لم تُتَح لي بعد زيارة الكثير من الأماكن السياحية فـي سلطنة عُمان، فما زلت جديدًا فـي أرض قديمة، ولكن فـيما تيسر لي زيارته من مدن فإنها تركت فـيني شواغل ظلت تطَّن فـي ذهني، وهو كيف جرى هذا العناق الدافئ بين الحداثة والتاريخ فـي هذا البلد، ذلك أن داخل كل مكان عُماني مزاوجة بين القديم والحديث،وروحًا من المصالحة تعيشها هذه البيئة، مكان لا يسمح للحداثة بالتخريب.

فالمكان العماني نجح فـي تحقيق مواءمة قوية بينها وحق الطبيعة فـي التعبير عن نفسها، وإنسان يغرفُ من تراث الأصالة الكثير، إنه المكان الذي نجح فـي إزالة الحدود بين الإنسان وهويته الثقافـية.

كما أنني وفـي كل مرة أطل من نافذة الطائرة وأنظر من أعلى، أكتشف كيف سَيّجت هذه الطبيعة سلطنة عُمان لتبدو الجبال من أعلى جغرافـيا حصينة مشحونة بالأسرار التي لم تكتشف بعد، أسرار تكشف عن عبقرية المكان الذي ساهم فـي بناء حالات الانسجام بين الحاضر والماضي، أما إنسان هذه الجغرافـيا فهو الترجمة الحيَّة لهذه العبقرية واحترامها بل وترويضها لصالح استثمار جمالياتها، والسؤال كيف له أن يفعل ذلك؟ كيف يمكن أن يستثمر فـي هذا الإرث لصالح صياغة مفهوم «السياحة الثقافـية»؟.

إن هدف هذا المقال فهم الكيفـية التي ينبغي عليها تعزيز الهوية الثقافـية، والمطلوبات الرئيسة لصالح جعل هذا النوع من النشاط الاقتصادي يسجل أعلى درجات الفاعلية، مع الحفاظ على المكان واحترام حقه فـي البقاء صامدًا فـي وجه سطوة التغريب وتهديد الهوية، وليحدث هذا ينبغي إدغام الثقافـي فـي الاقتصادي؛ فالسياحة الثقافـية وبالتعريف الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة للسياحة فـي دورتها الثانية والعشرين (2017م)، إنها «نوع من النشاط السياحي يكون فـيه الدافع الأساسي للزائر هو المعرفة والاكتشاف والاستهلاك والتجربة»، وعوامل الجذب المتوقعة تتصل بـ«المنتجات الثقافـية وهي تلك المرتبطة بالثقافة المحلية «مادية وروحية وعاطفـية...» والتي تتمثل فـي «الفنون والعمارة والتراث التاريخي والثقافـي، والمطبخ المحلي والموسيقى الشعبية الوطنية، وكافة الصناعات الإبداعية المُعبرة عن قيم وتقاليد ومعتقدات الشعوب». كما أن من الآثار الكبرى للسياحة الثقافـية أنها تدعم الحوار بين الثقافات المختلفة وتعزز أطر التفاهم والتسامح بين الشعوب، كما أنها أداة لتعزيز الهويات المحلية والوطنية التي تمتن أكثر الانتماء الوطني بين أفراد الشعب.

وفـي الحالة العُمانية فإن الإرث الثقافـي هنا ضارب فـي القدم وحائز على أشكال من تنوع بيئي وثقافـي واجتماعي مما يجعل من سلطنة عُمان أكثر البيئات الثقافـية فـي المنطقة العربية قدرة على بناء منظومة متكاملة لصالح سياحة ثقافـية تملك دهشتها الخاصة، فهذا بلد يملك تنوعًا ثقافـيًا فـي كل شيء، بيئتها الجغرافـية وتضاريسها.. هذا بالإضافة إلى المواقع التراثية والدينية، والأشكال المتنوعة من الحرف اليدوية، والفنون، وفن الطهي، وحتى المهرجانات والفعاليات وغيرها من أشكال التراث المادي، وعُمان تزخر بالعديد من التعبيرات الثقافـية والإبداعية بحكم بيئتها المتنوعة.

