ثورة الكف الأخضر باكورة انطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 19th, October 2024 GMT
الكتاب: ثورة الكف الأخضر1929م
الكاتب: عبد الحميد محمود أبو النصر
الناشر: بيت المقدس للدراسات والبحوث الفلسطينية،
مثل ظهور الكف الأخضر ما بين عامي 1929 ـ 1931م، باكورة انطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية لمجابهة الاحتلالين البريطاني والصهيوني، في مرحلة من أزهى مراحل النضال الفلسطيني، عبر فيها الكف الأخضر عن انطلاقة المقاومة المسلحة في وجه المخططات التي تحاك ضد الشعب الفلسطيني؛ لسلبه أرضه وتشريده في أصقاع العالم.
تكمن أهمية هذه الدراسة أنها جاءت كدراسة مستقلة عن حالة نضالية فريدة، لم تأخذ حقها في التدوين التاريخي، والتحليل السياسي، فكل ما كتب عنها لا يتجاوز السطور، رفض أبو النصر القفز عنها، فأفرد لها هذه الدراسة نظراً لأهمية مقاومة الكف الأخضر، التي كانت مقدمة للثورات الفلسطينية المسلحة اللاحقة عام 1933، وثورة القسام 1935، حتى الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م، الرافضة للنهج السلمي، فالكف الأخضر أيقن منذ وقت مبكر أن النضال السلمي مع حكومة الانتداب البريطاني ضد المشروع الصهيوني لم يكن ناجع مع التصميم البريطاني على زرع المشروع الاستيطان في فلسطين، فالسبيل الوحيد لمقارعته المقاومة الشعبية، والمسلحة.
يقول الكاتب عن هدف دراسته: إنه أراد" إبراز الجوانب الغامضة للعصابة من عمليات، وهجمات أثرت بشكل كبير على الوجود البريطاني اليهودي في فلسطين، وإبراز النتائج التي حققها وجود الكف الأخضر في حركة المقاومة الفلسطينية، والدور البارز الذي لعبه القائد أحمد خليل طافش في تعزيز هذا الوجود ليفتح الباب أمام الحركة الوطنية للعمل المسلح ضد الاستبداد والاستعمار" ص13
ويضيف أبو النصر" المؤرخون لم يستطيعوا القفز عن هذه الفترة رغم قصرها، وغموضها في ظل شح المعلومات؛ بسبب عدم وجود أنداك من يوثق نشاطاتها، وقد يكون ذلك بسبب سريتها وتنفيذ ضربات قوية ضد القوات البريطانية واليهود".
تعززت قوة التنظيم مع انضمام عدد من الثوار السوريين الدروز، الذين حاربوا المستعمر الفرنسي أثناء ثورة 1925 ـ 1927م، وأصبحوا العمود الفقري للكف الأخضر، التي وصل عدد أعضائها 80 مقاتل، وعلى الرغم من أن كتب التاريخ أغفلت تدوين نضال جهاد هذه الحركة؛ إلا أن أرنولد توينبي ذكرها ضمن مقالة له نشرت عام 1930م، مشيرا انها تلاشت بسرعة بفعل قوات الانتداب الفرنسي التي قضت عليها.ضمت الدراسة تمهيدا، وأربعة فصول، فخاتمة، شمل الفصل الأول منها: نشأة الكف الأخضر، وتضمن الأسباب التي دعت لنشأة عصابة الكف الأخضر، ثورة البراق، بداية الاضطرابات في المدن الفلسطينية، هبة صفد لنصر القائد أحمد طافش، تأسيس عصابة الكف الأخضر، ومؤسسيها، وبرنامجها النضالي والعسكري.
أما الفصل الثاني، تضمن أنشطة وفعاليات الكف الأخضر، فشمل النشاط السياسي، والعسكري، في حين تطرق الكاتب في الفصل الثالث لعلاقات الكف الأخضر الداخلية والخارجية، وعلاقاته بأهالي المدن، والقرى الفلسطينية التي برز نشاطه الثوري فيها، كذلك علاقاته بالحركات والأحزاب السياسة الأخرى كثورة القسام، والثورة الفلسطينية الكبرى، بالإضافة لعلاقاته الخارجية.
