تحرير العقل من الإرث المألوف ومعاداة المجهول!
تاريخ النشر: 16th, October 2024 GMT
قالوا قديما: الإنسان عدو ما يجهل وأسير ما يألف.. عقبة كؤود في طريق العقل، تحرمه التفكير العلمي والبحث المنهجي والتقدم الحضاري، تمنعه الراحة والسعادة في الحياة بل تجعله مرتبكا في تصوره لآخرته.
وقد عُرف عن بعض أهل العلم أصحاب الشأن والمكانة قناعتهم بأفكارهم العقلية وآرائهم الفقهية، لكن منعهم من الإفصاح والجهر عدم جاهزية المناخ العام، حفاظا على سمعتهم العلمية ومكانتهم الشرعية والاجتماعية، وتأوّلوا حتى لا يُفتن العوام بأفكارهم وفتواهم ولا يُشق صف العلماء بجرأتهم، وقد نُقل هذا عن كبار العلماء أمثال الشيخ شلتوت وأبي زهرة وغيرهما.
طرح الجديد وغير المألوف له ثمن، من الضغوط والاتهام وربما التشويه والتشكيك والكلام، ثمنٌ دفعه الأنبياء والدعاة والمصلحون، دفعه إبراهيم عليه السلام وقالوا: حرّقوه، ودفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: جاء بدين جديد فكذبوه، وهو الصادق الأمين.
طرح الجديد وغير المألوف له ثمن، من الضغوط والاتهام وربما التشويه والتشكيك والكلام، ثمنٌ دفعه الأنبياء والدعاة والمصلحون
حتى في مجال العلوم كُذب العلماء هنا وهناك واتُهموا بالهرطقة، هكذا الحال مع كل جديد هنا وهناك. فبعضهم يتخوف من طرح الجديد وغير المألوف في تقدير المواقف وحل الأزمات لعدة اعتبارات:
- منهم من لا يملك جديدا لذا يقاومه لأن الإنسان عدو ما يجهل.
- ومنهم من يملك الجديد، لكن تعطله الحسابات والمصالح والاتهام الجارح.
- ومنهم من يملك الجديد، لكنه يخشى تحمل المسؤولية التاريخية حتى لا يقال عنه: فعل كذا يوم كذا.
- ومنهم من يملك الجديد، لكنه يتأوّل مخافة التداعيات وتعقيد المواقف والحسابات.
كل هؤلاء لا يراهَن عليهم في التطوير والتجديد والتقدم، لكن يراهن عليهم في إبقاء الوضع على ما هو عليه حتى يأتي من يتحمل المسؤوليات ويتجاوز التخوفات، لذا يطلق عليهم سياسيا بالمحافظين أو الحرس القديم، وهو وصف ليس فيه اتهام، لكن فيه دلاله على عدم التغيير ومخافة الإقدام.
أما المجددون فكتبوا أسماءهم بحروف من نور في لوحة المصلحين، لوحة بها قائمة طويلة ممن تحرروا من الإرث المألوف ومعاداة المجهول، منهم الصديق أبو بكر وعمر الفاروق وخالد سيف الله وغيرهم كثير.. ومنهم حسن البنا وسيد قطب ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي ومحمد عمارة رضي الله عنهم أجمعين.
فيا عزيزي المؤمن انظر لنفسك في أي اللوحات وأي القوائم تحب أن تكون وفقك الله.
ثم إن الرأي مهما بلغ نضجه ورشده وحكمته هو رأي شخص يحتمل الصواب والخطأ، وليس سنة كونية ثابتة وغالبة. مثلا الآراء متنوعة في الشعوب والحكام والعلاقة بينهما، رأي في صفات الشعوب وأفهامهم وسلوكهم وخضوعهم أو مقاومتهم وشجاعتهم أو جبنهم، في كرمهم أو بخلهم، ورأي في حال الحكام مع الشعوب خاصة حالات الاستبداد والفساد والقمع.
وتأتي الأحداث والحوادث لتثبت أن كل الآراء في الشعوب لم تنضج بعد، والشعوب هي دائما الأنضج والأرشد، لكن بطريقتها هي، وليست بالطرق التي تكتب عنها.
زالت الأحداث الشواغل تصنع بقصد لصرف المصلحين عن جادة الطريق، وما زال المصلحون يوقنون بأنها علامات صحة الطريق، فاطمأنوا من حيث أريد لهم التشكيك، وتبينوا من حيث أريد لهم الجهالة والتعتيم، واستمروا حين أريد لهم التعطيل
لكن يبقى أن ندرك أن من فوائد الأحداث الجسام والأحداث العظام أنها تأتي لتختبر الأفكار والقيم والسلوك، نظل نتكلم ونطرح، ثم تأتي الأحداث لتقيس الفجوة بين القيم والإجراءات والأقوال والأفعال والاستيعاب والصدمات؛ لذا كانت الحكمة النبوية "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"، والقاعدة القرآنية "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" (آل عمران: 173).
هناك أزمات لا حيلة لنا أمامها، لا نملك أسباب الحل أو المنع أو الإنقاذ، لكننا نملك، توضيح الرؤى وتصحيح المفاهيم ودعم النفوس والعقول حتى تستوعب أنت وغيرك ما يحدث، ومعها تتجرد من حولك وقوتك إلى حول الله وقوته.
