يقارن الصحفي البريطاني المعروف ديفيد هيرست بين استراتيجيتي رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس حركة حماس يحيى السنوار.

يعتقد هيرست في مقاله في موقع " ميدل إيست آي" أن استراتيجية نتنياهو تتمثل في 4 أهداف: إعادة الرهائن، وسحق كل مجموعات المقاومة في فلسطين ولبنان، وإنهاء برنامج إيران النووي، وإضعاف محور المقاومة، وإعادة تنظيم المنطقة بحيث تكون "إسرائيل" هي المهيمنة.



فيما تتلخص استراتيجية السنوار في هدفين، استقاهما هيرست من خطابين كان قد ألقاهما في العام الذي سبق هجوم حماس. في أحدهما قال السنوار إن "تصعيد المقاومة بكل أشكالها وجعل الاحتلال يدفع فاتورة الاحتلال والاستيطان هو السبيل الوحيد لتخليص شعبنا وتحقيق غاياته في التحرير والعودة".


وفي الثاني قال: "إما أن نجبرها (إسرائيل) على تطبيق القانون الدولي، وعلى احترام القرارات الدولية، (أي) الانسحاب من الضفة الغربية والقدس، وتفكيك المستوطنات، وإطلاق سراح الأسرى (والسماح) بعودة اللاجئين. وإما أننا، نحن والعالم، سنجبرها على عمل هذه الأشياء وإنجاز إقامة الدولة الفلسطينية في المناطق المحتلة، بما في ذلك القدس، أو أننا نجعل الاحتلال في حالة من التناقض مع الإرادة الدولية بأسرها، وبذلك نعزلها بقوة وبشدة، ونضع حداً لحالة اندماجها داخل المنطقة وفي العالم كله".

ويخلص هيرست في نهاية مقاله إلى أنه يبدو أن استراتيجية السنوار هي التي تنجح. وسواء عاش أو مات، فقد بات لتلك الأجندة زخمها الخاص، والذي لا قبل لأحد بوقفه.


وفيما يلي نص المقال المترجم كاملا:

لم يتوقع معلق واحد يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، وأنا منهم، أن الحرب ستظل رحاها دائرة على أشدها بعد عام من ذلك.

لم يتوقع أحد قبل عام من الآن أن تخوض "إسرائيل" قتالاً لفترة أطول من تلك التي استغرقتها عند تأسيس الدولة في عام 1948، فكل الحروب التي خاضتها "إسرائيل" منذ ذلك الوقت كانت مجرد استعراضات قصيرة للقوة المطلقة، وليس لمجرد الرغبة في المحاولة.

لقد قصفت "إسرائيل" غزة حتى أعادتها إلى العصر الحجري، حيث تم إلحاق الضرر بما يزيد عن سبعين بالمائة من بيوتها أو دمرت تدميراً تاماً. وها هي "إسرائيل" تتأهب لفعل نفس الشيء في صور، وفي الضواحي الجنوبية لبيروت، وفي مناطق أخرى كثيرة في جنوب لبنان.

لا أحد يرفع الراية البيضاء، ولا توجد مؤشرات بارزة على حدوث تمرد بين السكان – الذين يعيشون الآن في الخيام– والذي فقدوا واحداً وأربعين ألف نسمة بسبب القصف المباشر، ويكاد يصل من قضوا نحبهم في الحرب بشكل غير مباشر ثلاثة أو أربعة أضعاف ذلك العدد.

قالت مجلة "ذي لانسيت" إن العدد الفعلي للوفيات قد يتجاوز 186 ألفاً فيما لو تم أخذ عوامل أخرى، مثل المرض وانعدام الرعاية الصحية، في الحسبان.

فهؤلاء الناس يتعرضون للتجويع، وانتشرت بينهم الأمراض، وهم على وشك قضاء الشتاء الثاني لهم في الخيام. ويتم قصفهم بشكل يومي، ومازالوا عصيين على الخضوع. لم يسبق أن حل مثل هذا الحجم من المعاناة بأي جيل سابق.

ما من فلسطيني على قيد الحياة اليوم إلا ويعرف التبعات، ومع ذلك لا تراهم يهربون. معظمهم يؤثرون الموت على التخلي عن أراضيهم وديارهم للمحتل.

استراتيجيتان اثنتان
منذ بداية هذه الحرب، كانت هناك استراتيجيتان واضحتان تمام الوضوح لكل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزعيم حماس يحيى السنوار.

بعد الهجوم الذي شنته حماس على جنوب إسرائيل، أعلن نتنياهو عن أربعة أهداف: إعادة الرهائن، وسحق كل مجموعات المقاومة في فلسطين ولبنان، وإنهاء برنامج إيران النووي، وإضعاف محور المقاومة، وإعادة تنظيم المنطقة بحيث تكون إسرائيل هي المهيمنة.

كما غدا جلياً بسرعة لدى عائلات الرهائن، وكذلك لدى فريقه المفاوض وحماس ووليام بيرنز، مدير "سي آي إيه" الذي كان يشرف على المحادثات، لم تكن لدى نتنياهو النية في إعادة الرهائن إلى ديارهم.

وسعى إلىِ إقناع إسرائيل بأن الضغط على حماس سوف يضمن إطلاقاً سريعاً للرهائن. كان هذا مجرد هراء، فالغالبية العظمى من الرهائن – لم يبق الآن منهم داخل غزة سوى 101 – يموتون بسبب القنابل والصواريخ التي تطلقها إسرائيل. ثلاثة منهم أطلقت عليهم النيران بينما كانوا يحاولون الاستسلام.

تحت لواء حكومة نتنياهو اليمينية، تعتبر حياة الرهائن ثانوية بالمقارنة مع هدف سحق حماس، وذلك أنه فيما لو عاد الرهائن لواجه نتنياهو حكماً طويلاً بالسجن.