كما خصص الكاتب الفصل الرابع لنهاية الكف الأخضر، وحالة الضعف التي مني بها الكف، وتلاشي عمله العسكري، ووضع خاتمة لدراسته شملت أهم النتائج التي توصل إليها الكاتب.
سبقت مرحلة النضال الثوري حالة من السكون في الحياة الاجتماعية والسياسية، تجسدت في تراجع القوة العربية والفلسطينية خاصة مع استفحال المخططات الصهيوني، والقوة الاستعمارية البريطانية بجلب المزيد من يهود أوروبا، للإسراع من إقامة الوطن القومي اليهودي، قبيل أي نهضة ثورية، لذلك تكثفت المؤتمرات الصهيونية، وحملات الدعاية وجمع التبرعات لإغاثة المستوطنات الصهيونية في ظل الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم خلال السنوات 1925 ـ 1929م.
انطلقت ثورة الكف الأخضر من وسط معاناة الفلاحين، تلك الطبقة التي تعرضت لاضطهاد فج من حكومة الانتداب البريطاني بعد ثورة البراق عام 1929م، ورفض الكاتب تسميتها بعصابة الكف الأخضر " فكلمة عصابة تطلق عادة على جماعات معادية تقوم بعمل مسلح لتوقع اصابات بالغة في صفوف العامة، وقد يشبهوا باللصوص وقطاعي الطرق... فهم فدائيين يدافعون عن أرضهم وشعبهم"، يضيف الكاتب قد نتفق مع هذا المسمى بشكل عمل العصابة كعصبة أي جماعة غير منظمة تقوم بعمليات نوعية متفرقة، تكون على شكل غارات مباغتة للعدو، وتتبع سياسة الكر والفر الحروب مما يحقق ضربات مباشرة مع العدو، ذلك ما قام به الكف الأخضر طوال مرحلته النضالية ص33.
تشكل الكف الأخضر في مدينة صفد بدايتها، بقيادة المناضل الدرزي أحمد طافش، بعد أن وصل طافش لقناعة أن بريطانيا صاحبة الدور الأكبر عبر توسيع نفوذ اليهود في فلسطين، واعطاءهم امتيازات على حساب الشعب الفلسطيني، وان مجابهتهم لا تقوى إلا بالسلاح، الخيار الاستراتيجي البديل عن العمل السياسي، وتحقيق ضربات موجعة لدى البريطانيين واليهود تجعلهم يتراجعون عن سياستهم تجاه فلسطين؛ لذلك قام التنظيم بتنفيذ هجمات مسلحة عديدة ضد الجيش والبوليس، وكانت له مشاركة مفصلية في ثورة البراق، قيل أنها تشكلت بعد ثلاثة أشهر من ثورة البراق، وأعلنت عن انطلاقتها بالهجوم على الحي اليهودي في صفد بالتعاون مع أنصاره بداخل المدينة.
تولدت لدى القيادة الوطنية الفلسطينية صدمة من الموقف البريطاني، الذي غرر بالعرب وأهموهم بأنهم جاؤوا لتخليص الوطن من الحكم العثماني، كأنهم مبعوثو العناية الإلهية، لإنقاذ الشعب والوطن مما يحاك ضدهم، إلا أنه تم تسليمهم لقمة سائغة لكبار الملاك المحليين، أربعة قرون من الزمان لم تكن الزعامة العربية تدرك أنها من الشعب لا وسيط بين الشعب وحاكميه، يعملان معاً لجلده وتجويعه؛ تضهد الأول وتستغله، وتنافق الثاني وتحتمي به.
لخص أبو النصر برنامج الكف الأخضر:
ـ الكفاح المسلح وسيلة لإنهاء الوجود البريطاني، والنفوذ اليهودي في فلسطين، ووقف أطماعهم خاصة بعد أن ثبت فشل العمل السياسي في تحقيق أهدافه.
ـ وقف اضطهاد الفلسطينيين خاصة المزارعين والعمال، والحفاظ على ممتلكاتهم، وأراضيهم من الأطماع التوسيعية الصهيونية.
