"كلما حلّ الليل، أوشك على الانهيار وأنفجر بكاءً على أهلي، الذي بات عنوان حياتهم هو: نزوح من مكان نحو الآخر" بهذه الكلمات انطلقت فاطمة، شابة من غزة، تدرس في المغرب، في الحديث عن تفاصيل عام كامل على "طوفان الأقصى".

وأضافت فاطمة، التي تدرس ماجستير حقوق الإنسان، في حديثها لـ"عربي21": "أي قوانين ندرس، في ظل انعدام إمكانية تطبيقها في الواقع؛ أهلي في غزة يعيشون على خبز مصنوع من علف البهائم، وماء وسخ، هل بإمكانك تخيل الأمر؟"، مردفة: "ثلاثة سنوات لم أرى عائلتي، التي نصفها بات شهيدا، والنصف الآخر يقاوم مرارة العيش تحت القصف؛ عن أي حقوق إنسان نتحدّث؟".



فاطمة، واحدة من آلاف الغزّيين، عبر العالم، ممّن لم تنصف القوانين الدولية المُرتبطة بحقوق الإنسان، بلدهم، الذي يعيش على إيقاع قصف أهوج من الاحتلال الإسرائيلي، لم يرحم فيه لا حجرا ولا بشرا، فدمّر كافّة معالم الحياة.

القانون الدولي المُغتال
على مدار عام كامل، رصدت "عربي21" استمرار عُدوان الاحتلال الإسرائيلي على كامل قطاع غزة المحاصر، ناهيك عن الحرب الهوجاء التي يشنّها على جنوب لبنان؛ ما كشف بالصوت والصورة، انتهاكات بالجُملة، لكافة القوانين الدولية المتعلّقة بحقوق الإنسان.


أمام مرأى العالم، وبتقنية المُباشر، جحافل من الدبّابات والمدرّعات والجرّافات، تأخذ راحتها في الذهاب يُمنة ويسارا؛ وقصف مُتواصل يستهدف المدنيين، من النساء والأطفال والكبار في السن، وأيضا الأطباء والمسعفين والإعلاميين، وغيرهم من الفئات، التي تجرّم القوانين الدولية استهدافهم في الحروب.. 
الاحتلال الإسرائيلي يقصف مدارس غزة بالفوسفور الأبيض المحرم دولياً
هذه المدارس ينزح إليها المدنيين وتتبع لمنظمة الأونروا#GazaGenocide pic.twitter.com/RqxzNrzWqJ — قتيبة ياسين (@k7ybnd99) November 2, 2023
كذلك، تم التسّوية أرضا بكل من المشافي والمدارس والمنازل والمساجد والكنائس، والأسواق والمخابز.. وهي كذلك من الأماكن التي يتم تجريم الاقتراب منها في الحروب.. ما جعل سؤال واحد يتكرّر على مدار عام كامل: أي جدوى للقوانين الدولية؟.

وحتّى في الوقت الذي صدر فيه قرار ينصّ على وقف إطلاق النار فورا، من مجلس الأمن الدولي؛ وعلى الرغم من مثول دولة الاحتلال الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب "إبادة جماعية"؛ إلّا أن قوات الاحتلال واصلت عدوانها على كامل القطاع المحاصر، وأيضا على مناطق بجنوب لبنان.
????????الغارات خارج نطاق الضاحية الجنوبية في قلب العاصمة #بيروت#طوفان_الأقصى #العملية_البرية #لبنان #خبر_نيوز pic.twitter.com/4lB1JLZ0sT — خبر نيوز (@Khabrnews1) October 2, 2024 #مصدر #أمني #استخدام #الفوسفور المحرّم دوليًّا في الغارة على الضاحية ورائحة كريهة تفوح في المنطقة pic.twitter.com/d9fggsAh3L — Dalal Mansour (@DalalManso64906) October 2, 2024
ما ذنب الأطفال؟ 
"ما الذي ارتكبه الأطفال ليتم قتلهم بهذه الطريقة البشعة؟" من خلال هذا السؤال أعرب الكثير من رواد مُختلف مواقع التواصل الاجتماعي، طِوال عام كامل، عن حزنهم من انتهاك حُرمة الطفولة، داخل القطاع الذي فيه ما يناهز 55 بالمئة من الأطفال؛ استشهد منهم الآلاف منذ بداية الحرب؛ وذلك وفقا لوزارة الصحة الفلسطينية.

وأوضحت الوزارة، في عدد من خرجاتها الإعلامية، التي وُصفت بـ"الحزينة والمُروعة" أن هناك كمّا مُفجعا من الأطفال الشهداء، والآلاف من الجرحى، ممّن تعرّضوا لإصابات وأضرار بالغة، بعضها انتهت ببتر الأطراف.

في داخل القطاع المحاصر، والذي يعايش ويلات الحرب القاسية، فإن الأطفال التي نجت من الاستهداف المُباشر وغير المباشر، لم تنجوا من فُقدان منازلها وربّما كامل أهاليها. إنها سلسلة طويلة من إجرام الاحتلال الإسرائيلي بحق الأطفال وانتهاك مباشر لحقوق الإنسان واتفاقيات حقوق الطفل.



الأطفال في غزة، البالغين هذه السنة لـ17 عاما، وجدوا أنفسهم، قد عايشوا قسرا ستة حروب متتالية، ناهيك عن حصار خانق منذ عام 2007 مسّ كل شبر في القطاع. وبالتالي هو طفل يعيش حالة مُتواصلة من الصدمة الدائمة والمتتابعة.

أيضا، كان مسؤول البرامج والاتصال لدى الأورومتوسطي، محمد شحادة، قد أشار، عبر مقطع فيديو، إلى أن "القصف الإسرائيلي على غزة، خلال أيار/ مايو الماضي، فاقم الأزمة الموجودة أصلاً"، مؤكدا أن "قرابة ربع الأمراض المنتشرة في غزة ناتجة عن تلوث المياه، و12 في المئة من وفيات الأطفال والرضّع، مرتبطة بأمراض معوية متصلة بالمياه الملوثة".



لا مكان آمن 
"كلّما قيل لنا إن هذه المنطقة آمنة، أصاب بالرّعب؛ أصبحت متيقّنا أن الأمر، خدعة؛ إذ يتم إعادة تشكيلنا في مكان واحد، ليسهل قصفنا عقب ذلك" هكذا وصف أكرم، شاب من قلب غزّة، المشهد الصّعب، لـ"عربي21"، بعد عام كامل من الحرب.

عشرات من الشهداء والجرحى، يسقطون كل يوم، على مدار عام كامل، وفي أماكن مختلفة من القطاع المحاصر؛ خاصّة في رفح التي نالت النصيب الأكبر من الهجمات رغم كونها اعتُبرت من المناطق الآمنة، حيث كان ينزح إليها الأهالي، غير أنها لم تكن كذلك؛ فتواصلت انتهاكات الاحتلال الصارخة لكافة ما يمس لـ"الإنسانية" بصلة.



رصدت "عربي21" على مدار عام كامل، أن الحياة في قطاع غزة، باتت تُعاش عكس ما يتوجّب فيه على قانون الحرب أو قانون منع الحرب إلى تقييد اللجوء إلى القوة؛ ليتم تسجيل استخدام جيش الاحتلال لعدد من الأسلحة المحرّمة دوليا في المناطق المأهولة بالسكان.


ولجأ الاحتلال الإسرائيلي، في حربه على غزة، لاستخدام: المتفجرة ذات الآثار الواسعة، والفوسفور الأبيض وكذا الصواريخ، وذلك وسط حديث عن استخدام قنابل عنقودية، في قصفه على القطاع التي يُحدد طوله 41 كيلو متر، ويتراوح عرضه بين 6 و12 كيلو متر، ويعيش فيه أكثر من 2.2 مليون فلسطيني.