ولكنه، وكما غدا واضحاً، فشل في سحق حماس، ومن هنا يأتي توجهه السريع نحو خوض حرب جديدة مع لبنان وحزب الله. مازالت حماس تسيطر على غزة، حتى الآن، ورغم محاولتين لاستبدالها كحكومة للقطاع، لم تبرز أي قوة أخرى ذات مصداقية في القطاع.

وحيثما غابت القوات الإسرائيلية تحضر حماس، بل ويظهر على الساحة خلال ساعات رجال الشرطة بلباس مدني لتسوية أي نزاعات طارئة.

في البداية جربت إسرائيل إبادة قيادة حماس، فقتلت الصف الأول والثاني من المسؤولين الذين يديرون الحكومة، حيث قضى معظمهم نحبهم في المجزرة التي ارتكبت خارج مستشفى الشفاء. 

ولكن سنحت فرصة لتكوين فكرة عما يجري في غزة عندما أعلنت إسرائيل مؤخراً أنها قتلت ثلاثة من كبار المسؤولين في حماس – روحي مشتهى، رئيس الحكومة ورئيس الوزراء بحكم الأمر الواقع، وسامح السراج، الذي كان يحمل حقيبة الأمن في المكتب السياسي لحماس، وسامي عوده، قائد جهاز الأمن العام التابع لحماس.

كان ذلك في الضربة الجوية التي وقعت قبل ثلاثة شهور، ومع ذلك لم يلحظ أحد غيابهم. وما هذا إلا لأن حماس استمرت في العمل بغض النظر عمن بقي على قيد الحياة من قادتها ومن قضى نحبه.

في الماضي، كانت الاغتيالات تفضي إلى مرحلة من عدم اليقين بالنسبة لحماس، وهذا ما حدث بعد قتل عبد العزيز الرنتيسي في عام 2004. ولكن لم يعد ينجح ذلك اليوم، ولم يعد يجدي نفعاً مع هذا الجيل من المقاتلين.

جز الرأس عمل تكتيكي وقصير المدى، يمنح القتلة شعوراً بالارتياح. لا ريب في أن قيادة حزب الله ترنحت يمنة ويسرة تحت وطأة سلسلة من الاختراقات الأمنية، بدءاً بتفجر آلاف أجهزة المناداة وأجهزة اللاسلكي المفخخة.

ولكن ذلك لم يفقده القدرة على الفعل كقوة مقاتلة، كما اكتشفت وحدة الاستطلاع التابعة للواء غولاني.

أما على المدى البعيد، فيتم استبدال القادة، كما يتم التزود بالعتاد، ويتم الانتقام للذكريات.


دور إيران
تتحمل إسرائيل المسؤولية الأولى عن ذلك، وذلك لأنها ضربت عرض الحائط، عمداً، بالأعراف السابقة للقتال، حيث بات الآن استهداف شخص واحد يشك في تواجده مبرراً كافياً لقتل تسعين شخصاً بريئاً ممن يحيطون به، سواء ثبت بالفعل تواجده في الموقع أم لم يثبت. وهكذا أبيدت عائلة بأسرها في قصف جوي لمقهى داخل الضفة الغربية، حيث مات ثمانية عشر فلسطينياً، بمن فيهم طفلان مزقا شر ممزق. لو كان يقصد من إطلاق الصواريخ على المقاهي توجيه رسالة ما، فإن ما ينتج عن ذلك هو العكس تماماً لما كان مقصوداً منها.

إن الشهداء هم أفضل سبيل للتجنيد والأكثر فعالية.

ويصدق ذلك في حالة كل جماعات المقاومة، كبرت أم صغرت، سواء القديمة منها أو التي تشكلت لتوها. في كل مرة تغادر فيها القوات الإسرائيلية جنين أو طولكرم أو نابلس، تظن أنها تمكنت من القضاء قضاء مبرماً على المقاومة فيها، ولكن في كل مرة تعود لتواجه المزيد من المقاتلين.

يولّد الإرهاب الإسرائيلي مزيداً من الإرهاب، ولا أدل على ذلك من أن تدمير بيروت الغربية في عام 1982 هو الذي حفز أسامة بن لادن على مهاجمة البرجين في عام 2001.

هدف نتنياهو الثالث، وهو القضاء على إيران كقوة نووية وكقوة إقليمية، هدف قديم يسبق السابع من أكتوبر بعدة عقود.

عند كتابة هذا المقال كنا ما نزال بانتظار رد إسرائيل على إطلاق إيران 180 صاروخاً بالستياً، تمكن بعضها من الوصول إلى أهدافها.

اضطر الرئيس الأمريكي جو بايدن سريعاً إلى التراجع عن تصريحات بالسماح لإسرائيل بمهاجمة مرافق النفط الإيرانية، وذلك بعد أن قيل له إن إيران بإمكانها بضربة واحدة إغلاق مضير هرمز.

لا يوجد من هو أكثر قلقاً من قيام إسرائيل بمهاجمة إيران من حلفاء الولايات المتحدة في الخليج. وذلك أن المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ذاقتا طعم ما يمكن أن يحدث لأرامكو وللصادرات النفطية فيما لو تعرضت مرافق النفط الإيرانية للهجوم.

ولهذا السبب أصدرت دول الخليج بياناً أعلنت فيه اتخاذها موقفاً حيادياً، مضيفة إنها لن تسمح للولايات المتحدة باستخدام أي من قواعدها لشن هجوم على إيران.

ولكن الحقيقة التاريخية هي أن إيران لم تكن يوماً مركزية بالنسبة للقضية الفلسطينية، ولم تنضم إلى المعمعة إلا بعد ثورتها في عام 1978. على مدى مائة عام، كان الفلسطينيون يقاتلون وحدهم، أحياناً بمساعدة من الدول العربية، أولاً من مصر، ثم سوريا، ثم العراق، ولكن كانوا في معظم الأوقات لوحدهم.