ـ وقف الاعتداءات اليهودية على العرب، وتوسيع المستعمرات الصهيونية على حساب القرى، والمدن الفلسطينية.
ـ تحقيق توازن القوى بخوض حرب العصابات ضد اليهود البريطانيين في ظل عدم وجود قوة عربية رادعة لهم، قادرة على حمل السلاح.
خاض طافش عدة معارك في صفد وعكا بشكل ارتجالي غير منظم قبل تشكيل تنظيمه، فقد دعا الثوار للانضمام لعصابته، فانضم له 27 شخصا من المشاركين الأساسيين في ثورة البراق 1929م؛ لينموا عملهم السياسي، ويتكامل مع النضال العسكري الميداني في مقاومة الاحتلالين البريطاني والصهيوني، ولم يكن معظم أعضاء التنظيم من الدروز؛ إلا أن تركيز نشاط طافش على مناطق الجليل، الذي تقطنه الطائف الدرزية قد جعل حركته تتصف بالطابع الدرزي، فالجليل أيضاً بشقيه الغربي والأعلى يتصف بسهولة الإمدادات، والترابط العائلي الذي ساهم في تقوية نفوذ الكف الأخضر في الجليل.
تعززت قوة التنظيم مع انضمام عدد من الثوار السوريين الدروز، الذين حاربوا المستعمر الفرنسي أثناء ثورة 1925 ـ 1927م، وأصبحوا العمود الفقري للكف الأخضر، التي وصل عدد أعضائها 80 مقاتل، وعلى الرغم من أن كتب التاريخ أغفلت تدوين نضال جهاد هذه الحركة؛ إلا أن أرنولد توينبي ذكرها ضمن مقالة له نشرت عام 1930م، مشيرا انها تلاشت بسرعة بفعل قوات الانتداب الفرنسي التي قضت عليها.
بسبب طبيعة نشأة الكف الأخضر، ونشاطها العسكري لم تكن هناك علاقة وطيدة مع الأحزاب السياسية الفلسطينية، كاللجنة العربية العليا، حزب الدفاع، حزب الاستقلال، والحزب العربي الفلسطيني، فجميع لم تذكر أي علاقة أو اتصال بينها وبين الكف الأخضر، فلم يرد في مذكرات رؤساء وقيادات تلك الأحزاب، أو الكتاب الذين عاصروا تلك الفترة، وجود أي ممثل للكف الأخضر ضمن الاطار السياسي الفلسطيني، أو ضمن الوفود السياسية للأحزاب الفلسطينية، يقول الكاتب هنا:" حتى بغيابهم السياسي- الكف الأخضر-، قد ساهموا وأثروا بشكل كبير في الوضع السياسي والعمل السياسي الفلسطيني، وشكلوا ورقة ضغط على البريطانيين لتغيير نهجهم وسياستهم بطرح من الأحزاب الفلسطينية، وتكثيف المطالب الفلسطينية بالحد من النفوذ اليهودي في فلسطين" ص48
بدأ العمل العسكري المكثف للكف الأخضر في تشرين الثاني عام 1929م، بتنفيذ الهجوم الأول على الحي اليهودي في صفد بالتعاون مع أنصارها داخل المدينة، وبعد تعزز قوة العصابة، وشنت هجوم أخر على صفد في منتصف تشرين الثاني من نفس العام؛ مما دفع الإدارة البريطانية ارسال تعزيزات من البوليس البريطاني إلى المنطقة، ونصب التنظيم الكمائن في عكا لدوريات البوليس البريطاني، وقاموا بعمليات نوعية مباغتة أحدثت أضرار بليغة في البريطانيين، والمستوطنات الصهيونية" برهنت العصابة على قدرتها في الحركة والمناورة، وهي من أهم صفاتها لأنها تعمل في مناطق يكثر فيها القرويون، الذين يعطفون ويأزرون أعضاءها، ويمدوهم بالتموين اللازم والعتاد والأمتعة، بيد أن افتقار التنسيق والتعاون مع القيادات الفلسطينية السياسية جعل إمكانيات اتساع رقعة المقاومة المسلحة، وامتدادها إلى مناطق أخرى ولا سيما نابلس أمر صعب" ص49
كما قاد أحمد طافش عدة عمليات خارج صفد، واتخذ من التلال المحاذية للحدود السورية- الفلسطينية، مصدر تهريب السلاح من ثوار سوريا وشيوخها، الذي جمعوا التبرعات والسلاح من أهالي الحارات بطريقة سرية، إلى ان تمكنت السلطات البريطانية السيطرة على عدة شحنات السلاح كانت تهرب عبر سوريا، وحاولت قوات الاحتلال الفرنسية منع وصول الثوار السوريين المتطوعين إلى فلسطين.
