أكتوبر في التاريخ العربي المعاصر
تاريخ النشر: 11th, October 2024 GMT
يظل شهر أكتوبر يحمل خصوصية بعينها، وقد تعززت هذه الخصوصية بما أضاف لها الزمن من أحداث، ومن معان جديدة، كلها تصب في الصراع العربي مع المستعمر، ومع الحركة الصهيونية العالمية، ففي عام 1973م حدثت حرب أكتوبر بين العرب والكيان الصهيوني وتم على اثرها عبور فناة السويس وتدمير خط بارليف واتخاذ مراكز دفاعية متقدمة، وكان من نتائجها أن استردت مصر سيادتها الكاملة على سيناء وقناة السويس .
وفي السابع من أكتوبر من عام 2023م يتجدد الصراع بشن هجوم واسع النطاق لفصائل المقاومة الفلسطينية ضد المحتل الغاصب للأرض وما تزال المعركة مستمرة وقد اتسعت دائرتها لتشمل محور الإسناد والمقاومة، وهي معركة وجود لا تنفصل عن معارك الصراع والتحرر من المستعمر والمحتل الغاصب للمقدسات في فلسطين، وقد امتدت يده اليوم كما في الماضي إلى غالب المنطقة العربية في التحكم بمقدراتها وموانئها وطرق التجارة ومنابع الطاقة، فالذي وهب إسرائيل أرض فلسطين هو نفسه اليوم يعود إلى المنطقة بثياب مستعمر جديد .
وفي اليمن حدثت ثورة الرابع عشر من أكتوبر عام 1963م وهي ثورة ضد مستعمر غاشم جثم على الأرض زمنا طويلا، وقد خرج هذا المستعمر ولكنه عاد اليوم تحت غطاء عودة الشرعية واحتل الجزر والموانئ وتحكم في القرار السياسي وأنشأ القواعد العسكرية وعاث في الأرض فسادا .
اليوم يهل أكتوبر وتتعدد مناسباته، وهي تفرض سؤالا عربيا ووطنيا كبيرا، وسؤالا حضاريا وثقافيا بالغ الأهمية، بعد أن تحول المفهوم عن مضمونه الثقافي والاجتماعي والحضاري ليصبح تبريرا لغازٍ جديد يلبس شعار التحرر ويمارس غواية الاستغلال الذي كان يمارسه المستعمر القديم من خلال فرض هيمنته العسكرية والسلطوية على مقدرات العرب ومواردهم الطبيعية ومنافذهم البحرية، ومن خلال جرف الحياة الطبيعية في سقطرى وزرع القواعد العسكرية، ومن خلال استغلال حالة الفوضى في اليمن لإقامة مشاريع حيوية في الموانئ كما يحصل ذلك في المهرة .
لقد تحدثت التقارير الدولية عن ممارسات غير إنسانية، ومصادرة للحقوق والحريات، وتنكيل في سجون مستحدثة بذات السيناريوهات التي كانت تحدث في سجن “أبو غريب ” في العراق وكأن المؤلف والمخرج هو نفسه، وهو في الحقيقة نفس المخرج كما تدل مذكرات هيلاري كلينتون لكن الذين يستغرقون أنفسهم في خضم التفاعلات لا يدركون أو أنهم يدركون ولكنهم آثروا استغلال المرحلة لتحقيق أمجاد سياسية أو مالية بالمعنى القريب “انتهازيون ” فاليمن اليوم بكل مبادئها التقدمية والطلائعية والثورية تتحرك بين فكي انتهازي ذكي بدون دين أو قيم أو أخلاق، وبين متدين بدون وعي وفكر يتحرك في فضاء تاريخي تجاوزته المستويات الحضارية المعاصرة .
العالم الذي يرتبط بمصالح في الجغرافيا العربية يتبع سياسة واضحة ويبني استراتيجيات تهدف إلى ضمان مصالحه، والحال الذي عليه العرب اليوم نتيجة منطقية لتلك الاستراتيجيات والسياسات، ويبدو أن العرب من الغباء بالمكان الذي جعل منهم دمى تتلاعب بها تلك المصالح دون ادراك واع بمصالحهم، فالجهل المقدس صناعة استخباراتية عالمية تقبلنا واقعها بدون سؤال، وسرنا في طريقها دون وعي، وأصبح الوعي غائبا من جل تفاعلاتنا اليومية، فنحن نقتل ونرقص على الأشلاء بفرح المغامر الذي لا يغامر، وبنشوة البطل الذي ليس بطلا، لفقدان المعيارية الأخلاقية والثقافية .