كما أن البرنامج النووي الإيراني لا يعني شيئاً بالنسبة للنضال الفلسطيني. بل إن أكبر عامل على الإطلاق هو تصميم الشعب الفلسطيني على العيش في أرضه.

لا يصدر التهديد الحقيقي لإسرائيل عن إيران، وإنما يصدر عن شاب فلسطيني في جنين أو عن حارس سابق في الحرس الرئاسي في الخليل، أو عن فلسطيني يحمل الجنسية الإسرائيلية في النقب.

كل هؤلاء خلصوا إلى استنتاجات خاصة بهم بسبب الحالة المأساوية التي يعيشونها تحت وطأة الاحتلال. لا يحتاج أي من هؤلاء إلى تشجيع أو تحريض من قبل إيران.

دكتاتوريات بشعة
هدف نتنياهو الرابع هو إعادة تنظيم المنطقة تحت هيمنة إسرائيل. لكم يعشق المسؤولون الإسرائيليون الحديث مع الصحفيين الأمريكيين حول ما يصلهم سراً من زعماء "السنة المعتدلين" في العالم العربي من عبارات دعم لإسرائيل وتأييد لأجندتها فرض الهيمنة على المنطقة. وهؤلاء الزعماء كلهم دكتاتوريون في غاية البشاعة.

ولكن هنا أيضاً، ترتكب إسرائيل والولايات المتحدة نفس الخطأ المرة تلو الأخرى من خلال الخلط بين ما يصلهم سراً من عبارات دعم وتأييد من الأثرياء المذعنين لهم وبين الشعوب التي يزعم هؤلاء بأنهم يمثلونها.

النموذج الساطع لهؤلاء الأثرياء المذعنين، كبير البراغماتيين ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، نقل عنه خطأ على نطاق واسع تأييده لوجهة النظر التي تقول إن الحكام العرب في حقيقة أمرهم لا تعنيهم فلسطين كثيراً.

كان العنوان الرئيسي الذي اقتبس من محادثاته مع أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، هو النص التالي: "هل أعبأ شخصياً بالقضية الفلسطينية؟ لا، لا أعبأ".

إلا أن الاقتباس الكامل كان على النحو الذي شرحه الأمير في حديثه مع بلينكن قائلاً: "سبعون بالمائة من شعبي هم أصغر مني سناً، ومعظمهم لم يعرفوا في الحقيقة الكثير عن القضية الفلسطينية. ولذلك فهم الآن يتعرفون عليها للمرة الأولى من خلال هذا الصراع. وهذه مشكلة كبيرة. هل أعبأ شخصياً بالقضية الفلسطينية؟ لا، لا أعبأ، ولكن شعبي يعبأ، ولذلك يجب علي أن أتأكد من أن هذا له معنى".

كلما زاد استبداد النظام، وكلما شعر الحاكم بعدم الاتزان في أوقات الأزمات الإقليمية، كلما زادت حاجته لأن يبدي اهتماماً بالغضب الشعبي تجاه فلسطين. تلك هي نقطة ضعفهم، وذلك أن الاستبداد لا قبل له بإخماد التأييد لفلسطين ولا إلهاء الناس عنه بغيره. بل من شأن الاستبداد أن يعزز مثل هذا التأييد.

انطلاقاً من ذلك جاء إعلان وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود أن المملكة العربية السعودية لن تطبع العلاقات مع إسرائيل إلا بعد إقامة دولة فلسطينية.

يمكن لهذا الأمر أن يذرع المكان جيئة وذهاباً، ولكن حتى الآن، على الأقل، نشهد تبدداً لأثر اتفاقيات أبراهام في إقامة تحالف إقليمي مناصر لإسرائيل.

أهداف السنوار
دعونا الآن ننظر في أهداف السنوار الاستراتيجية يوم السابع من أكتوبر، ولنرى أيها صمد مع مرور الوقت.

كان لديه هدفان استراتيجيان. ما يفكر به يمكن استنتاجه من خطابين كان قد ألقاهما في العام الذي سبق هجوم حماس. قال السنوار في أحدهما، وكان ذلك في كانون الأول/ ديسمبرمن عام 2022، إنه ينبغي أن نجعل الاحتلال أكثر تكلفة لإسرائيل.

وأضاف: "تصعيد المقاومة بكل أشكالها وجعل (سلطات) الاحتلال تدفع فاتورة الاحتلال والاستيطان هو السبيل الوحيد لتخليص شعبنا وتحقيق غاياته في التحرير والعودة."

وفي خطاب آخر قال السنوار إنه يجب على الفلسطينيين أن يعرضوا على إسرائيل خياراً واضحاً.

وقال: "إما أن نجبرها على تطبيق القانون الدولي، على احترام القرارات الدولية، (أي) الانسحاب من الضفة الغربية والقدس، وتفكيك المستوطنات، وإطلاق سراح الأسرى (والسماح) بعودة اللاجئين. وإما أننا، نحن والعالم، نجبرها على عمل هذه الأشياء وإنجاز إقامة الدولة الفلسطينية في المناطق المحتلة، بما في ذلك القدس، أو أننا نجعل الاحتلال في حالة من التناقض مع الإرادة الدولية بأسرها، وبذلك نعزلها بقوة وبشدة، ونضع حداً لحالة اندماجها داخل المنطقة وفي العالم كله".

فيما يتعلق بالنقطة الأولى، لا ريب أن حماس جعلت الاحتلال أكثر تكلفة بالنسبة لإسرائيل.