رغم قصر الفترة الزمنية لنشاط الكف الأخضر إلا أن صداها وصل سوريا والأردن، ولكن عدم التنسيق بينها وبين الأحزاب، والحركات السياسية الفلسطينية، أسهم في ضعفها واندثارها، خاصة مع التحالف الإنجليزي، والفرنسي، والصهيوني لمحاصرة رجالاتها وتقويض عملها الثوري.اتسمت علاقات الكف الأخضر الداخلية والخارجية بالمتانة والقوة والسرية في اطار عمل وطني موحد بين أعضائها؛ لأنهم اجتمعوا على أفكار وأهداف واحدة سعوا إلى تحقيقها، جمعهم حب الوطن والدفاع عن الأرض، فكانت علاقاتهم الداخلية أخوية بالدرجة الأولى فهم رفقاء درب الجهاد والكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية .
عمل أهالي المدن والقرى على تأمين الأماكن الأمنة عند مطاردة القوات البريطانية لهم، فهبوا لنصرة قائد الكف أحمد طافش في صفد، وعكا، والجليل مما دلل على التعاطف الشديد معه وانصاره، إلا أنه لم يثبت ان هناك علاقة وطيدة بين الكف الأخضر والأحزاب السياسية الفلسطينية(ص55).
أرجع الكاتب عدم وجود أي علاقة بين ثورة عز الدين القسام والكف الأخضر رغم تقارب الفترة الزمنية "الاختلاف العقائدي بين جماعة الكف الأخضر بقيادتها الدرزية، رغم وطنتيها وبين القسام ممثلة بالعقيدة السنية والدعوة" في حين الكف الأخضر كان من الطائفة الدرزية"، عمليات الطرفين، مقر عمليات القسام في جنين، أما الكف الأخضر صفد وعكا والجليل، وذلك لم يمنع رجال الكف الأخضر من زيارة حيفا للعمل للاستماع لدروس الشيخ القسام، ومشاركة جمعية الشبان المسلمين في زيارتها لمناطق عمل الكف الأخضر، وقد حافظ بعضهم على العلاقة مع الشيخ القسام بعد تشتت الكف الأخضر، وانضم لتشكيلات حركة عز الدين القسام، مما دفع القسام أيضا لتشكيل جمعية سميت بالكف الأسود، وشاركوا في الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م.
انتهاء عمل الكف الأخضر:
تعرض الكف الأخضر لحصار محكم من القوات البريطانية، بمساعدة الفرنسيين الذين سيروا دوريات مشتركة على الحدود الفلسطينية- السورية، لكن لعدم تنسيق الجهود بين الكف الأخضر والقيادة السياسية الفلسطينية جعل إمكانية اتساع مقاومتها، وامتدادها إلى مناطق أخرى امراً صعب؛ ليتقلص نشاط الكف عام 1930م، إلا أنه أعاد تشكيل نفسه، وتعرض لكثير من عمليات القمع والملاحقة العسكرية، واعتقل قائدها أحمد طافش في شرقي الأردن بعد عمليات حثيثة من التفتيش للقرى، بالتعاون مع القوات الفرنسية، وقوات حدود شرق الأردن عام 1935م، مع نحو 16 مقاتل بعد تسليمه للبريطانيين، وحكم عليه بالإعدام، من ثم جرى تخفيف الحكم بعد الهبة الشعبية الرافضة التي قادها الصحفي أكرم زعتير، ليتم تخفيف الحكم، وقضاء محكومية أطلق بعدها سراحه عام 1946م، وأمضى حياته ما بين حيفا وصفد حتى عام 1948م.
