آلية دفاعية.. مبالغات رائجة بمواقع التواصل عن الحضارة المصرية القديمة
تاريخ النشر: 12th, September 2024 GMT
من تمثال فرعوني تحدى قصف الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، إلى استخدام الكهرباء وأشعة ليزر، وصولاً إلى غزو كوكب المريخ قبل آلاف السنين، تحصد منشورات محملة بمبالغات وأخبار خيالية عن الحضارة المصرية القديمة وأمجادها عشرات آلاف المشاركات على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بمصر، في ظاهرة يصفها علماء اجتماع بأنها "آلية دفاعية" لمجتمعات تُبالغ في تمجيد الماضي تعويضا عن تراجع مكانتها في الحاضر.
وعلى مدى السنوات الماضية، ظهرت على مواقع التواصل منشورات كثيرة غير صحيحة عن الحضارة المصرية القديمة أصدرت خدمة "تقصي صحة الأخبار" بوكالة الصحافة الفرنسية تقارير فندت الكثير منها، على غرار منشورات تزعم أن أحجار الهرم الأكبر صُنعت يدويا، أو أن مصر القديمة عرفت المصابيح الكهربائية منذ القدم، وكان أغربها على الإطلاق وصول المصريين القدماء إلى كوكب المريخ قبل آلاف السنوات.
أين نحن الآن؟ويقول أستاذ علم الاجتماع السياسي المصري سعيد صادق لوكالة الصحافة الفرنسية "حين تفقد الدول مكانتها الإقليمية أو الدولية، تُبالغ شعوبها في الحديث عن الماضي (..) إنها آلية دفاعية تُعوض عن السؤال: أين نحن الآن؟".
وتعيش مصر -التي يناهز عدد سكانها 106 ملايين يقبع ثلثهم تحت خط الفقر- أزمة اقتصادية هي من الأسوأ في تاريخها بعدما سجل معدل التضخم مستوى قياسيا مدفوعا بتراجع قيمة العملة المحلية ونقص العملة الأجنبية في بلد يستورد معظم حاجاته الغذائية. ويُضاف لذلك توالي الاضطرابات السياسية والأزمات الاقتصادية.
وشهدت الحضارة المصرية القديمة تطورا علميا كبيرا ما زالت آثار البناء والتخطيط العمراني إضافة إلى النقوش شاهدة عليه إلى اليوم، لكن مروجي الأخبار المضللة لا يكتفون بعرض هذه الحقائق، بل ينشرون أخبارا غير حقيقية عن التاريخ القديم.
ويقول أستاذ علم الاجتماع السياسي "على الرغم من أن الحضارة المصرية كانت مميزة بالفعل، فإن من يروجون لهذه المبالغات يبحثون عن مكانة لهم تحت الشمس، وسلاحهم هو المبالغة في الحديث عن الماضي".
وفي السنوات الماضية، ظهر منشور على مواقع التواصل ادعى أصحابه أن تمثالا للملك المصري أمنحتب الثاني كان الناجي الوحيد من بين كل مقتنيات ومعروضات متحف برلين بعد قصف الحلفاء له إبان الحرب العالمية الثانية. وتنسب المنشورات لضابط أميركي في قوات الحلفاء قوله "من صنع هذا التمثال ليسوا بشرا عاديين". لكن هذه القصة ليست سوى من خيال مروجيها، بحسب ما أكدت مديرة متحف برلين أوليفيا زرون لوكالة الصحافة الفرنسية.
وقالت "هذا التمثال لم يكن الناجي الوحيد. نجت يومذاك (من قصف الحلفاء) قطع أثرية مصرية وأخرى غير مصرية، والقطع التي تضررت كانت من بينها قطع مصرية وأخرى غير مصرية.. القطع ذات الحجم الكبير نجت كلها تقريبا".
ومن المنشورات التي تنسب إنجازات علمية وهمية للمصريين القدماء ادعاء وجود نقش أثري لمصباح كهربائي صممه المصريون القدماء واستخدموه قبل توماس إديسون بآلاف السنين. لكن ما يظهر في النقش حقيقة ليس مصباحا كهربائيا بل هو نقش رمزي يجسد نظرية خلق الكون في المعتقدات المصرية القديمة، بحسب خبراء آثار وتاريخ استطلعت آراءهم وكالة الصحافة الفرنسية.
وفي السياق نفسه، ظهرت منشورات تدعي أن المصريين القدماء استخدموا أشعة ليزر أو تقنيات متطورة للحفر على الغرانيت، لكن هذا الادعاء ليس سوى "خرافة" بحسب علماء الآثار والتاريخ.
خبراء المريخوتم التداول على نطاق واسع بتقرير مصور بالعربية يتحدث عن وصول الفراعنة إلى المريخ، يستند الى أقوال "خبراء". لكن هؤلاء الأخيرين ليسوا سوى هواة معروفين بأفكارهم الغريبة. أما الخبير الحقيقي الوحيد الذي ورد اسمه في التقرير -وهو عالم الآثار المصري زاهي حواس- فقد نفى لوكالة الصحافة الفرنسية صحة ما نُسب إليه من معلومات "خرافية".
ويرى حواس أن الهدف الأساسي لمروجي هذه الأخبار هو "تحقيق نسب مشاهدة عالية" حتى وإن كان ذلك "على حساب العلم والحقيقة".
وتحصد هذه الأخبار عشرات آلاف المشاركات ومئات آلاف التعليقات، لا سيما في مصر.