فمنذ أن بدأت الحرب قتل 1664 إسرائيلياً، 706 منهم جنود، وبلغ عدد من جرحوا 17809، وعدد من أجبروا على إخلاء منازلهم 143 ألفاً، بحسب ما أوردته صحيفة "جيروزاليم بوست".

وبدأ المال يهرب إلى الخارج. وعلى الرغم من عودة كثيرين من عناصر الاحتياط، الذين يبلغ تعدادهم 300 ألف، إلى وظائفهم، نشرت مجلة "الإيكونوميست" تقريراً جاء فيه: "ما بين أيار/ مايو وتموز/ يوليو، تضاعفت كمية الأموال المتدفقة من البنوك في البلد إلى المؤسسات الدولية مقارنة بنفس الفترة من العام المنصرم، حيث وصلت إلى 2 مليار دولار. ولذا غدا صناع السياسة الاقتصادية في إسرائيل أشد قلقاً مما كانوا عليه منذ بدء الصراع".

أكبر تأثير منذ السابع من أكتوبر
ولكن أكبر الضربات التي وجهها السابع من أكتوبر كانت في المستوى السيكولوجي (النفسي).

وذلك أن الانهيار المفاجئ والتام للجيش الإسرائيلي قبل عام من الآن شكل صدمة كبيرة لم تتعافى منها إسرائيل بعد، إذ أنه تحدى الدور الأساسي الذي تقوم به الدولة في الدفاع عن مواطنيها.

جعل ذلك كل الإسرائيليين يشعرون بانعدام الأمان، وهذا هو الذي يفسر، وحده، التوحش الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي في رده، على الرغم من الشكوك العميقة التي تساور قادة الأجهزة الأمنية.

إذا كان ما زال محفوراً في ذاكرة ديفيد إغناتيوس ذلك المقطع المصور لأحد مقاتلي حماس وهو يتصل بالبيت مخاطباً والدته في غزة ومفاخراً بعدد من قتلهم من اليهود، فماذا عن الآلاف من المقاطع المرفوعة على "التيك توك" من قبل جنود إسرائيليين يتباهون بما ارتكبوه من جرائم حرب؟ ما هو الأثر الذي تتركه هذه المقاطع على الكاتب في صحيفة واشنطن بوست؟ إلا أنها مغيبة تماماً من قبله ومن قبل كثيرين مثله.


لأن تقبل المرء لسردية أن السابع من أكتوبر كان هولوكوست إسرائيل هو بمثابة وضع الغمامات على العيون.

يعني ذلك استثناء وتبرير كل ما فعلته إسرائيل بجميع الفلسطينيين بغض النظر عن العائلة أو العشيرة أو التاريخ، إنها الهمجية التي لا تضاهيها همجية، ولا إنسانية أكبر مما يمكن أن يخطر ببال أحد من البشر حتى يوم السادس من أكتوبر أنها يمكن أن تصدر عن دولة في هذا المستوى من التحضر والتعليم.

وهنا، أخيراً، نصل إلى أكبر أثر تركه هجوم حماس.

في السادس من أكتوبر كانت القضية الوطنية الفلسطينية في عداد الأموات، إن لم تكن قد دفنت بالفعل. فبعد مرور ثلاثين سنة على اتفاقيات أوسلو، غدت غزة معزولة تماماً، وبات الحصار المفروض عليها أبدياً، ولم يكن أحد يعبأ بذلك.

أعلن نتنياهو انتصاره، وذلك في أيلول/ سبتمبر 2023، عندما لوح بخريطة في الأمم المتحدة لا وجود فيها للضفة الغربية.

كان هناك بند واحد في الأجندة الإقليمية. إنه التطبيع الوشيك للمملكة العربية السعودية مع إسرائيل. وكانت المنطقة في أهدأ أحوالها منذ عقود، كما كتب جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأمريكي، في مقاله الأصلي الذي أعده للنشر في مجلة "فورين أفيرز".

فقد قال في النسخة الأصلية، التي سرعان ما أعيد تحريرها وتعديل محتواها: "على الرغم من أن الشرق الأوسط مازال يواجه تحديات معمرة، إلا أن المنطقة الآن في أهدأ أحوالها منذ عقود".

ذروة النصر
في عهد أشد القيادات يمينية في تاريخها، تم التخلي عن صيغة الأرض مقابل السلام، ومعها تم التخلص من فكرة الانفصال. من خلال الاستيلاء على الأراضي والتمسك بها، كانت إسرائيل في ذروة النصر.

بعد السابع من أكتوبر، وصل دعم المقاومة المسلحة في الضفة الغربية إلى الذروة، فقد وضع هجوم حماس المقاومة المسلحة تارة أخرى على الأجندة كسبيل لفرض أجندة التحرير.

لو أن اتفاقيات أوسلو نجحت في إنتاج دولة فلسطينية خلال خمس سنين من التوقيع عليها، لما وُجدت حركة مثل حماس، أو لو وُجدت لربما تصرفت كما تتصرف مجموعة منفصلة عن الجيش الجمهوري الإيرلندي، ولما كانت قادرة على تغيير مسار الأحداث. 

أما اليوم فحماس هي التي تغير مسار الأحداث، لأن الطريق السلمي نحو دولة فلسطينية قابلة للحياة تم سده، وكل حديث عن عملية السلام غدا مجرد سراب.

لم يقتصر الأمر على فشل أوسلو في إنتاج دولة فلسطينية، بل لقد أوجدت هذه الاتفاقيات الظروف التي مكنت الدولة الإسرائيلية من التوسع والازدهار بشكل غير مسبوق داخل الضفة الغربية وفي القدس.

كان هذا هو العامل الأهم والأكبر على الإطلاق الذي أقنع جيلاً جديداً من الشباب الفلسطينيين ببيع سياراتهم ودكاكينهم وشراء الأسلحة.