هذه الدراسة النوعية مليئة بالتفاصيل الدقيقة التي قد يجلها الدراس لتاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، استوقفت أبو النصر فألقى الإضاءات عليها، بهذه الدراسة المفصلة، وفي خاتمة دراسته أكد الكاتب:
ـ أن ظهور عصابة الكف الأخضر جاء نتيجة الركود السياسي الذي بلغ مداها في سنوات العشرينيات، ثم أن نشاطه العسكري كان له أثر الكبير على الوجود البريطاني والنفوذ الصهيوني في فلسطين
ـ التخاذل العربي وحالة التشرذم التي كان يعيشها المجتمع الفلسطيني كانت نتيجة حتمية لظهور الكف الأخضر وعمله العسكري.
ـ رغم قصر الفترة الزمنية لنشاط الكف الأخضر إلا أن صداها وصل سوريا والأردن، ولكن عدم التنسيق بينها وبين الأحزاب، والحركات السياسية الفلسطينية، أسهم في ضعفها واندثارها، خاصة مع التحالف الإنجليزي، والفرنسي، والصهيوني لمحاصرة رجالاتها وتقويض عملها الثوري.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب ثورة الفلسطينية الاحتلالين احتلال فلسطين كتاب ثورة عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة السیاسیة الفلسطینیة الوطنیة الفلسطینیة الحرکة الوطنیة هذه الدراسة الیهودی فی أحمد طافش الأخضر فی أبو النصر فی فلسطین فی صفد إلا أن
إقرأ أيضاً:
الكاتب خالد الهنائي لـعمان: شغف الكتابة بدأ باكرا ولم يخرج للجمهور إلا بعد نضج التجربة
قصص قصيرة بثيمة الفقد والحنين لامست مشاعر القارئ فنجحت
صوت مليء بالشجن يخرج من بين أسطر قصة قصيرة حملت عنوان "كوب منثلم"، اختارها الكاتب خالد الهنائي لتكون عنوانا لكتابه الصادر عن الجمعية العمانية للكتاب والأدباء في معرض مسقط الدولي للكتاب في نسخته الـ29، وربما هو الفضول ذاته الذي ينتابني ككل القراء للبحث في عنوان الكتاب وسبر أغوار معانيه، وربما كتاب خالد هو ما كان مثيرا للتساؤل من قبل زوار المعرض بحثا عن انثلام الكوب، ولم أكن وقتها أعي أنه كوب سحري كان يعود سيلما بعد انكساره، بفعل تعويذة منفوثة بابتسامة الأم، فبقى على إثرها الحزن ذو طعم طاغ على الكوب عشرين عاما، ولكنه اليوم تحول إلى كتاب صار الأكثر مبيعا في جناح الجمعية خلال أيام المعرض.
قصة أثيرة
وفي سؤالنا لخالد الهنائي حول العنوان قال: "العنوان في حقيقته هو واحد من النصوص أو القصص الموجودة في الكتاب وتحمل ذات العنوان، والقصة أثيرة جدا إلا أنها خيالية، رغم أن بعض القصص لها شيء من الواقع، حيث تحكي القصة علاقة الأم بأولادها، العلاقة التي ليست مرتبطة بالأبناء وهم أطفال، وإنما علاقة متواصلة بهم حتى وهم كبار، والقصة أثيرة بالنسبة لي كونها تحكي علاقة أم بابنها، وأنا علاقتي بأمي علاقة قوية جدا، وكوني أكبر اخوتي فعلاقتي بأمي أقرب للصداقة".
أما ما يخص القصة فقال عنها الهنائي: "نشرت القصة سابقا في وسائل التواصل الاجتماعي كمادة خام، ولاقت صدى كبير من القراء، وهو ما زاد من قرب هذه القصة من قلبي، وترسخت علاقتي بها أكثر، وعلى فكرة الكتاب كان له عنوان آخر وهو "فيما يشبه الفقد" ولكني بعدها تراجعت عن هذا العنوان، وقررت أن أنتقي هذه القصة لتكون عنوان للكتاب، فهي القصة الأقرب إلى قلبي".