اليوم تطرح أحداث أكتوبر سؤالا وجوديا، وتطرح سؤال الاستقلال من جديد، فقد عاد المستعمر مكشرا عن نابه في كل بقعة من البلاد العربية وعاد إلى أرض الجنوب اليمني وأعلن عن نفسه في شوارع ومدن حضرموت، وفي شواطئ المهرة، وفي عدن والجزر اليمنية دون قناع، وقد كان على مدى سنوات العدوان يتخذ من البشت السعودي والإماراتي غطاء يستر من ورائه أهدافه، وبعد كل هذه السنين خرج إلى شوارع المدن في الجنوب كي يكشر عن نابه دون خوف أو حياء .
أحداث أكتوبر اليوم تعلن عن نفسها كسؤال يعيد ترتيب مفردات الحرية، والاستقلال، والسيادة، والوطنية، والعمالة، والخيانة، وحرية القرار، وتحديد المصير، وتضع على الطاولة سؤالها الوجودي الذي يبعث رموزه للواقع حتى يستعيد وعيه بالحظة الزمنية الفارقة في حياة العرب قاطبة واليمن خاصة، ويتعلم من خلال التاريخ ما يجب أن يتعلمه .
لقد أصبحت صنعاء والقوى المناهضة للمشروع الاستعماري والاستكباري في صدارة المشهد وعليها أن تدرك مسؤوليتها التاريخية والحضارية فقد شاءت لها الأقدار أن تضعها في الصدارة وهذا قدرها الذي وضعها الواقع فيه .
فالتموجات التي حدثت خلال السنوات الماضية حاولت أن تعيد الحقيقة إلى مكانها الطبيعي، وأن تقول للناس أن العبودية لن تكون هي الحرية التي يستلذ وجودها الانتهازي، وقالت تفاصيل الأحداث للمستعمر الجديد أن فرض الهيمنة على الشعوب الحرة من الصعوبة بالمكان الذي تعجز عنه الأسلحة المتطورة والحديثة، وأن وعي الشعوب لم يعد بالمستوى الذي يمكن النفاذ من خلاله فقد تجاوز مراحل السذاجة وعدم الفهم إلى مراحل متقدمة بدليل أن كل خبراء علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي فشلوا في تسويق فكرة التحرير التي يضمر المستعمر الجديد تحت شعارها أهدافه منها، وهذا الفشل الذي تحطم على صخرة الحرية الثورية كان نتاج الوعي الثوري الذي أحدثته الثورة كمفهوم عام وهو عند محور المقاومة مفهوم يرتبط بثورة الحسين عليه السلام كأول ثورة ملهمة في التاريخ، ولذلك سيكون المستعمر الجديد عاجزا عن بلوغ أهدافه .
المصدر: الثورة نت
كلمات دلالية: من خلال
إقرأ أيضاً:
من الخلافة إلى الطوائف.. قصّةُ الحمراء وما بقي من المجد
سلطان اليحيائي
كان العرب هناك، في الحمراء، سادة المكان والزمان. لا لمالٍ ورثوه، ولا لسيفٍ شهروه فحسب، بل لأنهم حملوا رسالةً.
يوم كانوا لله خُلفاء، وحين كانت الخلافةُ رباطًا بين الأرض والسماء، بين السُّلطة والمبدأ، بين العمارة والعبادة، سالتْ من أيديهم حضارةٌ تُضيءُ إلى اليوم، حتّى على جُدران الحمراء، التي لم يبق منها إلا الحجرُ والذّكرى.
غرناطةُ، آخرُ المعاقل، لم تكن مجرّد مدينة؛ بل كانت صورةً مُكثّفةً لحضارة الأندلس. عاصمةُ الروح الإسلامية حين ضاعت قُرطُبة، ومسرحُ الوداع حين ضاقت الأرضُ بأهل "لا إله إلا الله".
من قُصورها تنبعثُ آهاتُ الشعراء والعلماء، ومن مساجدها تسري أرواحٌ كانت تحفظُ القرآن والنُّجوم معًا.
لكنْ في النهاية، تمزّقتْ كما يتمزّقُ الثوبُ العتيق، يوم صار المسلمون طوائف.
فلما فقد العربُ بُوصلتهم، وتخلّوا عن خلافةٍ تجمعُهم، أصبح كلُّ ملكٍ منهم جزيرة، وكلُّ دولةٍ خندقًا، وكلُّ جارٍ عدُوًّا.