وحينما هاجمت كتائب القسام جنوب إسرائيل، لم يحتج هؤلاء الشباب إلى كثير من الإقناع. بعد مضي عام، ها هو جناح حماس المسلح يحظى بالبطولة في الضفة الغربية والأردن والعراق، وأظن كذلك، في أجزاء كبيرة من مصر ومن شمال أفريقيا.

لو سُمح الآن تنظيم انتخابات لطيرت حماس فتح كما فعلت بها في عام 2006.

وعلى مستوى الإقليم، ها هو محور المقاومة، الذي ظل طوال معظم الفترة التي تلت انطلاق ثورات الربيع العربي مجرد ظاهرة خطابية، قد غدا تحالفاً عسكرياً فاعلاً.

وحزب الله الذي ظل لوقت طويل ينأى بنفسه عن عملية حماس، ها هو يتعرض للهجوم في الحرب مثله مثل حماس. غادر ملايين اللبنانيين ديارهم، وها هي بيروت تعاني من نفس الرعب الذي عانت منه مدينة غزة بسبب الطائرات الإسرائيلية المسيرة والمقاتلة.

عادت فلسطين إلى موقعها الصحيح، حيث تضطلع بالدور الأساسي في حسم أمر الاستقرار في المنطقة.

انتقاض عقود من الجهود الأمريكية والإسرائيلية

ينقض رد إسرائيل الوحشي على السابع من أكتوبر عقوداً من الجهود الإسرائيلية والأمريكية لإقناع العرب بأن فلسطين لم تعد تملك حق الاعتراض على العلاقات الإسرائيلية العربية.

لقد غدا اليوم حق الاعتراض هذا أقوى من أي وقت مضى.

وغدا التغيير أكثر جلاء على المستوى العالمي. ولقد ساعد على ذلك تلك الرغبة الجامحة من قبل التحالف الغربي في إيجاد عدو. كان هذا العدو حتى وقت قريب هو السوفيات.

ثم حلت محله كتهديد عالمي ظاهرة الإسلام الراديكالي.

والآن يتمثل التهديد في التحالف بين الأنظمة الدكتاتورية: روسيا والصين وإيران، وكلها تسعى نحو نطاقات من المصالح من شأنها أن تقوض النظام الدولي، كما ذكر وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في مقال أخير له في مجلة "فورين أفيرز".

وكما أن الولايات المتحدة لا تسعى نحو نطاق عالمي من المصالح؟ لا يبدو أن تأكيدات سوليفان أو تأكيدات بلينكن عبر فورين أفيرز تعرف الشيخوخة.

ولكن نتيجة لحربها، تخسر إسرائيل النصف الجنوبي من العالم وجزءاً كبيراً من الغرب كذلك.

لقد غدت فلسطين قضية حقوق الإنسان العالمية الأولى، وتتصدر الجهود المبذولة لضمان العدالة الدولية عبر رفع القضايا لدى المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية.

وهي التي أطلقت العنان لأكبر حركة احتجاجية في بريطانيا في التاريخ الحديث.

مسألة وقت
من بين الاستراتيجيتين، يبدو أن استراتيجية السنوار هي التي تنجح. وسواء عاش أو مات، فقد بات لتلك الأجندة زخمها الخاص، والذي لا قبل لأحد بوقفه.

لعل نتنياهو، الذي جرأه ضعف بايدن واحتمال مجيء دونالد ترامب، الذي يقول إن إسرائيل صغيرة أكثر من اللازم، يتوهم بأن بإمكانه أن يحتل شمال غزة وجنوب لبنان.

من المؤكد أن ضم المناطق "جيم"، والتي تشكل معظم أراضي الضفة الغربية، سيأتي من بعد.

ولكن ما لن يكون نتنياهو قادراً على فعله في غزة أو في لبنان أو في الضفة الغربية هو إنهاء ما بدأه.

إن الذي أجبر آرييل شارون على الانسحاب من غزة أو إيهود باراك على الانسحاب من لبنان، سوف ينطبق على القوات الإسرائيلية التي يحاول نتنياهو نشرها في غزة وفي لبنان، وبشكل أعنف بكثير. إنها مسألة وقت.

لقد نزعت هذه الحرب عن إسرائيل صورة الصهيوني الليبرالي، صورة الغلام الجديد في الحي السكني، الذي يدافع عن نفسه في مواجهة "الحي الصعب."

حلت محل ذلك صورة البعبع الإقليمي، الدولة التي تمارس الإبادة الجماعية، بلا بوصلة أخلاقية، مستخدمة الإرهاب من أجل البقاء. مثل هذه الدولة لا يمكنها العيش بسلام مع جيرانها، فهي تسحق وتهيمن حتى تظل على قيد الحياة.

حرب نتنياهو قصيرة المدى وتكتيكية، بينما حرب السنوار طويلة المدى، هدفها جعل إسرائيل تدرك أنها لا يمكنها أبداً الاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها إذا كانت فعلاً تنشد السلام.


حرب نتنياهو عمرها سنة، ولا يمكنها الاستمرار بنفس الطريقة التي بدأت بها إلا عبر إلحاق نفس الدمار بجنوب لبنان كالذي ألحقته بغزة. لا يوجد فيها غيار عكسي. أما حرب السنوار فقد بدأت لتوها.

من الذي سيكسب؟ يتوقف ذلك على درجة تحمل المستضعفين. لن أستغرب أن يكون هناك من يقول: "لقد كفانا ما أتانا، نريد التوقف".

ولكن بعد مرور عام لا زالت روح المقاومة مرتفعة وآخذة في النمو. إذا كنت على صواب، فهذا القتال مازال في مراحله الأولى.