وكانت "عربي21" قد رصدت، أيضا، عددا من مقاطع الفيديو، تُوثق قصف الاحتلال الإسرائيلي، لمدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" بقنابل الفوسفور والقذائف المدفعية، في مخيم الشاطئ بمدينة غزة؛ وهو المقطع الذي التقطه أحد النازحين، فأظهر لحظة سقوط قنابل الفوسفور على مدرسة، تضم آلاف الفلسطينيين الذين نزحوا بسبب العدوان الذي يشنه الاحتلال.
♦مشاهد صادمة ‼️‼️
الآن... مشاهد جديدة توثق مجزرة الاحتلال بعد استهداف مسجد يعج بالنازحين أمام بوابة مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح وسط قطاع غزة. #غزة_تُباد #GazaGenocide pic.twitter.com/JMANTcyOP1 — سالم ربيح (@SalemRopp) October 6, 2024 -الاحتلال يستخدم الفسفور الأبيض "المحرم دولياً " في عدوانه على قطاع غزّة !! - مادة الفسفور هي مادة حارقة تسبب حروق في جسد الإنسان لدرجة قد تصل إلى العظام ، وتذيب حتى الحديد !!

يارب أنت أرحم بهـم منا .. بردًا وسلامًا ، يارب غزة ????#غزة_تحت_القصف #GazaUnderAttack#طوفان_الاقصي pic.twitter.com/oDSZdK7mTJ — أحمد???? غزة (@ahmadGazapal) October 9, 2023
وحين وصلت الحرب على غزة، لشهرها الثّامن، كان نائب مندوب فلسطين بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، قد قال خلال جلسة، إن "دولة الاحتلال الإسرائيلي تقصف أحياء بأكملها، بشكل عشوائي، في قطاع غزة المحاصر"، مشيرا إلى أن "جيش الاحتلال يقترف جرائم حرب يوميا، وإسرائيل تجاوزت جميع الخطوط الحمراء، والعالم مطالب بإجبارها على وقف عدوانها". لكن لا مُجيب.

وفي لبنان، شهادات كثيرة حصلت عليها "عربي21" من ألسنة أهالي مختلف المناطق، تروي تفاصيل القصف الانتقامي، الذي شنّه الاحتلال الإسرائيلي، ما تسبب في موجة نزوح كبيرة للأهالي نحو مناطق اعتبروها أكثر أمنا. فيما أشار كثيرون لكون: "الأوضاع بشكل عام تتجه نحو ما هو أخطر".

فوق القانون
بحسب تعريف منظمة "هيومن رايتس ووتش" فإن القانون الإنساني الدولي يُقرّ بأن الاحتلال الإسرائيلي لغزة هو "نزاع مسلح مستمر"، تخضع فيه الهجمات العسكرية بين جيش الاحتلال وحماس وغيرها، للمعايير الأساسية التي تحكم الأعمال العدائية المتجذرة فيه، والتي تتألف من قوانين المعاهدات الدولية.

ويتعلّق الأمر، خاصة بالمادة المشتركة 3 من "اتفاقيات جنيف لسنة 1949"، والقانون الإنساني الدولي العرفي، السّاري في ما يسمى النزاعات المسلحة غير الدولية، كما هو منصوص عليه في "البروتوكولات الإضافية لعام 1977 لاتفاقيات جنيف". 


قوانين الحرب هذه، تُلزم أساسا بتوفير "تحذير مسبق فعّال، من أجل التحقّق من أن الهجوم سيكون على الأهداف العسكرية وليس مدنيين أو أعيان مدنية، والامتناع عن شن هجوم في حال انتهاك مبدأ التناسب. وفي المناطق المأهولة التي توجد فيها مبان أو هياكل أخرى".

"فوق الأرض وتحتها، ينبغي للأطراف المتنازعة أن تراعي صعوبة تحديد وجود المدنيين، الذين قد لا يكون من الممكن رؤيتهم حتى بواسطة تقنيات المراقبة المتقدمة" يوضّح القانون نفسه؛ غير أن الأمر لم يتم الالتزام به من طرف دولة الاحتلال الإسرائيلي.

كذلك، على الرغم من نص المادة 3 من القانون ذاته، على عدد من تدابير الحماية الأساسية للمدنيين والأشخاص الذين لم يعودوا يشاركون في الأعمال العدائية، مثل المقاتلين الأسرى، ومن استسلموا أو باتوا عاجزين، حيث يُحظر القتل في حقهم، أو معاملتهم بقسوة، أو التعدي على كرامتهم الشخصية عبر المعاملة غير الإنسانية. هذا أيضا لم يتم الالتزام به من طرف الاحتلال الإسرائيلي، الذي اعتبر نفسه من خلال عُدوانه على كل من غزة وجنوب لبنان، فوق القانون.

أيضا، في الوقت الذي تحظر فيه قوانين الحرب كافة الأعمال الرّامية لبثّ الذعر بين السكان المدنيين. وزّع الاحتلال الإسرائيلي، على كل من الغزّيين واللبنانيين، بيانات داعية إلى إخلاء عدد من المناطق، لتخويف السكان المقيمين وإجبارهم على ترك منازلهم.

ورغم أن القانون الدولي الإنساني والقانون في الحرب وعدد من المواثيق الدولية، تؤكد أنه: "لا يمكن أبدا تبرير انتهاك هذه القوانين عبر استهداف المدنيين عمدا أو تنفيذ هجمات عشوائية"، إلّا أن جيش الاحتلال، عبر قصفه المتواصل على غزة وأيضا على مناطق في جنوب لبنان، قد حوّل كل شيئ إلى خراب، بشكل وصف بـ"انتقام أهوج" ضارب عرض الحائط كافّة القوانين.


هنا غزّة.. لا معبر ولا مُساعدات
أيادي المحتل الإسرائيلي، لم ترحم لا بشرا ولا حجرا، على مدار عام مُتواصل، على قطاع غزة المحاصر، حيث لم تتهاون في محاولة البطش بهم، حتى وهُم في قلب خيمات مُهترئة، في أمسّ الحاجة لبصيص المساعدات الإنسانية، فقامت بإقفال "معبر رفح" الذي كان يعدّ شريان الحياة في غزّة. 

وفي حديثه لـ"عربي21" قال المختص في القانون الدولي، عبد القادر العزة: "في ظل جرائم الاحتلال المستمرة، فإن معبر رفح يلعب دورا حيويا في إدخال المساعدات الإنسانية والبضائع. وإن فتحه بانتظام يمكن أن يُخفّف معاناة الشعب الفلسطيني المحاصر؛ وهذا ما يتطلب التعاون بين جميع الجهات الدولية، لضمان تحقيق الأهداف الإنسانية والاقتصادية والسياسية المرتبطة به".

وأوضح العزة، وهو الحاصل على شهادة دكتوراه في الحقوق القانونية والسياسية للاجئين الفلسطينيين، أن "هناك تخوفات مصرية تتعلق بفتح المعبر بشكل دائم؛ وتشمل: أولا، حماية الأمن القومي المصري، حيث إنها تخشى من أن فتح المعبر بشكل كامل قد يؤدي إلى انتقال المقاومة إلى الأراضي المصرية، ما يمكن أن يزيد من التوتّر في المنطقة".

وتابع المختص في القانون الدولي، أنه "ثانيا، فتح المعبر في الوقت الحالي، قد يعني أن مصر ستكون مسؤولة عن الفلسطينيين اللاجئين إلى أراضيها، وتنفيذ المخطط الصهيوني بإعادة التوطين الدائم لمئات الآلاف من الفلسطينيين من أبناء قطاع غزة. بالإضافة إلى مراقبة الحدود والأمور الأمنية في ما يتعلق بقطاع غزة، وهو أمر قد يثقل كاهل مصر".

وأكّد العزة في ختام حديثه لـ"عربي21" أن: "هناك اتفاقيات دولية وقوانين تحكم حركة الأفراد والبضائع عبر الحدود، ومصر تلتزم بالامتثال لهذه الاتفاقيات وتحاول تحقيق توازن بين الاحتياجات الإنسانية والالتزامات القانونية".

