القارئ لأشعار الشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي يلاحظ أنه أبدى إهتماما بكثير من الأدباء و الشعراء العالميين مثل ناظم حكمت التركي و بابلو نيرودا ولويس أراغون شاعر الحزب الشيوعي الفرنسي والبير كامو وغيرهم ولكني
أود أن أسلط الضوء على الأديب و الفيلسوف الفرنسي المشهور ألبير كامو مؤلف رواية الغريب التي طبقت شهرتها الآفاق والحائز على جائزة نوبل في الأدب.

ولعله من نافلة القول أن نشير الى أن ألبير كامو ولد وعاش و أنتج روائعه الأدبية وبزغ نجمه في القرن العشرين. ولد في مدينة موندوفي الجزائرية في العام 1913 لعائلة فقيرة من المستوطنين الفرنسيين في الجزائر وقد نِشأ البير كامو في الجزائر وتلقى تعليمه في المدارس و الجامعة الفرنسية في الجزائر ولكن بعد استقلال الجزائر رجع المستوطنون الفرنسيون الى وطنهم الأم فرنسا و كان من بينهم ألبير كامو ويعتبر أيضاً من الأرجل السود- les pied noire. وهذا هو الاسم الذي اطلقه الفرنسيون على المستوطنين الفرنسيين العائدين من الجزائر و كذلك وصفته سيمون دي بوفوار بصريح العبارة و هي تتحدث عن أول مقابلة بين سارتر وكامو.. لفت ألبير كامو الأنظار بعد كتابة روايته الغريب و دراسته عن أسطورة سيزيف وقد كان البير كامو ناشطاً سياسياً ومناضلاً ضد الأنظمة الشمولية في الشرق و الغرب وقد بدأ حياته السياسية في شبابه الباكر مناضلاً في صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي ضد الاحتلال النازي ثم ما لبث أن انفصل عن الحزب الشيوعي. وكون مذهبه و نهجه الفكري و الايديولوجي الخاص به. وكانت تجمع بين سارتر الفيلسوف الوجودي الكبير و مؤلف كتاب " نقد العقل الديالكتيكي" وبين البير كامو الذي نال لقب فيلسوف العبث علاقة وطيدة ولم لا وسارتر هو القائل عن كامو في خطاب مفتوح: " لشد ما أحببناك حينئذ كدت أن تكون لنا المثال الذي يجب أن يُحتذى لأنك حملت في داخل نفسك صراعات عصرنا كلها يا أعظم ورثة شاتو بريان ( أديب فرنسي) وأشدهم تعقيداً وغنى وأغزرهم موهبة" ولكن هذه العلاقة الحميمة ما لبثت أن تعرضت لهزات عميقة و كادت أن تعصف بها عواصف الحرب الباردة. حينما انتقد البير كامو الاتحاد السوفيتي لغزوه للمجر من منطلقات أخلاقية لأن كامو كان أخلاقياً "يريد أن يدخل لغة الأخلاق في لغة السياسة" كما وصفه أحدهم بينما دافع سارتر عن الاتحاد السوفيتي من منطلقات ايديولوجية يسارية وكان سارتر و رفيقة دربه سيمون دي بوفوار يجمعان بين الوجودية و الماركسية.
القارئ لأشعار البياتي يدرك أن هناك علاقة افتراضية نشأت بين البياتي والبير كامو وهي تدخل في مقابلات الأعلام الافتراضية التي قد يجود بها الزمان وكانت العلاقة القصيرة التي جمعت بين سارتر و البير كامو هي علاقة بين أشخاص حقيقين و هي تندرج أيضاً في اطار او مفهوم مقابلات الأعلام.
يبدو أن الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي بعد أن ترك الحزب الشيوعي العراقي وتحرر بعض الشيء من سطوة القيود التنظيمية انفتح على التراث الفكري العالمي ومن ذلك اهتمامه بالبير كامو وربما يكون الاهتمام المشترك بالميثولوجيا و الأساطير الإغريقية يفسر لنا طبيعة العلاقة الافتراضية بين الرجلين. كان الاهتمام بالميثولوجيا الإغريقية هو القاسم المشترك بين الأديبين أحدهما وظفها شعراً و الآخر وظفها فكراً وفلسفةً. فقد بنى البير كامو مجده الأدبي و الفلسفي على أسطورة سيزيف بينما وظف البياتي الأساطير في شعره و أدبه و تتردد في أعماله الشعرية أصداء الأساطير الإغريقية القديمة متل "أسطورة سارق النار" و أسطورة سيزيف و أسطورة العنقاء الخ كما أن البياتي كتب أشعاراً عن عائشة الرمز الأنثوي الكوني الأسطوري
طفلة انت و أنثى واعدة
ولدت من زبد البحر و من نار الشموس الخالدة
كلما ماتت بعصر بعثت
قامت من الموت و عادت للظهور
أنت عنقاء الحضارات
وأنثى سارق النيران في كل العصور