لقد تبدلت معادلة القوة في الشرق الأوسط، ولكن ليس لصالح إسرائيل أو الولايات المتحدة.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية نتنياهو السنوار فلسطين فلسطين نتنياهو السنوار طوفان الاقصي صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة السابع من أکتوبر دولة فلسطینیة الضفة الغربیة الانسحاب من هجوم حماس هی التی وذلک أن ذلک فی فی عام فی غزة عام من من قبل

إقرأ أيضاً:

ماذا نعرف عن مشروع التهويد الأخضر الذي تنفذه إسرائيل؟

طالما ارتبط مشروع تهويد القدس بمحاولات إحكام الاحتلال فرض السيطرة على الأرض، وإقصاء الهوية الأصيلة، ومن بين وسائل التهويد التي لا يتم تسليط الضوء عليها "التشجير الاستيطاني"، وقد عاد الحديث عنها تزامنًا مع الحرائق الضخمة التي اندلعت في القدس المحتلة في نهاية شهر أبريل/ نيسان الماضي، وكيف أسهمت هذه النباتات الدخيلة في مفاقمة الحرائق واتساع رقعتها، لتطال أكثر من 100 موقع في جبال القدس المحتلة، وهو ما أجبر الاحتلال على طلب المساعدة وإخلاء المستوطنين من مناطق الحرائق وغيرها من الإجراءات.

ونسلّط الضوء في هذا المقال على جانبٍ منسيّ من تهويد شطري القدس المحتلة مرتبطٍ بالحدائق والتشجير، ونقدّم من خلاله إطلالة على تاريخ هذا النمط الخفيّ من التهويد، وكيف وظف المشروع الصهيوني الغابات لتحقيق أهدافه في السيطرة على الأرض الفلسطينية، وإخفاء القرى العربية، واستمرار هذا الأسلوب حتى يومنا هذا، من خلال "الحدائق التوراتية" التي تحاصر الشطر الشرقي من القدس المحتلة.

من البدايات إلى ملايين الأشجار الدخيلة

بدأ الاستيطان في القدس بشكلٍ مبكر، فتوازيًا مع توسع الأحياء الفلسطينية خارج البلدة القديمة، استطاع بعض الأثرياء إنشاء أحياء يهودية خارج حدود البلدة القديمة، أُقيم حي "يمين موشيه" في منطقة جورة العناب في عام 1850، وهو أول الأحياء اليهودية التي أُقيمت في القدس، وقد اشتراه السير موشيه مونتيفيوري في عام 1854، تلاه حي "مئاه شعاريم" في منطقة المصرارة، و"ماقور حابيم" في المسكوبية في عام 1858، واستطاع مونتيفيوري بناء سبعة أحياء استيطانية أخرى حتى عام 1892.

إعلان

وعلى الرغم من القيود العثمانية فإن الاستيطان استمرّ بالتوسع، فحتى عام 1917 وصل عدد المستوطنات إلى نحو 16 مستوطنة، وقد تركزت في الشطر الغربي من القدس، ولعب أثرياء الصهاينة دورًا بارزًا في تمويل هذه المستوطنات، بدعمٍ من القنصليات الأجنبية.

وبالتوازي مع بدايات الاستيطان، أطلقت المنظمات الصهيونية نوعًا آخر من الاستيطان، وهو الاستيطان بالتشجير، من خلال الصندوق القومي اليهودي (Jewish National Fund)، والذي تأسس في عام 1901، وبحسب معطيات الصندوق فقد استطاع منذ تأسيسه زراعة أكثر من 260 مليون شجرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتغطي هذه الغابات أكثر من 250 ألف فدان (نحو 1.1 مليون دونم)، وبحسب معطيات الصندوق تتنوع الأشجار المنتشرة في هذه المساحات ما بين البلوط، الصنوبر، اللوز، السرو، الأرز وبعض الأنواع الأخرى.

ولا تقدّم معطيات "الصندوق" بياناتٍ واضحة حول حجم التشجير الاستعماري في شطري القدس المحتلة، إلا أن أجزاء كبيرة من شطرها الغربيّ تمّ تشجيرها، ومن أبرزها الجبال الغربية في هذا الشطر، والطريق التاريخي الواصل ما بين القدس ويافا، وغيرها من المناطق التي تحيط بالبلدة القديمة.

التشجير وإحياء نبوءات توراتية

لم تقف أهداف أذرع الاحتلال عند السيطرة على الأرض فقط، وهو ما سنبينه لاحقًا، إلا أنه ارتبط بالأساطير الدينية التوراتية، من خلال ربط المشروع الاستعماري في الأراضي المحتلة بالأشجار، فقد استند التفسير الصهيوني إلى نصوصٍ تتحدث عن "الأرض الموعودة" الغنية، والتي تضم أنواعًا من الأشجار، وهي: "الصنوبر، الصندل، الفستق، البلوط، الأرز، الطرفاء، السرو، الصفصاف، العرعر، الحور، الطلح".

إلى جانب مركزية الزراعة في الفكر اليهودي، وتخصيص أعياد خاصة بالشجرة تعود إلى الحقبة المبكرة من الاستيطان في عام 1887، ودفع مختلف الشرائح الاجتماعية على المشاركة في التشجير خلال يوم محدد من العام، وتُشير المعطيات إلى ربط اليهودية مفهوم الشجرة بالإنسان، ومن العادات لدى المستوطنين زراعة شجرة سرو أو صنوبر للمولودة الأنثى، وشجرة أرز للمولود الذكر، في سياق ارتباط الأشجار والإنسان في الفكر اليهودي، وغيرها.