عن أي حقوق نتحدث؟ 
التجويع والعطش والتهجير القسري وحالات اغتصاب، وقلّة نظافة، وصعوبة الولوج لأبسط مقوّمات الحياة السليمة.. هكذا أضحت الحياة في غزة، بين ليلة وضحاها، لأن قوانين الحرب لم يفعّل، ولأن دولة الاحتلال الإسرائيلي، انتهجت مبدأ "البطش" واغتالت القوانين، لتُعيد الحياة في غزة وجنوب لبنان، إلى ما يوصف بـ"قانون الغاب" وذلك بحسب حديث عدد من المتخصصين في القوانين الدولية المرتبطة بحقوق الإنسان.

إلى ذلك، رصدت "عربي21" منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، منشورات وتغريدات، بالآلاف، توثّق لاقتراف جرائم حرب في حق كل من لا يتوجّب عليها مسّهم، خاصة: النساء والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة، وأيضا المُسعفين والعامين في المجال الطبي بكافة فئاتهم. 

وفي وصفهم للوضع المعاش الرّاهن، في كل من قطاع غزة المحاصر وجنوب لبنان، قال عدد من المتحدّثين لـ"عربي21": "إنها إبادة ديموغرافية مع تلذّذ حقيقي بإذلال الجسد؛ حيث لا تفرق طائرات الاحتلال بين أحد، فطالت الأخضر واليابس، دون استثناء، من سيارات الإسعاف التي تنقل الأجساد المصابة، إلى المستشفيات التي تعالجها، وحتى المقابر التي تواريها".
مشهد مؤلم????????

خرج من تحت الركام حاملاً على صدره يد مقطوعة زوجته باقي الجسد غير موجود.

مشاهد لم نكن نتخيلها تحدث حتى في افلام الخيال. ‼️#غزه_تُباد #GazaGenocide pic.twitter.com/dz4c7uMBfK — سالم ربيح (@SalemRopp) October 6, 2024
وأكّد المتحدّثين أنفسهم، ممّن يعايشون وضعا بات أصعب ممّا ذهبت إليه مخيّلتهم في بادئ الحرب الشّرسة، قبل عام كامل، أن: "المؤسسات الدولية أعربت عن فشلها بشكل مدهش في مهمّاتها لحماية الحياة وضمان العدالة؛ فبات لزاما على كافة ذوي الشّأن الاتّحاد لإسقاط كافة القوانين الدولية والمواثيق المرتبطة بحقوق الإنسان، لكتابة قوانين أخرى، علّها تجدي نفعا، في واقع يرفض فيه الاحتلال الإسرائيلي، وحلفائه، الامتثال للقوانين السّارية".

التقارير الدولية تخرج عن صمتها.. ولكن 
طيلة عام على معركة "طوفان الأقصى"، رصدت "عربي21" جُملة من التقارير الحقوقية الدولية، التي أعلنت الخروج عن صمتها، فأقامت الحجّة على جيش الاحتلال الإسرائيلي بتعمّد استهداف المدنيين واقتراف جرائم حرب، خاصة ما يتعلٍّق بـ"التجويع".

 أوكسفام
البداية من منظمة "أوكسفام"، التي أكّدت عبر بيان بتاريخ 25 تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، أن دولة الاحتلال الإسرائيلي، استخدمت "التجويع كسلاح حرب ضد المدنيين في غزة"، مردفة أن "2 بالمئة فقط من المواد الغذائية اللازمة، هي التي سُمح بدُخولها غزة، منذ تشديد الحصار المفروض على القطاع منذ 16 عاما".

وأضافت "أوكسفام" أن "السماح بدخول كمية ضئيلة من المساعدات الغذائية، يترك سكان القطاع، في حاجة ماسة إلى الغذاء"؛ في إشارة لكون القانون الإنساني الدولي يحظر استخدام التجويع كوسيلة من وسائل الحرب.
????Every three hours on average, Israeli explosive weapons hit homes, shelters, hospitals, schools and aid distribution points in Gaza. It's been this way for a year. We must secure a #CeasefireNOW

Read more: ????https://t.co/Z2tYaLs3kB pic.twitter.com/QjrJv89CX9 — Oxfam International (@Oxfam) October 1, 2024
ووجدت المنظّمة أنه قبل اندلاع العدوان، كانت 104 شاحنة تقوم يوميا بتوصيل الغذاء إلى القطاع المحاصر، بمعدل شاحنة واحدة كل 14 دقيقة. ومن بين 62 شاحنة محمّلة بالمساعدات سُمِح بدخولها إلى غزة عبر معبر رفح، كانت 30 شاحنة فقط تحمل مواد غذائية مع مواد إغاثية أخرى، ما يعني شاحنة واحدة فقط كل ثلاث ساعات و12 دقيقة.

إلى ذلك، بوصفها القوة المحتلة في غزة، فإن الاحتلال الإسرائيلي، ملزم بالأساس ببنود القانون الإنساني الدولي، القاضي بتوفير احتياجات سكان غزة وحمايتهم؛ لكنّه يتجاهل القوانين.

هيومن رايتس ووتش
بدورها، وجّهت منظمة "هيومن رايتس ووتش" أصابع الاتهام لدولة الاحتلال الإسرائيلي بالقول إنها: "تتعمّد تعميق معاناة المدنيين في غزة، من خلال رفضها إعادة تدفّق المياه والكهرباء، ومنع وصول شحنات الوقود"، في ما يعتبر "جريمة حرب" و"عقاب جماعي للمدنيين على أعمال جماعات مسلحة".

وأوضحت "هيومن رايتس" عبر تقرير لها، خلال الأشهر الأولى من الحرب على غزة، أن البنى التحتية في غزة تعتمد على تدفّق الكهرباء ومياه الشرب من الاحتلال الإسرائيلي وشاحنات الإمدادات التي تدخل عبر المعابر، لكن الاحتلال قطع هذه الإمدادات. في إشارة لكون الاحتلال الإسرائيلي يتعمّد مُعاقبة المدنيين في غزة جماعيا.

وأضافت المنظّمة ذاته، أن: "إصرار إسرائيل على عدم السماح بدخول الوقود، برغم الحاجة الملحة إليه لعمل المستشفيات، ومضخّات المياه ومياه الصرف الصحي، وتوزيع المساعدات، يتنافى مع كافة قوانين الحرب".
The Israeli government’s attacks and unlawful blockade against Gaza have devastated the lives of children with disabilities.

Children with disabilities, who struggle to access necessary medical treatment and supplies, are at particular risk of lasting psychological harm. pic.twitter.com/rYS12Sn3xP — Human Rights Watch (@hrw) October 2, 2024
العفو الدولية
منظمة العفو الدولية، أكدّت عبر تقرير لها، في بداية الحرب السّارية على غزة، على: "أدلة دامغة على ارتكاب جرائم حرب في هجمات إسرائيلية، قضت على أسر بأكملها في غزة".

وأوضحت المنظمة، بتاريخ 20 تشرين الأول/ أكتوبر أنه مع استمرار قوات الاحتلال الإسرائيلي في تكثيف هجومها الكارثي على قطاع غزة المحتل، ارتكبت ما وصفته بـ"هجمات غير قانونية، من بينها غارات عشوائية، تسبّبت في سقوط أعداد كبيرة في صفوف المدنيين، ويجب التحقيق فيها على أنها جرائم حرب".

وشدّدت العفو الدولية، على أن جيش الاحتلال الإسرائيلي "إمّا لم يحذّر المدنيين على الإطلاق، أو أصدر تحذيرات غير كافية، بشكلٍ متكرر، فيما لم يوفّر مكاناً آمناً للمدنيين للجوء إليه بأي حال من الأحوال"، فتعرّض النّازحين قسرا للقصف في المكان الذي فرّوا إليه.
Civilians always pay the price during conflict. The warring parties must do more to protect civilians and respect international humanitarian law. pic.twitter.com/Mv36KcT0sX — Amnesty International (@amnesty) September 27, 2024
وأكدّت أن "انتماء شخص إلى حركة سياسية لا يبرّر استهدافه. كما أنّ وجود مقاتل في مبنى مدني لا يحوّل هذا المبنى أو أي من المدنيين فيه إلى هدف عسكري"؛ مذكّرة بأن القانون الدولي الإنساني "يُلزم القوات الإسرائيلية باتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة للحدّ من الأضرار التي لحقت بالمدنيين والممتلكات المدنية، بما في ذلك إلغاء الهجوم أو تأجيله إذا اتضح أنه سيكون عشوائياً أو غير قانوني"، وهو ما لم تفعله دولة الاحتلال الإسرائيلي طوال عام كامل من عدوانها الأهوج على قطاع غزة.