ويمتاز البياتي بأنه طوع الأساطير اليونانية لتعبر عن المضامين العصرية التي يؤمن بها مثل الثورة و الحب وما اليه ولم ينقلها نقلاً حرفياً بل طوعها كي تتواءم مع قضايا العصر و تعبر عن مفاهيمه و مضامينه المستجدة.
وللتدليل على ذلك نورد فيما يلي ابيات شعرية كتبها البياتي عن أسطورة سيزيف
عبثا نحاول أيها الموتى الفرار
من مخلب الوحش العنيد
من وحشة المنفي البعيد
الصخرة الصماء للوادي يدحرجها العبيد
سيزيف يبعث من جديد من جديد
في صورة المنفي الطريد
إذن طوع البياتي أسطورة سيزيف و نقلها من إطارها الميتافيزيقي عن الصراع بين آلهة الإغريق و الإنسان المتمرد الطموح الى إطار التاريخ و المجتمع الانساني. أي أنه نقلها من الميتافيزيقيا الى التاريخ و يا لها من نقلة جبارة و كأني بالبياتي يقول لنا إن لكل عصر سيزبفه الذي يعبر عن قضاياه.
إهتمام شعراء الحداثة بالأساطير الإغريقية وغيرها لا ينطلق من فراغ لأن الناس و منذ نعومة أظفارهم وهم يستمعون للأحاجي الخرافية التي ترويها لهم الجدات او الوالدات يتشربون حب الأساطير لأن الأحاجي تتضمن تفسيراً أسطورياً لمظاهر الطبيعة و حوادث التاريخ وتحتوي على كيفية فهم العالم فهماً اسطورياً وتوجد بالأحاجي شخصيات تتمتع بالبعد الأسطوري ولذلك أعتقد أن الشغف بالأساطير يعبر عن واقعية و نهج مستمد من البيئة الثقافية والاجتماعية. وكما أسلفنا فإن الأدباء و الشعراء المعاصرين وظفوا الأسطورة في أدبهم وشعرهم لما فيها من النزعة الخيالية التي تتيح فهماً عميقاً وتعبر عن أشواق الانسانية( مثل السيطرة على النار – قهر الموت- قهر المسافة الخ) وتعبر عن خصائص الموقف الانساني في حقبة تاريخية ما و ربما تتضمن نظرة نقدية فاحصة لأحوال البشر. لكل ذلك فإن الأساطير تثري الوجدان الأدبي و الشعري وترفده بمدد لا ينضب من الحكمة والرؤى و الأفكار
نرجع الى موضوع الاحتفاء بألبير كامو الذي فسر أسطورة سيزيف بدوره لتعبر عن فكرته عن عبثية الوجود وعبثية التجربة الانسانية. ظهر هذا الاحتفاء بالبير كامو في أشعار البياتي الذي كتب هذه الكلمات يناجي البير كامو بعد موته ورحيله ولم يتجاوز 46 عام من عمره القصير الحافل بالإنجازات الباهرة في صعيد الفكر و والثقافة
أنت متعب، تعال!
نهيم في حدائق الليال
نطارد الظلال
نرقب فجر العالم الجديد في الجبال
نمسك في شباكنا فراشة المحال
نشرب شاي العصر في وهران، فالأغلال
أدمتك يا سيزيف
يا فارس عصر أدرك الزلزال
تعال، أنت متعب، تعال!
نغلق عين الأسد الجوال
تعال! فالأطفال
ناموا ونام الفارس المتعب في الأسمال
وقد أورد أوليفر جلوج نصاً في كتابه “ألبير كامو: مقدمة قصيرة جدا” بما يفيد أن عبد الوهاب البياتي إمتدح البير كامو بوصفه نصيراً للثورة. وربما قصد البياتي بالثورة التمرد فقد كان كلاهما ( وعلى وجه الخصوص البير كامو مؤلف كتاب الرجل المتمرد) متمردا في نهجه الفكري و الأدبي و السياسي.
وكما أسلفت يشكل الشغف بالميثولوجيا الاغريقية و توظيفها في الأعمال الأدبية و الشعرية و الفلسفية إهتماماً وقاسماً مشتركاً بين ألبير كامو من جهة و عبد الوهاب البياتي و سائر شعراء الحداثة من الجهة الأخرى، وبخلاف ذلك فقد كان البير كامو، وبغض النظر عن توجهاته الفكرية و الفلسفية المثيرة للجدل، رمزاً ثقافياً و أيقونة ثقافية جذبت إهتمام الأوساط الأدبية والاعلامية في العالم أجمع. ولكل هذا فليس من المستغرب أن تجد له صدى في أشعار البياتي و الشعراء الآخرين وفعل البير كامو كما فعلها قبله المتنبئ بأكثر من ألف عام حينما ملأ الدنيا و شغل الناس.
صلاح الدين التهامي المكي
كاتب سوداني ومؤلف كتاب " محنة الكائن الثقافي" باللغة الانجليزية
sameki@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الحزب الشیوعی فی الجزائر کامو فی

إقرأ أيضاً:

شيخ الأزهر للسفير الفرنسي: الحروب المجنونة لا يدفع ثمنها إلا الفقراء والأطفال

استقبل الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، اليومَ الاثنين، بمشيخة الأزهر، السفير إيريك شوفالييه، السفير الفرنسي لدى القاهرة.

