحليل البيانات الضخمة في إدارة النظم البيئية، يمثل مثالاً عملياً على كيفية توظيف الإمارات للتقنيات الحديثة في خدمة البيئة، مشيرة إلى أن مشاريع مثل زراعة 100 مليون شجرة قرم، التي تنفّذ نصفها باستخدام الطائرات لتحديد مواقع الزراعة بدقة عالية، ما يعكس التزام الدولة بالحلول القائمة على الطبيعة والتكنولوجيا معاً.
وفي سياق البحث العلمي، يوضح بروفيسور ربيع رستم أن الجامعات ومراكز البحث تلعب دوراً محورياً في دعم أهداف الحياد المناخي 2050. فالجامعات تنتج معرفة وأدوات تقييم تسمح بفهم ديناميات الانبعاثات وتحديد فرص تخفيضها، كما تطوّر تقنيات مبتكرة في مجالات الطاقة المتجددة وكفاءة استهلاك الطاقة والتقاط الكربون، مع بناء قدرات وطنية متخصّصة وتقديم حلول عملية قابلة للتطبيق على أرض الواقع.

رؤية متكاملة 
تواصل الدولة تعزيز الشراكات المجتمعية والقطاع الخاص، مؤمنة بأن حماية البيئة مسؤولية مشتركة. وتشمل المبادرات الوطنية برامج لرفع الوعي البيئي، وتحفيز المشاركة التطوعية في حماية الحياة الفطرية، وزراعة الأشجار، وإدارة النفايات، ما يعكس إدراك الإمارات أن نجاح العمل البيئي يعتمد على السياسات الحكومية بقدر اعتمادها على وعي وسلوك الأفراد.
وبهذه الرؤية المتكاملة، تجمع الإمارات بين الابتكار التكنولوجي، البحث العلمي، السياسات الوطنية، والشراكات الدولية والمجتمعية، لتثبت أن التنمية الاقتصادية والاستدامة البيئية يمكن أن تسير جنباً إلى جنب، وأن حماية الطبيعة ليست خياراً، بل ركيزة أساسية في استراتيجية الدولة لبناء مستقبل مستدام وآمن للأجيال القادمة.

 

مقالات مشابهة

  • الذكرى الأولى لرحيل "القبطان".. نبيل الحلفاوي وإرث فني خالد يخلّد ذكراه
  • الإمارات من الصحراء إلى الريادة الخضراء
  • نائب القائد العام: نبارك إجراء الانتخابات البلدية ونؤكد دعمنا للاستحقاقات الوطنية التي تدعم مسار بناء الدولة
  • خليل الحية يوضح أولويات حماس في الذكرى الـ38 لتأسيس الحركة
  • منذر بودن: منطقة القبائل صمّام الوحدة الوطنية
  • طارق الشناوي: التقمص الوجداني هو الفيصل في تجسيد الشخصيات التاريخية وليس الشبه الشكلي
  • كوزمين يجهز «الأبيض» لموقعة «مربع الذهب» في «كأس العرب»
  • الشركات الليبية تعرض منتجاتها بـ«ملتقى الأعمال الإفريقي» في المغرب
  • محافظ الإسكندرية: افتتاح مسجدي "بشاير الخير 3 و5" امتداد لمسيرة الإعمار
  • ملك بريطانيا يتطلع لزيارة المتحف المصري الكبير: «تجسيد معاصر للحضارة المصرية»