كذلك، أبرزت المنظمة ذاتها، عبر تقرير آخر أن الاحتلال الإسرائيلي استخدم الفوسفور الأبيض المحرم دوليا في عدوانه في كل من غزة ولبنان؛ محذرة من أن ذلك "يعرض المدنيين لخطر الإصابات الخطيرة والطويلة الأمد، بما في ذلك حروق مؤلمة ومعاناة مدى الحياة". مستطردة أن "استخدام الفسفور الأبيض في غزة، وهي إحدى أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، يفاقم المخاطر التي يتعرّض لها المدنيون وينتهك الحظر الذي يفرضه القانون الإنساني الدولي على تعريض المدنيين لخطر غير ضروري".

أي جدوى لقضية ضد الاحتلال الإسرائيلي؟
بين دول رُفعت ضدّها القضايا في الجنائية الدولية، بتُهم المشاركة في "الإبادة الجماعية على غزة"، مثل: دولة الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية وهولندا؛ ودول هي من رفعت الشكاوى أو القضايا باسم الضحايا، مثل: إسبانيا وكولومبيا وبوليفيا والجزائر، لا يزال الوقت يمضي في صالح المحتلّ، ويكرّس أكثر من معاناة الأهالي في القطاع المحاصر.

وجاء في أحد الدعاوى، التي رُفعت ضد الاحتلال الإسرائيلي: "على الرغم من تزايد الأدلة على السياسات الإسرائيلية الموجهة نحو إلحاق أضرار جسيمة بالسكان الفلسطينيين في غزة، عارضت إدارة بايدن وقف إطلاق النار المنقذ للحياة ورفع الحصار، حتى أنها استخدمت حق النقض ضد إجراءات الأمم المتحدة التي تدعو إلى وقف إطلاق النار..".

وأضافت: "بدلا من ذلك، فإن أفعالها لتمويل وتسليح وتأييد حملة القصف الإسرائيلية الجماعية والمدمرة والحصار الكامل للفلسطينيين في غزة، أفشلت منع وقوع إبادة جماعية وتواطؤا في تطورها".


كذلك، حمّلت شكاوى أخرى، هولندا، مسؤولية الاستمرار في تصدير طائرات مقاتلة من طراز F-35 إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ على الرغم من تحذيرات المستشارين القانونيين في وزارة الخارجية بخصوص: "الانتهاكات الخطيرة المحتملة للقانون الإنساني في غزة".

أما فيما يخصّ السياق الدبلوماسي، قد أطلت وزير الخارجية الإسبانية مع عدد من البرلمانيين والسياسيين في كل من أوروبا وأميركا اللاتينية، مذكرة لجمع التواقيع عليها ورفعها للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، لمحاكمة عدد من الأشخاص (إسمهم موجود في المذكّرة)، بموجب المادة 15 من نظام روما الأساسي.

كذلك، وجّهت عدة منظمات حقوقية فلسطينية، دعوى قضائية مشتركة، إلى المحكمة الجنائية الدولية، ضد حكومة الاحتلال الإسرائيلي بتهمة: "ارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين في غزة، وعلى رأسها جريمة الإبادة الجماعية"؛ في إشارة لكون حكومة الاحتلال الإسرائيلي اخترقت ميثاق روما.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات سياسة دولية غزة حقوق الإنسان القانون الدولي لبنان جنوب لبنان لبنان غزة حقوق الإنسان القانون الدولي جنوب لبنان المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة دولة الاحتلال الإسرائیلی القانون الإنسانی الدولی القوانین الدولیة قطاع غزة المحاصر المدنیین فی غزة القطاع المحاصر القانون الدولی بحقوق الإنسان حقوق الإنسان جیش الاحتلال قوانین الحرب على الرغم من هیومن رایتس على قطاع غز جرائم حرب الحیاة فی pic twitter com على غزة عدد من التی ی

إقرأ أيضاً:

موت الصحفيين في غزة جوعاً.. انهيار قواعد القانون الدولي

#موت #الصحفيين في #غزة جوعاً.. انهيار قواعد القانون الدولي

الدكتور #حسن_العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

توجد مقولةٌ شائعةٌ في أوساط العاملين بوسائل الإعلام حول عدم رغبة الصحفيين في أن يكونوا هم محور القصة. ولكن في هذه الحالة، يرتبط الصحفي بالقصة ارتباطاً وثيقاً في معركته للبقاء. وقد يؤثر ذلك بشكل خطير على كيفية سرد القصة الأوسع لمحرقة غزة. لقد أعربت شركات الإعلام الكبرى، ووكالات الأنباء العالمية التي لها مراسلون في غزة عن قلقها البالغ بشأن موظفيها المحليين العاملين هناك. وحذّرت من رؤية “زملاء يموتون جوعًا”. ونظراً لمنع إسرائيل للصحفيين الدوليين من دخول القطاع، أصبح الصحفيون الفلسطينيون هم الوحيدون القادرون على تقديم التقارير من الميدان في منطقة الحرب. لأشهر عديدة، كان هؤلاء الصحفيون الفلسطينيون المستقلون بمثابة عيون وآذان العالم على أرض غزة. وهم يواجهون الآن نفس الظروف القاسية التي يواجهها أولئك الذين يغطونهم. حيث يعاني الصحفيون من الحرمان والمصاعب في مناطق العدوان. والآن أصبح خطر المجاعة أحد هذه المخاطر.

مقالات ذات صلة أسفار طوفان، أم طوفان أسفار؟ 2025/07/26

تم إغلاق المطابخ المجتمعية في غزة بشهر مايو/نيسان 2025 نتيجة نقص الموارد بسبب منع إسرائيل دخول الطعام. وكانت فكرة المطابخ المشتركة قد نشأت نتيجة شح الغذاء وارتفاع الأسعار ارتفاعاً كبيراً. ويكاد يكون من المستحيل العثور على غاز الطهي، وحتى حطب الوقود باهظ الثمن. وفقدت العديد من الأسر إمكانية الحصول على الغذاء، بل وفقدت أيضاً الوسائل اللازمة لإعداده. هذه المطابخ لا تقتصر على كونها مصدراً لتوفير الغذاء، بل تُعدّ أيضاً شريان حياة يضمن بقاء الناس على قيد الحياة. لكن هذه المطابخ أُجبرت على إغلاق أبوابها بعد نفاد الإمدادات الغذائية، مما وجّه ضربة قاصمة لجهود مكافحة الجوع المتفاقم في القطاع المحاصر، الذي يعاني من أزمة إنسانية غير مسبوقة.

جوع الصحفيين

ذكرت هيئة الإذاعة الأمريكية ABC وهي شبكة تلفزيونية وإذاعية، أن أحد مصوريها في غزة “لم يعد يملك القوة لحمل كاميرا”. “لقد فقد 34 كيلوغراماً بالفعل”. وهو “بالكاد يستطيع التحدث عبر الهاتف.”

لقد نقلت وسائل الإعلام لأشهر طويلة معاناة الفلسطينيين نتيجة النقص الحاد في الغذاء والإمدادات الأخرى في غزة التي دمرها ومزقها العدوان الإسرائيلي عليها، وقيام الاحتلال الإسرائيلي بفرض قيودًا على إيصالها. وعرضت شاشات التلفزة مشاهد أطفال رضّع يرقدون بصمت على أسرّة المستشفيات، ضعفاء جداً لا يطيقون البكاء بينما تحوم أمهاتهم حولهم، ويشعرون بالعجز لعدم قدرتهم على الرضاعة الطبيعية. كما نقلت تلك الوسائل الإعلامية تقارير عن طالبي إغاثة، يسارعون للحصول على أي طعام يمكنهم الحصول عليه لعائلاتهم ومجتمعاتهم. وبثت بصورة مباشرة عبر الأقمار الصناعية صور قتل الأطفال والنساء، وتدمير الأبنية والمدارس والمشافي فوق رؤوس النازحين الفلسطينيين المدنيين بسبب القصف المدفعي أو بالطيران الحربي الإسرائيلي.