إعلان

وعلى الرغم من هذه المركزية الدينيّة، فإن الدفع نحو استنساخ البيئة الأوروبية وسرعة الوصول إلى النتائج، كانت هي التي تدفع الصندوق القومي اليهودي لاختيار أنواع الأشجار، فقد زُرعت أشجار الكينا بشكلٍ كبيرٍ جدًا في المراحل الأولى من "الاستيطان الأخضر"، وتشكل اليوم شجرة الصنوبر نحو ثلث عدد الأشجار في الغابات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، على الرغم من ذكر هذه الشجرة لمرة واحدة فقط في النصوص اليهودية.

توظيف الزراعة في المشروع الصهيوني

"كانت فلسطين في نظر المهاجرين الصهاينة الجدد كصفحة بيضاء سيصمّمون عليها وطنهم المُتَخَيَّل، ويحقّقون عليه النبوءة بخلق شيء من لا شيء"، بهذه العبارة المهمة التي أوردتها إليسا روزنبرغ في بحثها بعنوان "خلق شيء من لا شيء". وروزنبرغ أكاديمية إسرائيلية ومهندسة للمناظر الطبيعيّة.

وتُشير روزنبرغ إلى توسيع التحريج (زراعة الغابات) بشكل كبير إبان الاحتلال البريطاني، بالتوازي مع عمل الصندوق القومي اليهودي، وكان هدف البريطانيين منع تعرية التربة، وتثبيت الكثبان الرملية، وتوفير الأخشاب والوقود، وقد سهّل وجود جهات معنية بالغابات في جميع أنحاء الإمبراطورية البريطانية استيراد البذور والشتلات من المستعمرات البريطانية البعيدة، بما في ذلك الهند، وأستراليا، ومصر، وقبرص.

واستجلب الاحتلال البريطاني نحو 250 نوعًا من النباتات من 20 دولة مختلفة خلال مدة احتلاله. وأسهم الاحتلال البريطاني بإطلاق التشجير الاستيطاني بقوة، فقد زرعت سلطات "الانتداب" نحو 20 مليون شجرة، ووفّرت نحو 15 مليون شجرة أخرى للمستوطنات اليهودية ولجهاتٍ أخرى، وفي الفترة نفسها لم يكن نشاط الصندوق القومي اليهودي بهذه القوة، فقد أسهم بزراعة أعداد أقل بكثير من الأشجار خلال المدة نفسها.

من أبرز تجليات حملات التشجير الممنهجة، محاولة استنساخ التصور الأوروبي- الصهيوني لهذه الأرض، وتُشير المصادر إلى أن العمال وجلّ مهندسي الغابات في الصندوق القومي قدِموا من أوروبا الشرقية، وهو ما أدى إلى تنفيذ تصوراتهم عن الغابات وشكلها واستعمالاتها في الأراضي المحتلة التي يتم تشجيرها، وهو ما أدى لأن تصبح غابات الصنوبر التي أقامها الصندوق أشبه بغابات شمال أوروبا، إضافةً إلى محاولة المستوطنين الدخلاء التكيف مع الأراضي المحتلة، في محاولة للعثور على مكان "يشبه" هؤلاء الدخلاء في بلادٍ غريبة عنهم.

إعلان

ولم يكن الارتباط بالأرض التي قدِم منها المستوطنون هو الماثل في هذه الغابات فقط، بل عملت هذه الأذرع التهويدية على ربط هذه الحدائق مع رواية الاحتلال، على الصعد الروحية والدينية، وعبر تخليد الشخصيات المؤسِسة للكيان، وتلك الداعمة له في تأسيسه، فقد أطلق الصندوق على هذه الغابات الاستيطانية أسماء المستوطنين الأوائل، والمقاتلين، وغيرهم من رموز الكيان، إلى جانب شخصيات أسهمت في دعم الاستيطان، وعلى سبيل المثال تُشكّل الغابات المزروعة في القدس المحتلة لغرض الذكرى والتخليد، ما يعادل ثُلث هذه الغابات، ومن أبرز هذه الغابات "غابة القديسين" أو "الشهداء".

الحدائق التوراتية وابتلاع أراضي القدس

بدأت فكرة الحدائق التوراتية على أثر احتلال الشطر الشرقي من القدس المحتلة منذ سبعينيات القرن الماضي، وتصاعدت بشكل كبير في العقدين الماضيين، مع إقرار سلطات الاحتلال عددًا من المخططات الهيكلية، والتي وصلت إلى سبع حدائق ضخمة.

والحدائق "التوراتية" مصطلح مضلل يهدف منه الاحتلال إلى إسباغ روايته الدينية على الأراضي الفلسطينية في المدينة المحتلة بهدف السيطرة عليها، وما يتبع هذه السيطرة من منع أي وجود فلسطينيّ في محيط الأقصى، وبطبيعة الحال ارتباط هذه المصطلحات بـ"المعبد" المزعوم والعدوان المتصاعد على الأقصى، إذ تتركز هذه الحدائق في محيط المسجد الأقصى، وتلاصق سور القدس التاريخيّ، وفي عددٍ من المواضع تتوسع لتطوق البلدة القديمة والمناطق المحيطة بها، وخاصة في الجهات الجنوبية والشرقية والشمالية.