دورات حياة الأجيال؛ في الدعوة والدولة، في المصلحين والفاسدين، في الأنبياء والمشركين، المهم فهم واستيعاب ما يحدث، وبذل ما في الوسع للإصلاح والتغيير ونصرة المظلوم ومكافحة الظالم، قدر الطاقة.
وللعلم، ما زالت الأحداث الشواغل تصنع بقصد لصرف المصلحين عن جادة الطريق، وما زال المصلحون يوقنون بأنها علامات صحة الطريق، فاطمأنوا من حيث أريد لهم التشكيك، وتبينوا من حيث أريد لهم الجهالة والتعتيم، واستمروا حين أريد لهم التعطيل.
في الأحداث الجسام والخطوب العظام، نستدعي سيرة الأنبياء والمرسلين والأنصار والصحب الكريم، ونردد بثقة ويقين: "وَلَمَّا رَأى الْمُؤمِنُونَ الْأحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚوَمَا زَادَهُمْ إلَّا إيمَانا وَتَسْلِيما".
هنا يكون الميزان هو اليقين والإيمان قد ينفرج الكرب أو يطول، فما علينا إلا السير على أمل الوصول، منا من يصل ويشاهد، ومنا من يرحل وهو يجاهد.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه العقل الأزمات الإصلاح أزمات تجديد العقل سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
شمولية عقل السياسة الطفولية
السياسة السودانية تعاني من ثبات طفولة السياسيين والمثقفين السياسيين معا لانهم يشخصنون. وبالشخصنة أعني أن التقييم يتم للفاعل السياسي وليس للفعل المعين. وهذا مرض قاتل.
يصنف السياسي السوداني – ومعه المثقف التابع – الفاعلين ويقسمهم إلي فئتين أحدهما ملائكة لا تخطئ وأخري من أبالسة. فهؤلاء مدنيون رائعون دائما وأولئك كيزان ضالين علي طول وهناك ماركسيون دائما متكلسون. وبناء علي تصنيف الشخص، يتم إصدار أحكام مسبقة بصواب أو خطأ كل ما صدر منه وما يصدر في المستقبل. وهذه عقلية طفولية بإمتياز.
في النقيض العقل الناضج لا يعرف الحق بالرجال ولا بالنساء، بل يعرف معدن الناس بقربهم وبعدهم عن الحق. العقل الناضج يحدد صحة الفعل من عدمه ويقبل ويرفض علي هذا الأساس. أما عقل الطفولة فانه يدين برنامج صندوق الدولي لو طبقه كيزان ويحرض علي مقاومته حتي يسقط مئات الشهداء ثم يزغرد لجرعة أكثر شراسة من نفس البرنامج لو طبقته حكومته الإنتقالية. عقل الطفولة يختار الإنحياز للغزاة وميليشيات العنف الجنسي أو الحياد تجاههما لمجرد أن كوز أو أنصار سنة رفضهما. هذا عقل يدوس علي مبادئ الوطنية لو ظن أن من صنفه سابقا كشيطان يقف الموقف الوطني. أما العقل السليم، فيقيم الفعل أو الظاهرة ويختار الموقف السليم فكريا وأخلاقيا ولا يهمه أين يقف ملاك أو شيطان آخر. لذلك فان أبلد عبارة تقال حين ينتاشك أحدهم بقوله “كلامك ده بيفيد الكيزان أو الشيطان”.
عقل الطفولة لو أبلس ترمب كان سيعارض توجهه لإنهاء الحرب الأكرانية التي تهدد البشرية بالفناء النووي. وسيعارض سعيه لإتفاق مع إيران يتجنب حرب لا تبقي ولا تزر معها. وكان سيعارض تهدئته للتوتر النووي مع كوريا الشمالية. وكان سيعارض إدانته للتدخل العسكري الأمريكي والغربي ألفظ في شئون الدول الأخري ومحاولة الإملاء الثقافي والسياسي علي شعوبها.
بينما العقل الناضج يقيم الفعل لا الشخص. وقد يرحب بمحاولة ترمب إطفاء حرب هنا أو هناك ويرحب بشجبه للهيمنة الغربية باسم الحقوق الليبرالية. ولكن نفس العقل الناضج قد يرفض ويدين سياسات ترمب في ملفات أخري مثل معاملة المهاجرين والتنمر علي دول أخري وإشعال الحروب التجارية أو تقويض مؤسسات الحوكمة الديمقراطية أو تهديد النظام الدولي متعدد الأطراف وفي غير ذلك من الملفات.
عقل الطفولة شمولي، عنده أن الشخص أو الجهة إما ملاك شامل أو شيطان شامل. وهذا ضعف فكري مخجل لا يليق بمن درس في روضة،
من المخجل أن تضطر لان تشرح لإنسان جاوز التاسعة من العمر أن هناك أشياء تظل صحيحة حتي لو تبناها أخوان وتظل سليمة حتي لو دعا لها ترمب.
معتصم اقرع
إنضم لقناة النيلين على واتساب