اختار الهنائي أن يضع تعريفا لكتابه واضعا على الغلاف كلمة "قصص"، وكأنه يوجه القراء نحو نوع أدبي واحد، قصص قصيرة وقصيرة جدا، إلا أنه جعل الباب مشرعا أماما مسار الطريق الذي يسلكه القارئ في الداخل، فلم يضع مقدمة يحدد فيها ثيمة أو فكرة معينة، وقد يشعر القارئ وهو يقلب الصفحات، ويتنقل من نص إلى آخر، أن بعضها ليست قصصا، وإنما شكل أدبي سردي، فيه من المعاني ما يتعدى وجود الشخوص والحكبة والنهاية، بل نحو تلذذ وتذوق وشاعرية، وخروج من الواقعية إلى الخيال والعكس، وهو ما يصنع صورة مشوقة بين كل نص وآخر.
شغف بالقراءة والكتابة من الطفولة
وحول ماتشكله القراءة والكتابة لخالد الهنائي يقول: "أنا شغوف بالكتابة من الطفولة، فقد كنت أقرأ كثيرا، وحين كنت طفلا أعيش في مطرح كنت أذهب لمكتبة النجوم للقراءة، وهي مكتبة صغيرة موجودة خلف مستشفى الرحمة، وهذا الشغف ورثته من والدتي، وكذلك موضوع الكتابة بدأ عندي باكرا جدا، أيام دراستي الثانوية، ورعم أنها لم تكن كتابات ناضجة إلا أنها استمرت".
ويعد "كوب منثلم" الإصدار الأول للهنائي، حيث تحدث عن كتاباته بقوله: "لدي كمية نصوص هائلة جدا، حيث كنت أكتب وأترك كنوع من التنفيس فقط، ولعل أكثر ما ركزت عليه في كتابتي هو المشاهد الإنسانية، وهو ما أصادفه كثيرا في حياتي، وربما الجميع تمر به مواقف إنسانية، ولكني كنت أوثقها وأكتبها على شكل نص أدبي، ولم يكن في ذهني أن أنشر ولم أكن مهتما بذلك، إلى أن جاءت أيام كورونا، التي فرضت علينا البقاء في منازلنا لأوقات طويلة، وهنا بدأت أكتب بعض القصص وأنشرها في وسائل التواصل الاجتماعي، وبدأت قصصي تنتشر وتلاقي صدى من قبل القراء، لا سيما أن قصصي تحوي الكثير من المشاعر التي بإمكانها أن تلامس القارئ، والبعض أعجب بطريقة السرد نفسها، لذلك واصلت الكتابة والنشر في وسائل التواصل الاجتماعي، لديّ نصوص شعرية، ونصوص قصصية".
وحول الإقدام على فكرة الإصدار قال الهنائي: "الكثير من الأصدقاء شجعوني لفكرة الإصدار، ورغم أني ترددت في ذلك، فكيف لي أن أقدم كتابا بعد هذا العمر، ولكني قررت فعلا إصدار الكتاب، وجمعت النصوص التي تحمل ثيمة واحدة، وهي ثيمة الفقد والرحيل والغياب والحنين، وهي ما يمكن أن يطلق عليها ثيمة مرتبطة بالمشاعر الإنسانية التي تميل للحزن إلى حد ما، وقررت أن أجرب حظي، وهو ما أدى بي لإيجاد القبول والاجتياز من قبل القائمين على الجمعية، وكذلك الأخوة الكتاب".
لم أندم.. ولكن هل سأتحمل المسؤولية تجاه القارئ؟
ومع شعور التردد الذي كان يخالج الهنائي، كان السؤال ما إذا كانت هذه الخطوة قد تشكل ندما عليه، فأجاب: "مطلقا لست بنادم، ولكنها نعم أعطتني مزيدا من الشعور بالمسؤولية تجاه القراء، وهذا أمر ضروري، بل هو جزء من حياتنا وواجبنا في الحياة تحمل المسؤولية، لا سيما أنني من جيل اعتاد على تحمل المسؤولية وهو صغير، فقضية تحمل المسؤولية ليست جديدة ولكن السؤال الأخطر هو هل لدي ما يكفي من الطاقةإني أتحمل مسؤولية جديدة؟ وهو ما يمكنني تركه للقادم ونرى مقدرتنا على ذلك، والنية أني أشتغل على أعمال أخرى في المستقبل ولكن بتمهل شديد".