أصبحت هذه القصص ممكنة النشر، ووصلت إلى ملايين المشاهدين في أنحاء مختلفة من العالم بفضل عمل شبكة من الصحفيين ومصوري الفيديو الموهوبين والشجعان الذين يقومون بالعمل الميداني على الأرض داخل حدود غزة نيابة عن الصحفيين الغربيين، نظراً للحظر الإسرائيلي الذي منع دخول وسائل الإعلام الأجنبية إلى قطاع غزة، وهو أمر غير مسبوق في تغطية الحروب.

والآن يُكافح هؤلاء الصحفيون المتفانين للقيام بعملهم لاستمرار نقل صورة المحرقة التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين في غزة..

وقصة مصور هيئة الإذاعة الأمريكية ليست قصةً منفردة، فقد تحدث أعضاء آخرون في نفس فريق، ومن وكالات أخرى عن جوعهم أيضاً. هؤلاء الصحفيون جميعهم غزّاويون، يُغطون أخبارهم، ويعانون ما يتعرض له أهل غزة مع استمرار الإبادة في القطاع.

ناشدت وكالة فرانس برس (AFP)، إحدى أكبر وكالات الأنباء في العالم، الحكومة الفرنسية المساعدة في إجلاء موظفيها. وقال اتحاد صحفيي الوكالة في بيان: “منذ تأسيسها عام 1944، فقدنا صحفيين في صراعات، بعضهم جُرح، وآخرون أسرى”. وأضاف: “لكن لا أحد منا يتذكر رؤية زملاء يموتون جوعًا”.

وأعربت قناة الجزيرة، المحظورة من العمل في إسرائيل، عن هذه المشاعر في اليوم التالي: “يتحمل المجتمع الصحفي والعالم مسؤولية جسيمة؛ من واجبنا أن نرفع أصواتنا ونحشد كل الوسائل المتاحة لدعم زملائنا في هذه المهنة النبيلة”، هذا ما صرّح به المدير العام للشبكة، مصطفى سواق، في بيان. وأضاف: “إذا لم نتحرك الآن، فإننا نخاطر بمستقبل قد لا يبقى فيه أحد ليروي قصصنا”.

لقد انهار أحد صحفيي الجزيرة واسمه “أنس الشريف” على الهواء مباشرة عندما انهارت امرأة خارج مستشفى خلفه. في الفيديو، يُسمع فلسطينيون آخرون يقولون له: “استمر يا أنس. واصل التغطية”. أنتم صوتنا.

لماذا تعتمد وسائل الإعلام الأجنبية على الصحفيين داخل غزة؟

 وقّعت أكثر من ١٠٠ منظمة إنسانية دولية بتاريخ 23 يوليو/ تموز 2025 من بينها أطباء بلا حدود وأوكسفام وإنقاذ الطفولة، بياناً يُنذر بأن غزة على شفا “مجاعة جماعية “.

فيما تنفي إسرائيل باستمرار مزاعم تورطها في تأجيج أزمة الجوع في غزة، بل تُلقي باللوم على حماس في الوضع، وتصف روايات هذه الظروف داخل القطاع بأنها دعاية. ومع ذلك، فإن إسرائيل، برفضها التقارير الواردة من القطاع، لا تسمح لوسائل الإعلام الدولية بدخول غزة لجمع المعلومات والتحقق منها بشكل مستقل.

يمكن العثور في غزة على العديد من الأطفال وبعض البالغين في حالة هزال شديد ومهددين بالموت جوعاً بسبب نقص الطعام، في بعض المراكز الطبية القليلة التي ما زالت تعمل.

تمنع الحكومة الإسرائيلية زيارات ودخول الصحفيين الأجانب والغربيين منذ بداية الحرب. وتدّعي إسرائيل أنها “تمنعهم من الدخول” حرصاً على سلامتهم. ولم يُسمح للصحفيين بالدخول إلا تحت الإشراف المباشر للجيش الإسرائيلي – زيارات مُحكمة المراقبة ومُخطط لها، حيث لا يُسمح لوسائل الإعلام عموماً بالتفاعل مع السكان المحليين. الهدف من هذه الزيارات يكون دعائياً أو لتقديم رواية رسمية حول العمليات العسكرية، وليس لتغطية مستقلة.

ومع أن جدوى هذه الزيارات الصحفية محل شك، إلا أن هيئة الإذاعة الأسترالية (ABC) تقدمت بعدد من الطلبات للانضمام إلى ما يُسمى “الزيارات المُلحقة” – لكنها لم تُمنح هذه الفرصة، في حين تُمنح هذه الزيارات وسائل الإعلام الأمريكية وبعض الوسائل الأوروبية الكبرى.

أصبحت هذه الزيارات المُلحقة أقل انتظاماً منذ وقف إطلاق النار الأخير – ويُعتقد أن آخرها كان عندما اصطحب الجيش الإسرائيلي مجموعة من الصحفيين إلى مجمع المستشفى الأوروبي في خان يونس في أوائل يونيو/حزيران 2024. يمكن مقارنة هذا بالوضع في أوروبا الشرقية، حيث يُمكن للصحفيين الدوليين العمل داخل معظم أنحاء أوكرانيا.

تحاول رابطة الصحافة الأجنبية، التي تمثل وسائل الإعلام الدولية العاملة في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، الطعن في قيود الجيش الإسرائيلي أمام المحكمة العليا في إسرائيل، وهي عملية تعثرت مراراً وتكراراً بسبب التأخيرات والتأجيلات. مع كل ذلك، تعتمد وسائل الإعلام الأجنبية على الصحفيين الفلسطينيين داخل غزة للمساعدة في نقل أحداث هذه الحرب.

وإذا كانوا الآن يكافحون للنهوض من فراشهم يومياً، غير قادرين على حمل كاميراتهم وميكروفوناتهم – ناهيك عن مشاكل الاتصال الحادة في القطاع التي تعيقهم عن نقل الصور والفيديو إلى العالم – فهذه مشكلة بالغة. على الرغم من العدد المرتفع للغاية للقتلى في الغارات الجوية الإسرائيلية خلال العدوان، والذي تقدره لجنة حماية الصحفيين باستشهاد 186 منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023. لذلك قد تصبح رواية قصة حرب غزة ونقلها إلى العالم أكثر صعوبة.

لقد فرضت إسرائيل حصاراً شاملاً على القطاع في مارس/آذار 2025، حيث أوقفت جميع الشاحنات المتجهة إلى الأراضي المحتلة لما يقرب من ثلاثة أشهر في محاولتها الضغط على حماس لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين. مع إصرارها على وجود إمدادات كافية للسكان، اضطرت إلى السماح بتخفيف جزئي لهذا الحصار على المواد الأساسية، بما في ذلك الدقيق وحليب الأطفال.

طورت إسرائيل نموذجاً جديداً لإيصال المساعدات الخاصة، حيث نصبت مؤسسة غزة الإنسانية (GHF) موزعاً للغذاء وغيره من المواد، وأعلنت أنها ستتجاوز قنوات الأمم المتحدة القائمة، التي قالت إن حماس استولت عليها. ومع اقتراب سكان غزة من المجاعة الجماعية أكثر فأكثر، منعت الحكومة الإسرائيلية الأمم المتحدة ووكالات أخرى من توزيع الغذاء في غزة، واستبدلتهم بمقاول جديد غامض.