وتُشير المعطيات إلى تصاعد الاهتمام الحكومي الإسرائيلي بهذه الحدائق منذ عام 2005، فقد أقرت أذرع الاحتلال ميزانياتٍ ضخمة لتطوير هذه الحدائق، وتُشير المعطيات إلى أن هذه الحدائق شملتها ميزانيات متعلقة بتعزيز موقع القدس "وجهة سياحية"، ودعم بلدية الاحتلال في القدس ومشاريع تهويدية أخرى، ولا يقوم على هذه الحدائق جهة بعينها، إذ ينشط على تطويرها عددٌ من أذرع الاحتلال من بينها جمعية إلعاد الاستيطانية، وسلطة الطبيعة والحدائق العامة الإسرائيلية، وبطبيعة الحال تُشارك كلٌ من بلدية الاحتلال في القدس، وشركة تطوير القدس، ما سمح بتعزيز حجم هذه الحدائق، فقد تجاوزت مساحتها 2700 دونم، وتتوزع هذه الحدائق على الشكل الآتي:

إعلان الحديقة التوراتية المحيطة بالبلدة القديمة، ومساحتها 1100 دونم، وهي أكبر هذه الحدائق، تمت المصادقة عليها في عام 1974، وتُعدّ أخطرها، فهي ملاصقة لسور القدس والأقصى، وتستهدف أجزاء من مقبرة الرحمة، إلى جانب ضمها عددًا من الحفريات والمواقع الأثرية، والمخاطر المترتبة على هذه الحديقة بالذات، أن الاحتلال يتعامل معها على أنها امتدادٌ للمساحات غير المسقوفة في الأقصى، وأن البناء الإسلامي لا يتجاوزها، في سياق مخططاته الرامية إلى تهويد المسجد وتقسيمه. الحديقة التوراتية في وادي الصوانة ومساحتها 170 دونمًا. الحديقة التوراتية في السفوح الشمالية الشرقية لجبل المشارف على أراضي بلدة العيسوية/الطور، ومساحتها 730 دونمًا. "حديقة الملك" التوراتية، المقامة على أراضي حي البستان في بلدة سلوان، ومساحتها 50 دونمًا. حديقة جبل الزيتون ومساحتها 470 دونمًا. حديقة "شمعون هتصديق" على أراضي حي الشيخ جراح، ومساحتها 120 دونمًا. حديقة "باب الساهرة" ومساحتها 40 دونمًا.

وإلى جانب "الحدائق التوراتية"، تفتتح بلدية الاحتلال عددًا كبيرًا من الحدائق الاستيطانية، وتصاعد افتتاحها في ظل استمرار العدوان على غزة، ففي 16/2/2024 كشفت مصادر فلسطينية عن توقيع بلدية الاحتلال في وقتٍ سابق اتفاقية مع الصندوق القومي اليهودي، لتحويل أراضٍ من بلدة بيت حنينا وحزما إلى غابة استيطانية بمساحة ألف دونم.

وخلال شهر يوليو/ تموز 2024 افتتحت بلدية الاحتلال 3 حدائق جديدة للمستوطنين، على أراضي المقدسيين، أحدثها في قرية المالحة. ومن قبلها حديقتان على أراضي جبل المكبر وبيت حنينا في مستوطنتي "أرمون هنتسيف" و"راموت". وفي 28/8/2024 افتتحت بلدية الاحتلال حديقة عامة في مستوطنة التلة الفرنسية، على مساحة 63 دونمًا.

ويستمرّ افتتاح الحدائق، وكان آخرها في 14/5/2025، وكانت الحديقة التاسعة التي افتتحتها بلدية الاحتلال منذ 7/10/2023.

إعلان "تزهير الصحراء" والاستيلاء على الأرض وغيرها

في خطاب افتتاحي "للكنيست" عام 1951، طلب رئيس وزراء الاحتلال ديفيد بن غوريون من المستوطنين الاتحاد من أجل "تزهير الصحراء"، وأعلن عن حملة لزراعة آلاف الأشجار "على مساحة 5 ملايين دونم"، وهو ما يعادل حينها نحو ربع مساحة دولة الاحتلال، وأشار بن غوريون إلى واحدٍ من أهداف المشروع يتمثل بأنه "الطريقة الوحيدة لمساعدة اليهود على تنمية علاقة وجدانية قوية مع الأرض".

ورغم من هذا الهدف الحالم، فإن التشجير الكثيف أسهم في تحقيق سيطرة الاحتلال على مساحاتٍ شاسعة من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن أمثلة هذا الطمس ما قامت به "غابات القدس"، والتي غطت عددًا كبيرًا من القرى الفلسطينية على غرار قرى "القبو، علّار، صوبا، عين كارم" وغيرها.

وتُظهر الكثير من الصور التي يلتقطها المشاؤون أطلال منازل الفلسطينيّين بين أشجار الصنوبر، كما في قرية عجّور قضاء القدس المُقام على أراضيها حديقة بريطانيا، وقرية لوبيا قضاء طبريا المُقام على أراضيها حديقة جنوب أفريقيا، إضافةً إلى الكثير من المواضع الأخرى، التي ظهرت على أثر اندلاع حرائق في جبال القدس، من بينها المدرجات الزراعية، التي تمثل جزءًا من هوية هذه البلاد وإرثًا تاريخيًا زراعيًا قيّمًا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • مكتب نتنياهو: إسرائيل وافقت على مقترح ويتكوف.. وحماس تواصل الرفض
  • المتة.. مشروب النجوم الذي يشعل حماس ميسي وسواريز ويغزو ملاعب العالم
  • رئيس عمليات جيش الاحتلال السابق يتهم نتنياهو وسموتريتش بتوريط إسرائيل
  • مسؤول عسكري إسرائيلي سابق يتهم نتنياهو بتوريط إسرائيل في مأزق غزة
  • انهيار حماس.. الكشف عن تفاصيل اجتماع نتنياهو مع مسؤولين إسرائيليين
  • حماس: المقترح الأميركي الذي وافق عليه الاحتلال لا يستجيب لمطالبنا
  • حماس: المقترح الأمريكي الذي وافقت عليه إسرائيل حول الهدنة في غزة لا يستجيب لمطالبنا
  • نتنياهو يعلن قبول إسرائيل مقترح لوقف إطلاق النار في غزة
  • نتنياهو يوافق رسمياً على مبادرة ويتكوف وترامب سيكون الضامن لالتزام إسرائيل ببنوده
  • ماذا نعرف عن مشروع التهويد الأخضر الذي تنفذه إسرائيل؟