وحول تأخر الهنائي في تقديم إصداره للجمهور، قال: " يمكننا القول أن هناك خليط من من الأشياء، فأنا كنت محتاج إني أكون ناضج بما يكفي لتحمل الصدمة فيما إذا كانت الإصدار الأول لا يلاقي القبول، والمسألة الأخرى أيضا والتي أشرت إليها سابقا هي مسألة النضج، نضج التجربة، ونضج الفكرة نفسها، وأنا حقيقة متردد وخجول، واحتجت لفترة طويلة جدا لكسر حاجز الخجل وحاجز التردد، وفي فترة من الفترات حتى الكتابات التي أكتبها لا يطلع عليها أقرب المقربين لي، فمسألة إظهارها ونشرها أخذت مني وقت طويل".
لم يكن خالد الهنائي متوقع لأن يلاقي إصداره "كوب منثلم" هذا الإقبال الجماهيري، بل وحول كونه الأكثر مبيعا قال: "للأمانة أنا كنت متفاجئ جدا، ، وأنا عندي كثير من الأصدقاء في الوسط الثقافي والكتاب، وكنت مستعد لعدم الإقبال كوني عاشرت التجارب مع الكتاب، بمعنى أني كنت متوقع أن تباع 10 أو 15 نسخة فقط، ولكني شخصيا تفاجأت، يا ترى ما هو السر وراء أن الناس جاءت وأقبلت على هذا الكتاب؟ ما هو الموضوع بالضبط؟ خصوصا إنه الإصدار الأول، ولكن ربما في شيء شدهم، وأنا حقيقة لا أعرف ما هو فهل يا ترى لامس مشاعرهم؟".
لا تكونوا قاسين على الكاتب العماني
ولم يقدم الهنائي نصيحة للقارئ حيث يشعر أنه غير مخول ليقوم بنصح القارئ، ولكنه توجه بكلمة للقراء وهي: "لا تكونوا قاسين على الكتّاب، ففي الفترة الأخيرة سمعت بعض الكلمات القاسية موجهة للكاتب العماني، بأنه صارت فوضى في مسألة الكتابة، فالكل أصبح يكتب، ولكني أقول دعوا الجميع يكتبون، وعلى العكس أن أرى أن هذا دليل على أنه هناك نضج ثقافي في البلد من خلال دخول الناس لعالم الكتابة، وهناك إصدارات بدأت تنشط، ومن خلال جولتي في معرض الكتاب، وجدت هناك إصدارات متنوعة، فليس الجميع متجه للأدب أو الروايات، فهناك أيضا الإصدار العلمي، وهذا الشيء يثلج الصدر، وحقيقة نحن وصلنا إننا نكتب إصدار علمي عماني وباللغة العربية، وهذا شيء جميل جدا، أرجو ألا تستعجلوا الحكم على الآخر، ولا تكونوا قاسين على الكاتب العماني ففي النهاية من يكتبون هو إخواننا وأبناءنا، والكاتب العماني محتاج للقارىء العماني حتى يصل إلى القارئ العربي والعالمي".
وأضاف الهنائي: "الكتابة العمانية للأمانة جودتها عالية جدا، أنا أعد نفسي من المتابعين بشدة للكتاب العماني، ومتواجد في معرض مسقط للكتاب سنويا، ويمكنني القول الفترة الأخيرة هناك نضج كتابي في سلطنة عمان، ووصل إلى مرحلة إني أقرأ لكتّاب عمانيين يكتبون في وسائل التواصل الاجتماعي ليس لديهم إصدارات، ويكتبوا كنوع من البوح أو التنفيس، وهي في نظري أجمل من كتب قرأتها حتى في المعارض، وحاليا أنا أقرأ نص غير منشور لأحد الكتاب الشباب، وهو نص رائع ومستمتع جدا بالقراءة، والكاتب هذا شاب صغير في العشرينات، ومندهش أنا لكتابة شاب صغير بهذا السبك الجميل، وبهذه اللغة والخيال، وكأني أقرأ لكاتب عالمي ".