تقول وزارة الصحة في غزة والأمم المتحدة إن أكثر من 2000 فلسطيني قُتلوا في إطلاق نار بالقرب من مواقع منظمة الإغاثة الإنسانية العالمية وقوافل الشاحنات – وهي أرقام تنفيها منظمة الإغاثة الإنسانية العالمية والجيش الإسرائيلي، على الرغم من أن السلطات الإسرائيلية لا تُصدر بياناتها الخاصة عن الضحايا في هذه المواقع.

لا تنكر وكالات الإغاثة وجود بعض الإمدادات داخل الحدود، لكنها تتهم القوات الإسرائيلية بجعل إيصالها عبر القطاع أمراً بالغ الصعوبة، ورفض ضمان مرور آمن للقوافل. كما عرضت مؤسسة الإغاثة الإنسانية العالمية (GHF) توفير خدماتها الأمنية الخاصة لمساعدة سكان القطاع.

تُعدّ الأزمة التي نتجت عن كل هذا، و21 شهراً من القصف الجوي والمدفعي، واحدةً من أكبر وأهمّ قصص القتل والتدمير والتجويع في العالم. لكن ربما سيصعب سردها، إذا مات الصحفيون جوعاً، إذ يُكافحون لمساعدة وكالات الأنباء العالمية في سردها ونقلها إلى العالم.

حذر صحفيون مستقلون يعملون لصالح وكالات أنباء دولية من أن الجوع ونقص المياه النظيفة يؤديان إلى المرض والإرهاق قبل الموت جوعاً. وقالت مجموعة من الصحفيين العاملين في وكالة فرانس برس هذا الأسبوع إنه “بدون تدخل فوري، سيموت آخر الصحفيين في غزة”. وقام مصور يعمل لدى وكالة فرانس برس بإرسال رسالة على مواقع التواصل الاجتماعي نهاية الأسبوع، قال فيها: “لم أعد أملك القوة للعمل في الإعلام. جسدي نحيل، ولا أستطيع العمل بعد الآن”.

انهيار النظام الأخلاقي

كتب طياران متقاعدان من سلاح الجو الإسرائيلي في الطبعة العبرية لصحيفة هآرتس الإسرائيلية أن “عضواً في الكنيست تفاخر بأن أحد إنجازات الحكومة الإسرائيلية هو القدرة على قتل 100 شخص يومياً في غزة دون أن يُصدم أحد” (مقتطف من مقال هآرتس في صحيفة نيويورك تايمز). واضافا إننا نتجاهل انهيار النظام الدولي الذي حدّد حياتنا لأجيال، مُعرّضين أنفسنا جميعاً للخطر.

لقد بدأ هذا الانهيار بعجز العالم الليبرالي عن كبح جماح عدوان إسرائيل على غزة. وتصاعد عندما لم يُحرّك أحد ساكناً لوقف قصف المستشفيات. والمدارس ودور العبادة واتسع نطاقه عندما أصبح التجويع الجماعي سلاحاً من أسلحة الحرب. ويبلغ هذا الانهيار ذروته في وقتٍ لم تعد فيه الحرب الشاملة تُعتبر مكروهاً بشرياً، بل أصبحت سياسةً متعمدةً من قِبَل دولة إسرائيل.

إن تداعيات هذا الانهيار عميقة على السياسات الدولية والإقليمية. لكن القواعد تتزعزع تماماً عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، التي انتهكت في مارس/آذار 2025 أيضاً وقف إطلاق النار الذي ساعدت إدارة ترامب في التفاوض عليه في يناير/كانون الثاني. والآن نشهد مستوى جديداً من القسوة: استخدام التجويع كسلاح حرب. في غضون ذلك، يدعو السياسيون الإسرائيليون علناً إلى التطهير العرقي. تباهى “بتسلئيل سموتريتش” وزير المالية اليميني المتطرف، بأن إسرائيل “تدمر كل ما تبقى من قطاع غزة” وأن “الجيش لا يدخر جهداً في ذلك”. وأضاف: “نحن نغزو ونطهر ونبقى في غزة حتى تُدمر حماس”. ومفهومه عن حماس واسع النطاق. وأوضح: “نحن نقضي على الوزراء والبيروقراطيين وتجار الأموال – كل من يدعم حكم حماس المدني”. إن قتل أعضاء الحكومة المدنيين (لأنهم ليسوا مقاتلين) جريمة حرب. ومرة أخرى، لا تفعل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي شيئاً.

أدى هذا التحول المطرد في الممارسات المقبولة إلى سياسات وممارسات إجرامية للتهجير القسري والمعاناة الجماعية والإبادة الجماعية، وكلها تُرتكب في ظل صمت سلبي أو تواطؤ نشط من دول قوية. حتى الصليب الأحمر، الذي عادةً ما يكون صامتاً، يُعرب عن رعبه. صرحت “ميريانا سبولجاريك إيغر” Mirjana Spoljaric Egger رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر لمراسل بي بي سي “جيريمي بوين” Jeremy Bowen: “الإنسانية تنهار في غزة”. وأعربت عن أسفها قائلةً: “إن مشاهدة شعب يُجرد تماماً من كرامته الإنسانية أمرٌ لا بد أن يُصدم ضميرنا الجماعي”. ومع ذلك، فإن الغضب الرسمي خافت في أحسن الأحوال، إذ يتلاشى كل ما كان يُعتبر يوماً ما راسخاً مؤسسياً.

إسرائيل مفارقة تاريخية

ما الذي يُمكّن إسرائيل من الإفلات من العقاب على جرائم القتل؟ لطالما حمت الولايات المتحدة إسرائيل من الانتقادات الدولية ودعمتها عسكرياً. وتتراوح الأسباب المُقدمة لهذا الدعم عادةً بين الرابطة “الثابتة” بين البلدين، ونفوذ لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك) AIPAC في واشنطن. ويمكن للمرء أن يجادل بأن الشيء الوحيد المختلف في هذه الحرب الحالية هو نطاقها.

ولكن الأمر لا يقتصر على واشنطن فحسب، فإسرائيل وقضية فلسطين تُسببان انقسامات حادة للغاية في معظم أنحاء العالم الغربي. فقد منعت الدنمارك مؤخراً الأطفال الذين يستعدون للتصويت في انتخابات شبابية وطنية من مناقشة السيادة الفلسطينية. لماذا؟

في حوار مع “عزرا كلاين” Ezra Klein من صحيفة نيويورك تايمز، قدمت أستاذة القانون الدولي لحقوق الإنسان الأمريكية “أصلي بالي” Asli Bali تفسيراً واحداً لما يميز فلسطين. وتشير إلى أنه في عام 1948 كانت فلسطين “الأرض الوحيدة التي كان من المقرر إنهاء استعمارها عند إنشاء الأمم المتحدة… والتي لم يتم [حتى الآن] إنهاء الاستعمار”. باختصار، إسرائيل مفارقة تاريخية. كانت جنوب أفريقيا في يوم من الأيام ضمن هذه الفئة. لعقود، اعتُبرت فلسطين وجنوب أفريقيا “مثالين مستمرين على إنهاء الاستعمار غير المكتمل، استمرا طويلاً بعد انتهاء الاستعمار الكامل في بقية العالم”. اليوم، تُعدّ فلسطين الاستثناء الأخير لتلك العملية التاريخية – إرثٌ واضحٌ تماماً للشعب الذي خضع للاستعمار في السابق، لكن العالم الغربي يرفض الاعتراف به كشذوذ. بعبارة أخرى، بالنسبة للكثيرين في الولايات المتحدة ومعظم العالم الغربي، يُفهم إنشاء دولة إسرائيل على أنه تحقيق للتطلعات القومية اليهودية. بالنسبة لبقية العالم، فإن تحقيق التطلعات القومية اليهودية نفسه جعل إنهاء الاستعمار في فلسطين غير مكتمل.