كما أن للسياحة الثقافـية الدور الكبير فـي تحسين الدخل القومي عبر تنشيط سوق العمل فبحسب المجلس العالمي للسفر والسياحة (WTTC) يوفر هذا القطاع أكثر من (330) مليون وظيفة على مستوى العالم، وهي وظائف نوعية إذ ترتكز على عمليات تأهيل مستمرة للكادر البشري، بالإضافة إلى قطاعات أخرى كالمهنيين من خلال عمليات الترميم والصيانة للحفاظ على التراث المادي، أضف إلى ذلك قدرتها على إنشاء أسواق فرعية مثل: أسواق الحِرف اليدوية، وسلاسل المطاعم، وأسواق المشغولات الثقافـية الأخرى، كما أن السياحة الثقافـية بأشكالها المختلفة (السياحة التراثية، والسياحة الفنية، والسياحة الإبداعية) نجحت فـي بلدان كثيرة وهي تتفاعل مع القطاعات الخدمية والاقتصادية والصناعية فـي تجذير الهوية المحلية، وبناء الشخصية القومية بمعالمها المميزة، ثم الدفع باقتصاد الدولة ناحية عمليات التكامل الإنتاجي المحقق للتنمية الشاملة.

ومن الآثار الإيجابية المترتبة على تطوير قطاع السياحة الثقافـية ما يتصل بتحسين طرق استخدام الأراضي مما يحول الكثير من المناطق النائية إلى مواقع جذب واستثمار محلي وعالمي، لكن يظل أهم مطلوب لتنمية هذا القطاع هو بناء «الفاعل الثقافـي»، والعمل على تطوير الكادر البشري ويمكن البدء عبر إدماج فكرة «تعزيز الهوية الثقافـية» فـي المناهج التربوية حتى يتسلح الجيل الجديد بذاكرة معرفـية تمكنه من فهم سياقه الاجتماعي وتطور فـيه مَلَكْة التعبير الثقافـي عن نشاطه أيًا كان القطاع الذي ينتمي إليه، وهذا ما يصنع فـي المستقبل مجتمعًا متماسكًا وواعيًا بموقعه الحضاري، ويحقق أعلى درجات التميز والإنتاجية بسبب هذا الوعي المتجذر بالذات.

إن الفرصة ثمينة أمام «المكان» العُماني لجذب الكثير من السياح حول العالم لما يملكه من تنوع باذخ وإنسان استثنائي، وبيئة ثقافـية شديدة الخصوصية، وهذا ما سيجعل السياحة الثقافـية رافعة اقتصادية تسهم بالكثير فـي تحقيق رؤية عُمان المستقبلية.

يظل «المكان» العُماني «الجُملة الكُبرى» فـي دفتر الحضارة المعاصرة كونه يحكي أقدم قصة للروح التي تسكن المكان وتعبر عن نفسها فـي تنوع عميق..

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: السیاحة الثقافـیة کما أن

إقرأ أيضاً:

لخدمة الشباب والنشء.. رئيس الوزراء يؤكد دعم الدولة للمشروعات الثقافية وتنمية الوعي بالمحافظات

أكد الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، دعم الدولة الكامل لمختلف المشروعات الثقافية المتنوعة التي تستهدف خدمة الشباب والنشء، مشددًا على أن الاستثمار في الثقافة والمعرفة يمثل ركيزة أساسية لبناء الإنسان المصري، وذلك تنفيذًا لتوجيهات القيادة السياسية وتحقيقًا لأهداف رؤية مصر 2030 للتنمية المستدامة.

جاء ذلك خلال جولة رئيس مجلس الوزراء لتفقد مشروعات المبادرة الرئاسية «حياة كريمة» بالقرى المستهدفة في محافظة القليوبية، حيث توجه إلى مكتبة مصر العامة بمدينة شبين القناطر، للاطلاع على مستوى الخدمات الثقافية والتعليمية المقدمة للمواطنين، خاصة الأطفال والشباب.

وخلال وصوله إلى مقر المكتبة، أوضح رئيس الوزراء أن مكتبات مصر العامة تلعب دورًا محوريًا في نشر الوعي الثقافي وتنمية مهارات النشء والشباب، مؤكدًا أن هذه المشروعات تأتي في إطار خطة الدولة لبناء جيل واعٍ ومثقف قادر على الإبداع والمشاركة الفعالة في عملية التنمية الشاملة.

من جانبه، أكد المهندس أيمن عطية، محافظ القليوبية، أن مكتبة مصر العامة بشبين القناطر تمثل إضافة نوعية ومهمة للمنظومة الثقافية بالمحافظة، مشيرًا إلى أن هذه المشروعات تسهم بشكل مباشر في رفع الوعي والمعرفة لدى الأجيال الجديدة، مع الحرص على تكثيف الأنشطة والفعاليات الثقافية والتعليمية بجميع فروع المكتبات؛ لضمان وصول الخدمات إلى أكبر عدد ممكن من المواطنين.