فهل تظنُّ ما جرى في غرناطة استثناءً؟
بل هو القاعدة.
حين اجتاح التّتارُ بغداد عام 1258م، لم تسقُط المدينةُ من الخارج فقط، بل من الداخل، حين تكالب الخونةُ وسهّلوا لهولاكو دخولها، حتى قتل آخر خُلفاء العباسيّين، وسالت الدماءُ أنهارًا بين دجلة والفُرات.
لم تكن الهزيمةُ من التتار وحدهم، بل من نُفوسٍ نخرها الخُذلان.
ثم تكرّرت الحكايةُ ذاتُها في الأندلس، واختُتمت عام 1492م، عندما سلّم أبو عبد الله الصغيرُ غرناطة للممالك المسيحيّة، باكيًا لا نادمًا.
ولو أنّ بكاءهُ ردّ أرضًا، أو أرجع عزّة، لكان الدّمعُ جيشًا.
أمّا في العصر الحديث، فلا يزالُ المركبُ ذاتهُ يُبحر بثُقوبه نفسها، وكلّما حاول أن يطفو، أثقلهُ من على ظهره من باعوا الأرض والكرامة.
ملكٌ من العرب عام 1916، تحالف مع البريطانيين ضدّ الدولة العثمانيّة، فكان خنجرًا في خاصرة الأُمّة، إذ مهّدت "الثورةُ العربيّةُ الكُبرى" لتقسيم سايكس-بيكو، وانتهت الخلافةُ الإسلاميّةُ إلى غير رجعة.
صدّق وعود الإنجليز، فإذا بها سراب، ومن وعدهم بفلسطين وعدًا باطلًا لا يزال يُدفعُ ثمنُهُ حتّى اليوم.
واليوم، تتكرّرُ أدواتُ النخر في الأُمّة ذاتها على أرض الواقع المرير.
يتسابقُ بعضُ العرب إلى نيْل الرّضا الأمريكيّ ولو على حساب كرامتهم، وتحت أقدام الصهاينة يُفرشون الأرض حريرًا، لا لأجل سلامٍ عادل، بل لمجرّد صورةٍ أو تغريدةٍ أو صفقةٍ لا تُنبتُ إلا ذُلًّا.
يتسابقون في التّطبيع دون مقابل، في وقتٍ تُسفكُ فيه دماءُ أحرار غزّة، ويُخنقُ فيها آخرُ شهيقٍ للكرامة العربيّة.
تطبيعٌ لا تُصاحبهُ استعادةُ حقٍّ، بل تطبيعٌ يُكافئُ القاتل ويخذلُ رجال المقاومة.
فيا عربُ، لمن أعددتُّم هذه التّرسانات المليئة بالمعدّات العسكريّة، والتي صُرف عليها آلافُ المليارات؟
لمن هذه الطائراتُ الحديثةُ، والمُدرّعاتُ، والصّواريخُ؟
أما آن لهذا الحديد أن يعرف عدوّه؟
أما آن لهذه الأسلحة أن تُشهر في وجه من يغزو أوطاننا، ويقتلُ أطفالنا، ويهدمُ بيوتنا؟
أمْ أنّها مجرّدُ خُردةٍ للمناورات والعُروض، تُكدّسُ لتُنسى أو لتُوجّه خطأً، إلّا نحو العدوّ الحقيقي؟
وهل لكم عدوٌّ أوضحُ من الذي نراه بأعيننا في فلسطين، يُقتلُ إخوتُنا، ويُدنّسُ مقدّساتُنا؟
ما الفرقُ بين من سلّم غرناطة، ومن سلّم القدس إعلاميًّا وسياسيًّا؟
ما الفرقُ بين من باع مفاتيح الحمراء، ومن سلّم مفاتيح العواصم من الخليج إلى الأطلسي؟
كلّهم اشتركوا في ذات الخطيئة: تحطيمُ الوحدة، والارتماءُ في حضن العدو.
اليوم، كما بالأمس، تقفُ الأُمّةُ على مفترق التاريخ، تقرأُ النّقش ذاته:
"ولا غالب إلّا الله".
لكنْ، متى نقرؤهُ بعين الفعل، لا بحبر الزخرفة؟
إنّه ليس نقشًا جميلًا على الجُدران، بل صرخةُ أُمّةٍ من تحت الرّكام:
عودوا لله… تكونوا لله خُلفاء.
وإلّا، فأنتم في الأرض طوائف، تطردُكم السُّننُ كما طردتْ من قبلكم.