في عام 2003، كتب المؤرخ البريطاني “توني جودت”Tony Judt أن “مشكلة إسرائيل هي أنها وصلت متأخرة جداً. لقد استوردت مشروعاً انفصالياً بطابعه المميز من أواخر القرن التاسع عشر إلى عالمٍ متطور، عالمٍ تسوده الحقوق الفردية، والحدود المفتوحة، والقانون الدولي. إن فكرة “الدولة اليهودية” ذاتها – دولةٌ يتمتع فيها اليهود والدين اليهودي بامتيازاتٍ حصرية، ويُستبعد منها المواطنون غير اليهود إلى الأبد – متجذرة في زمانٍ ومكانٍ مختلفين. باختصار، إسرائيل مفارقةٌ تاريخية. إن فكرة جوت بأن إسرائيل من مخلفات عصرٍ آخر تتطلب فهماً لكيفية تسارع الجهود العالمية لإنهاء الاستعمار بشكل ملحوظ بعد عام 1945. وكانت النتيجة عالماً جديداً – عالماً تخلى عن الفلسطينيين، تاركاً إياهم في مخيمات اللاجئين عام 1948. هذا العالم الجديد، الذي انبثق من رماد الحرب العالمية الثانية، أصبح ما نسميه اليوم “النظام الدولي القائم على القواعد”، والذي يُعد القانون الدولي عنصراً أساسياً فيه.

أصبح القانون الدولي أكثر تدويناً في هذه الفترة أيضاً. لم يكن عام 1948 تاريخ النكبة الفلسطينية وولادة إسرائيل فحسب، بل كان أيضاً العام الذي صدر فيه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. إلى جانب ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945، يُمثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الأساس الرئيسي للقانون الدولي لحقوق الإنسان.

ولكن ما فائدة “النظام الدولي القائم على القواعد” إذا استمرت القواعد في التغير؟

الحقيقة هي أننا لم نعيش قط في ظل “نظام دولي قائم على القواعد”، أو على الأقل ليس النظام الذي يتخيله معظم الناس عند سماعهم هذه العبارة. لم تمنع فكرة أن القانون الدولي يضع حدوداً لأفعال الدول الإبادة الجماعية في رواندا. ولم يوقف “النظام الدولي القائم على القواعد” الغزو الأمريكي “غير القانوني” للعراق عام 2003. وقبل عام 2023 بوقت طويل، دأبت إسرائيل على انتهاك قرارات مجلس الأمن.

لا تقتصر مشكلة القانون الدولي على عدم وجود آلية إنفاذ لإجبار الدول المارقة على الامتثال. بل تكمن مشكلة القانون الدولي في أنه “من المرجح أن يكون أداة في يد الأقوياء لا الضعفاء”، كما كتب المنظر القانوني وأستاذ العلوم السياسية الأمريكي “إيان هيرد” Ian Hurd في كتابه الصادر عام 2017 بعنوان “كيف نفعل الأشياء بالقانون الدولي”. How to Do Things with International Law.

نميل إلى اعتبار القانون حداً متفقاً عليه لأفعالنا. كما قال الرئيس الأمريكي الراحل “دوايت أيزنهاور” Dwight Eisenhowe في مقولته الخالدة: “لم يعد أمام العالم خيارٌ بين القوة والقانون. إذا أُريد للحضارة أن تبقى، فعليها اختيار سيادة القانون”.

ولكن ماذا لو فُهم القانون بشكلٍ أفضل كنظامٍ يُقيّد السلوك، نعم، والأهم من ذلك، يُشرّع ما هو ممكن؟

من يُحدّد الحدود يُحدّد ما هو مقبول. وهكذا، يكون الأقوياء أكثر ميلاً لتغيير مسار ما هو مقبول لمصلحتهم. وكما يوضح هيرد، فإن القانون الدولي “يُسهّل قيام الإمبراطورية بالمعنى التقليدي لأن الدول القوية… تُشكّل معنى القواعد والالتزامات الدولية من خلال التفسير والممارسة”.

مع أن القانون الدولي يحظر الحرب عموماً، إلا أنه يُحدّد استثناءً للدفاع عن النفس، والدول القوية هي التي يُمكنها تغيير مسار ما يُشكّل دفاعاً مشروعاً عن النفس. (على سبيل المثال، تدّعي إسرائيل بشكل عام الدفاع عن النفس في عدوانها على إيران، كما تدّعي روسيا صراحةً الدفاع عن النفس في مهاجمتها أوكرانيا). في كتابه، يبحث هيرد كيف بررت الولايات المتحدة استخدامها لحرب الطائرات بدون طيار، بل وحتى التعذيب، بالاحتكام إلى القانون الدولي. فالقانون الدولي، بالنسبة لهيرد، ليس نظاماً يعلو على السياسة. إنه سياسة بحد ذاتها.

النقطة التي نستخلصها هنا ليست أن القانون الدولي غير موجود أو أنه غير ذي قيمة. من الواضح أن هناك حاجة لقواعد لحماية المدنيين ومنع الحرب. القانون الإنساني الدولي هو أيضاً كيان حيّ ينبض بالحياة ويتكيف ويتوسع. اعتُمدت البروتوكولات الإضافية لاتفاقيات جنيف عام 1977. وأُقرّ نظام روما الأساسي الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية عام 1998.

لكن القانون الدولي يُواجَه أيضاً مراراً وتكراراً بالضغوط، وبشكل روتيني. تُنتهك وتُدفع باستمرار لخدمة الدول القوية. وبالتالي، يُفهم القانون الدولي عملياً على أنه خط سلوك مقبول متغير باستمرار. ربما نصل الآن إلى نقطة انحرف فيها هذا الخط عن المقاصد التأسيسية للقانون الدولي لدرجة أن النظام نفسه على وشك الانهيار.

أي جحيم مستقبلي نعيش فيه حاليًا؟

يحمل العدوان الإسرائيلي على غزة احتمالاً مرعباً بحدوث تحول جذري في خط المقبولية يجعل الإبادة الجماعية سلاحاً حربياً مشروعاً. إذا كنت تعتقد أنني أبالغ، فانظر إلى ما كتبه المؤرخ البريطاني “كولين جونز” Colin Jones في مجلة “نيويوركر” The New Yorker في وقت سابق من هذا العام. استشار جونز محامين بارزين في المؤسسة العسكرية الأمريكية حول آرائهم بشأن الحرب الإسرائيلية في غزة. ما وجده هو جيش أمريكي يشعر بقلق بالغ إزاء تقييده بالقانون الدولي عند خوض حرب مستقبلية ضد قوة عظمى كالصين – لدرجة أن “تخفيف إسرائيل لقيودها على سقوط الضحايا المدنيين” يُغير بشكل مفيد معايير السلوك الأمريكي المستقبلي.

يكتب جونز للجيش الأمريكي: “لا تبدو غزة مجرد بروفة لنوع القتال الذي قد يواجهه الجنود الأمريكيون فحسب، بل إنها اختبار لمدى تحمّل الشعب الأمريكي لمستويات الموت والدمار التي تنطوي عليها هذه الأنواع من الحروب”

في كتابه، يُوضح أستاذ العلوم السياسية الأمريكي “إيان هيرد” Ian Hurd أيضاً فرقاً جوهرياً بين النظامين القانونيين المحلي والدولي. يقول إن ما نتوقعه من القانون المحلي هو أن يكون “واضحاً ومستقراً ومعروفاً مسبقاً”، بينما القانون الدولي يخضع لموافقة الدول.

لا يمكن أن يكون ازدراء ترامب لمؤسسات القانون الدولي أوضح من ذلك. فقد فرض عقوبات على قضاة وخبراء قانونيين في المحكمة الجنائية الدولية بعد إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع السابق، يوآف غالانت. (أصدر عقوبات مماثلة عام 2020). تحدى ميثاق الأمم المتحدة بقصف إيران، وهي دولة ذات سيادة لا تُشكل خطراً وشيكاً على الولايات المتحدة. أما الرد العالمي؟ فكان توبيخاً خفيفاً خجولاً من الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” Emmanuel Macron ودعماً كاملاً من الأمين العام لحلف الناتو، “مارك روته” Mark Rutte.