وأضاف محافظ القليوبية أن مكتبة شبين القناطر تُعد الفرع الثاني للمكتبات العامة بالمحافظة بعد مكتبة بنها، لافتًا إلى أنه جارٍ العمل على إنشاء فرع ثالث بمدينة شبرا الخيمة، بما يعكس اهتمام المحافظة بنشر الثقافة والمعرفة، مؤكدًا أن القراءة تمثل حجر الأساس في بناء وعي الشباب والنشء وصقل مهاراتهم الفكرية.

وفي السياق ذاته، أوضح السفير رضا الطايفي، مدير صندوق مكتبات مصر العامة، أن منظومة مكتبات مصر العامة تضم حاليًا 34 مكتبة عامة موزعة على 18 محافظة، بالإضافة إلى 24 مكتبة متنقلة، مشيرًا إلى أن مكتبة شبين القناطر تُعد الفرع الـ31 على مستوى الجمهورية، والثاني في محافظة القليوبية بعد مكتبة بنها، مع الاستعداد لافتتاح فرع ثالث بشبرا الخيمة خلال الربع الأول من العام المقبل.

بدورها، أوضحت أماني ناجي، مدير مكتبة مصر العامة بشبين القناطر، أن المكتبة الجديدة تتكون من ثلاثة طوابق على مساحة 210 أمتار مربعة، وتضم قاعات اطلاع مخصصة للأطفال والكبار، ومركزًا متطورًا للحاسب الآلي، وقاعة للأنشطة، ومسرحًا للعروض الثقافية والفنية، إلى جانب قاعات للأطفال للتعليم والأنشطة الإبداعية مثل القراءة والرسم وتنمية المهارات، فضلًا عن قاعات تدريب حديثة مجهزة للكبار وذوي الهمم، ومكتبة إلكترونية متطورة.

وخلال تفقده قاعة اطلاع الأطفال بالطابق الأرضي، أجرى الدكتور مصطفى مدبولي حوارًا وديًا مع الأطفال، حثهم خلاله على الاهتمام بالقراءة والاطلاع في مختلف المجالات، مؤكدًا أهمية التعرف على تاريخ مصر وحضارتها العريقة، ومشيرًا إلى أن القراءة تمثل الأساس لبناء مستقبل مشرق للأفراد والوطن.

كما شملت الجولة تفقد رئيس الوزراء للطابق الأول، حيث اطلع على معمل الحاسب الآلي، وقاعة الأنشطة، وقاعة اطلاع الكبار، وأجرى حوارًا مع عدد من الطلاب المترددين على المكتبة، الذين أكدوا استفادتهم من الأنشطة الثقافية والتعليمية المتنوعة، إلى جانب الاطلاع على أحدث الموسوعات العلمية، واختُتمت الجولة بالاستماع إلى ابتهالات دينية قدمتها إحدى الطالبات في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم.

مقالات مشابهة

  • تكريم الفائزين بالأنشطة الثقافية المصاحبة لبطولة القوس والسهم الرابعة
  • القومي للمرأة يشارك في الندوة العلمية الثقافية بـ صالون الجراح الثقافي
  • المجلس الأعلى للدولة يؤكد دعمه للمشاريع الثقافية والحضارية
  • لخدمة الشباب والنشء.. رئيس الوزراء يؤكد دعم الدولة للمشروعات الثقافية وتنمية الوعي بالمحافظات
  • مدبولي يؤكد دعم الدولة لمختلف المشروعات الثقافية المتنوعة التي تستهدف تقديم الخدمات خاصة للشباب والنشء
  • مختص: حصول العلا على لقب أفضل مشروع للسياحة الثقافية عالميا نتيجة التوازن بين الأصالة والتجديد
  • «دبي للثقافة» تُطلق النسخة الخامسة من «ليالي حتّا الثقافية»
  • مندر الظبيان تشهد انطلاقة “بوابة الشتاء” الثقافية والتراثية بمحافظة ظفار
  • من القاهرة إلى العالم.. المتحف المصري الكبير يضع مصر على خريطة السياحة الثقافية
  • إطلاق البرنامج التلفزيوني (ملوك وصقور) على شاشة القناة الثقافية