وتعليقا عليها، يقول المؤرخ المصري عاصم الدسوقي لوكالة الصحافة الفرنسية "حين يصدق الناس المنشورات المليئة بالمبالغات والأكاذيب عن تاريخ بلادهم، فهذا يعبر عن أزمة هوية حقيقية".
ومن المزاعم الخرافية، المتداولة أيضا منذ سنوات، منشورات تدعي أن المرأة في مصر القديمة كانت هي المسؤولة عن توزيع الميراث، وهو ما ينفيه الخبراء. أو أن أقدم قبر في التاريخ هو قبر أوزوريس لكنه ليست سوى شخصية أسطورية غير موجودة تاريخيا.
ويقول الدسوقي وهو أيضا أستاذ التاريخ المعاصر والحديث بجامعة عين شمس "نحن لا نعرف من المصدر الأساسي لنشر هذه القصص المختلقة عن الحضارة المصرية على وسائل التواصل، لكن ما يساعد في نشرها هو غياب العلم وانتشار الجهل".
ويعود صادق أستاذ علم الاجتماع السياسي فيقول "هذه طبيعة إنسانية، وتحدث في كل المجتمعات التي كانت لها حضارة أو مكانة دولية ثم بات حاضرها أسوأ، وهذه الآلية الدفاعية تجعل هؤلاء الأشخاص يشعرون بالتوازن".
ويتابع "حين يكون إحساس الشخص الداخلي أن حاضره بات أسوأ، يصبح غير سعيد، ويصبح ترويج الخرافات والبحث في الماضي والمبالغة فيه وسيلة للشعور بأنه أفضل من الناحية النفسية".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الحضارة المصریة القدیمة لوکالة الصحافة الفرنسیة عن الحضارة المصریة
إقرأ أيضاً:
إعادة تدوير الماضى
لم تعد الأزمة فى الإعلام العربى، والمصرى تحديدًا، أزمة أدوات أو منصات؛ بل أزمة خيال مهنى فقد القدرة على اختراق الغد، وبات يعيش على فتات الأمس. اليوم، حين تفتح صحيفة أو موقع أو شاشة فضائية، ستجد إما صدى قديمًا لحدث انتهى، أو إعادة تدوير لعناوين شاخت حتى قبل أن تُكتب، أما أن تبحث عن المختلف، العميق، القادر على أن يشدّك، فذلك يشبه البحث عن واحة فى صحراء ممتدة.
الصحافة الحقيقية ليست تلك التى تتنفس على رئة «التريند»، ولا تلك التى تجرى خلف «بوست» أو «هاشتاج»؛ الصحافة الحقيقية هى التى تقرأ المستقبل، تفكّ شفراته، وتقدّم للقارئ ما لا يعرفه، لا ما يعرفه الجميع. فحين تصطدم بمادة صحفية محترمة، ستجد نفسك — رغمًا عنك — تروّج لها، حتى لو لم تكن جزءًا من هذا الكيان، فالمحتوى الجيد يفرض نفسه، دون إعلان، ودون دعاية، ودون ضجيج.
إن ما يرهق الناس اليوم ليس كثرة الأخبار، بل رخص التجارة المبنية على عناوين صفراء تُباع منذ أكثر من ربع قرن، تلك التى تُسمّى — مجازًا — «صحافة بير السلم».
عناوين مستهلكة، قضايا هزيلة، طرق عرض مكررة، وتناول لم يعد يصلح لزمن تغيّر فيه كل شيء… إلا بعض الصحف!
القارئ المصرى لم يعد هو قارئ التسعينيات؛ هو الآن قارئ فطن، مسلح بكمّ هائل من المعرفة، يستطيع فى ثوانٍ أن يصل إلى المعلومة، وتفكيكها، ومقارنتها، وربما كشف خطأ الصحفى نفسه. لم يعد ينتظر الصحيفة كى تخبره بـ«ماذا حدث؟»؛ هو يريد الصحفى الذى يخبره: «لماذا حدث؟ وماذا سيحدث بعد ذلك؟».
نحن اليوم فى سباق مع:
الصحافة المحلية والصحافة العربية والإقليمية، والصحافة العالمية، والقارئ نفسه الذى بات شريكًا فى صناعة المعرفة.
الأزمة إذن ليست «سقفًا» نعليه أو نخفضه؛ الأزمة فى المحتوى ذاته: ضعيف، مكرر، مستهلك، ومصدره الأساسى ويا للعجب السوشيال ميديا، التى يفترض أنها جزء من المادة الخام، وليست مصدرًا وحيدًا للكتابة.
إن بقاء الصحافة رهن «خبر عاجل» لم يعد ممكنًا.
وأن تبقى أسيرة «قالت المصادر» دون تحليل، ونبض، ورؤية، فهذا انتحار مهنى بطيء.
ما بعد الخبر أصبح اليوم أهم من الخبر ذاته.
الإعلام الذى يريد البقاء لا بد أن يقدّم أشكالاً صحفية جديدة: تحقيقات معمقة، تقارير استشرافية، ملفات كبرى، وثائق، ومحتوى يسبق الحدث لا يلهث وراءه.
الإعلام الذى يريد أن يكون مؤثرًا لا بد أن يتخلّى عن «النسخ واللصق»، ويعود إلى غرفة التفكير، لا غرفة العناوين.
فالإعلام الذى يقرأ المستقبل… هو وحده الذى يصنعه.