في بداية اللقاء، أعرب الإمام الأكبر، عن تقديره لموقف الجمهورية الفرنسية والرئيس إيمانويل ماكرون، المنصف والمتزن تجاه العدوان على غزة، والمطالبة المستمرة بوقف الاعتداءات المتكررة التي تستهدف الأبرياء في القطاع، والمطالبة بتسيير القوافل الإغاثية والإنسانية، والتجهيز لمؤتمر عالمي للمطالبة بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

شيخ الأزهر لـ أنجلينا أيخهورست: ما سرُّ القوة الشيطانية التي تُجهض أي قوى أخرى؟شيخ الأزهر لسفيرة الاتحاد الأوروبي : ما يحدث في غزة إبادة جماعيةهل يجوز لحماتي دخول منزلي دون استئذان ..الأزهر للفتوى يوضحرئيس جامعة الأزهر يزور سنغافورة ويشارك في اللجنة الاستشارية لإنشاء الجامعة الإسلاميةمرصد الأزهر يشارك في منتدى مؤسسة آنا ليند 2025 بألبانياهل رفع الزوجة صوتها على زوجها باستمرار مبرر للطلاق.. الأزهر للفتوى يجيب

وأكد فضيلة الإمام الأكبر أن المشاكل الكبرى المعقدة التي تسبِّبها الحروب المجنونة لا يدفع ثمنها إلا الفقراء والمستضعفون والأطفال والنساء، مشيرًا إلى أن هذه الصراعات تؤثر على علاقة الشرق بالغرب، لما لها من أهداف خبيثة تُدمِّر الحضارات وتُناقِض القيم الإنسانية وتعاليم الأديان، داعيًا إلى ضرورة أن تتحول محاولات إرساء السلام من الإطار النظري إلى حيز التنفيذ  حتى يشعر الأبرياء بها على أرض الواقع.

شيخ الأزهر: الصراعات والحروب التي نشهدها ناتجة عن غطرسة القوة

وشدَّد فضيلته على أن الصراعات والحروب التي نشهدها ناتجة عن غطرسة القوة التي تمارسها بعض القوى العالمية، دون النظر إلى أي خلفية إنسانية، أو مراعاة لأي مشاعر تجاه الأبرياء، مُصرِّحًا فضيلته: "لا يمكن الاعتماد كثيرًا على المحاولات السياسية التي تُبذَل ولا تتجاوز حدود الكلمات، فحينما تسيل الدماء كالأنهار، يصبح الموضوع أعمق من مجرد إظهار مشاعر الحزن والألم"، مضيفا أنه لا يمكن تقديم المصالح على القيم الإنسانية، لأن المصالح إذا انحرفت عن القيم ستنطلق من فلسفة غير أخلاقية.

من جانبه، أعرب السفير الفرنسي عن سعادته بلقاء شيخ الأزهر، وتقدير بلاده لما يَبذُلُه فضيلته من جهود في نشر قيم التعايش والتسامح، مؤكدًا أن فرنسا تسعى لتقديم حل للقضية الفلسطينية، وتؤمن بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، وتبذل جهودًا لوقف إطلاق النار في غزة، وتمكين دخول المساعدات الإنسانية والإغاثية، وإنقاذ الأبرياء داخل القطاع.

طباعة شارك الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الأزهر مشيخة الأزهر السفير الفرنسي الإمام الأكبر العدوان على غزة الدولة الفلسطينية إقامة الدولة الفلسطينية فرنسا

مقالات مشابهة

  • أسطورة الأم المثالية.. لماذا تشعرين بالتقصير المستمر في حق أطفالك؟
  • ليون يهبط إلى دوري الدرجة الثانية الفرنسي
  • مصطفى الفقي: الحرب قضت على أسطورة البرنامج النووي الإيراني.. طهران لم تعد هدفا لأمريكا
  • بول بوجبا يتمم انتقاله لنادي موناكو الفرنسي الخميس المقبل
  • الرئيس الفرنسي يدعو العالم للعودة للدبلوماسية
  • جابر للموفد الفرنسي: مستمرون بالإصلاح رغم التحديات
  • السفير الفرنسي زار المدير العام لمرفأ بيروت
  • الرئيس الفرنسي يؤكد تضامن بلاده مع قطر
  • شيخ الأزهر يستقبل السفير الفرنسي بالقاهرة بمقر المشيخة
  • شيخ الأزهر للسفير الفرنسي: الحروب المجنونة لا يدفع ثمنها إلا الفقراء والأطفال