ما يسعى إليه ترامب وأمثاله من قادة ليس تدمير القانون بقدر ما هو استعماره. ولا يقل ازدراءه للمؤسسات القانونية المحلية وضوحاً. فقد استغل حالات طوارئ زائفة ليدّعي “صلاحيات طوارئ” لم يسبقه إليها أي رئيس، مما مكّنه من الالتفاف على الكونغرس، والحكم بمراسيم. ونشر قوات عسكرية في كاليفورنيا، رغماً عن حاكمها، بل إن محكمة استئناف أذنت بقراره. إنه يسير على خطى التحدي العلني لمختلف الأوامر القضائية.

ما الذي يحدث؟

من المنطقي الاعتقاد بأننا نعيش في عصر جديد من الفوضى، لكن هذا لن يُظهر التغيير المُحدق بنا. الأمر لا يتعلق بغياب القانون، بل بإعادة صياغة القانون. ما يسعى إليه ترامب والقادة أمثاله من الشعبويين، ومن اليمينيين، ومن العنصريين البيض المتشددين امتلاك القانون وتطويعه من خلال تحديد معاييره لخدمة مصالحهم. بالنسبة لهم، وُجد القانون ليخضع لإرادتهم، ويدمر خصومهم، وليُوفر ذريعة لسلوك يُعاقَب عليه كجريمة في عالم أفضل.

ربما ليس من المُستغرب أن ينهار قانون هشّ كالقانون الدولي تحت وطأة ضغوط اليوم. ما قد يُثير الدهشة هو كيف نفقد أيضاً إحساسنا الداخلي بالاستقرار والسلام والأمن، ومدى ارتباط النضال من أجل فلسطين بهذا التفكك الداخلي، لا سيما عندما يتعلق الأمر بحرية التعبير.

اسألوا “سيرين حداد” الطالبة الأمريكية من أصل فلسطيني، وأحد الوجوه البارزة في الحراك الطلابي المناهض للإبادة في غزة داخل الجامعات الأمريكية. فقدت أكثر من   200 فرد من عائلتها في غزة منذ بدء الحرب. شاركت في مظاهرات طلابية مؤيدة لفلسطين، ما أدى إلى حرمانها من التخرج جامعة “فيرجينيا كومنويلث” Virginia Commonwealth University في مايو 2025.  أو اسألوا “محمود خليل” الطالب والناشط الحقوقي الفلسطيني الذي قضى 104 أيام رهن الاحتجاز بسبب خطابه السياسي المحمي دستورياً، ولا يزال يواجه خطر الترحيل.

لقد تمت الموافقة على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، شأنها شأن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في عام 1948 المشؤوم. كان صدورها مُلِحًاً وضرورياً بعد محرقة النازية للشعب اليهودي، وقد بُني القانون الدولي الحديث على أساس أن الجميع في المجتمع الدولي سيعمل معاً لمنع جرائم الإبادة الجماعية في المستقبل. وبينما فشل هذا المجتمع الدولي في الوفاء بهذا الوعد في الماضي، فإن أعمال الإبادة والإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين في غزة، بتمويل وتمكين من الغرب المتواطئ في كل خطوة، هي التي ساهمت بشكل كبير في انهيار النظام العالمي القائم على القواعد. وبالنظر إلى الوضع الحالي، فإن هذا النظام لن يصمد لأكثر من مئة عام.

إذا كان هناك بصيص أمل، فيمكن العثور عليه في العدد المتزايد من الناس حول العالم الذين يرفضون التخويف لإسكاتهم. ويمكن أن يُعزى انهيار هذا الأمل مباشرةً إلى النفاق الذي يسود العالم.

هكذا عامل العالم الفلسطينيين. لم تتعرض أي فئة أخرى لمثل هذه الحالة المطولة من الضياع في النظام الليبرالي الذي تأسس بعد عام 1945. يُشكل اللاجئون الفلسطينيون أقدم وأكبر حالة لاجئين مُطولة في العالم في العصر الحديث. وتزداد المطالب المفروضة على الفلسطينيين لمجرد البقاء على قيد الحياة وحشيةً كل ساعة.

في غزة، يُقتل الفلسطينيون اليائسون برصاص القناصة والطائرات المسيرة يومياً وهم ينتظرون الطعام. الجفاف وشيك لأن هجمات إسرائيل دمرت معظم محطات معالجة مياه الصرف الصحي وشبكات الصرف الصحي والخزانات والأنابيب في القطاع. لقد دمرت إسرائيل ما يصل إلى 98٪ من الأراضي الزراعية في غزة. هذا شكل من أشكال الحرب الشاملة التي لا ينبغي للعالم الحديث أن يشهدها أبداً، ناهيك عن التغاضي عنها.

لا أحد يعلم ما الذي سيحل محل النظام الدولي المنهار حالياً من حولنا، لكن أي نظام سياسي يُعطي الأولوية لمعاقبة المحتجين على الإبادة الجماعية بدلاً من وقف القتل قد استنفد قواه تماماً.

إذا كان هناك بصيص أمل في كل هذا البؤس المُثير للغضب، فيمكن إيجاده في العدد المتزايد من الناس حول العالم الذين يرفضون الخضوع للترهيب لإسكاتهم. ربما رأينا مثالاً بسيطاً على هذه الشجاعة في مدينة نيويورك مؤخراً، ولا أتحدث فقط عن فوز “زهران ممداني” Zohran Mamdani بترشيح الحزب الديمقراطي لمنصب عمدة المدينة. في اليوم نفسه، ترشحت اثنتان من السياسيين التقدميين في بروكلين هما “أليكسا أفيليس” Alexa Aviles و”شاهانا حنيف” Shahana Hanif لإعادة ترشيحهما. وكلاهما يدعم فلسطين، وتعرضا لهجوم لا هوادة فيه بسبب مواقفهما من غزة، وكلاهما رفضتا تغيير آرائهما. ضخّ المانحون المؤيدون لإسرائيل أموالاً في حملات منافسيهما. ومع ذلك، فاز كلاهما بسهولة في الانتخابات.

هناك عوامل متعددة تدخل في الفوز بأي حملة سياسية، لكن أي دعم مُعلن لفلسطين كان في الماضي بمثابة ناقوس خطر. هل نحن على أعتاب التغيير؟ ربما لم تعد حرية الفلسطينيين عبئاً، بل أصبحت الآن موقفاً رابحاً حقيقياً في السياسة؟

لعل فلسطين اليوم، كما قالت حداد، أوضح تعبير عن “شعور السلطة بالتهديد من الحقيقة”. وتابعت: “إذا كانوا يخشون طالباً يحمل لافتة أو رسالة مكتوبة بالطباشير أو يطالب بالعدالة، فنحن أقوى مما يريدوننا أن نصدق”. إنها محقة من أجلنا جميعاً.

مقالات مشابهة

  • بابا الفاتيكان: الوضع الإنساني يتدهور في غزة والجوع يسحق المدنيين
  • انطلاق ندوة بالجامعة العربية حول دور المحكمة الجنائية الدولية في محاسبة المسؤولين عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي
  • جيش الاحتلال الإسرائيلي يهاجم السفينة «حنظلة» في المياه الدولية لمنع كسر حصار غزة
  • ندوة حقوقية بمأرب تطالب بمحاكمة دولية لمرتكبي جريمة اغتيال الشيخ صالح حنتوس
  • موت الصحفيين في غزة جوعاً.. انهيار قواعد القانون الدولي
  • ندوة حقوقية بمأرب تدعو إلى محاكمة دولية لمرتكبي جريمة اغتيال الشيخ حنتوس.
  • أكدت أن الاحتلال الإسرائيلي يستخدم “التجويع” سلاح حرب.. المجموعة الدولية لإدارة الأزمات تحذر من كارثة إنسانية وشيكة في غزة
  • تحرك عربي ضد الكنيست الإسرائيلي في الاتحاد البرلماني الدولي
  • رئيس الوزراء الكندي يتهم “إسرائيل”بانتهاك القانون الدولي بمنعها وصول المساعدات لغزة
  • القانون يحصن أعضاء الشيوخ| تفرغ كامل وعودة آمنة للوظيفة بعد انتهاء العضوية