لقد أشاع إعلامنا وساساتنا موجة هائلة من الترحيب والاحتفاء بمقدم الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، وقد راح الإعلام العربي يبشر بمقدم (السوبر مان) القادر على حل كل مشاكل العالم بما فيها القضية الفلسطينية، ولم نكلف أنفسنا إلى العودة لتجربة ترامب خلال الفترة التي حكم فيها الولايات المتحدة الأمريكية (٢٠١٦-٢٠٢٠) ، فهو الرئيس الأمريكي الذي قرر نقل سفارة بلاده إلى القدس العربية، وهو الرئيس الذي زار إسرائيل ووقف أمام ما أسماه الإسرائيليون بحائط المبكى، وقد راح يمارس الطقوس الدينية اليهودية، وهو الرئيس الذي أعلن بكل بجاحة أن جغرافية إسرائيل تستحق أن تتوسع، جميعها رسائل توشي بأن ترامب يضع في مقدمة اهتماماته خلال الفترة القادمة أمن إسرائيل ومستقبلها، وقد لاحظنا تلك الزيارات المكوكية للساسة الإسرائيليين إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال الأسبوعين الماضيين، وخصوصا وقد شاهدنا استقبال الرئيس الأمريكي بايدن لرئيس دولة إسرائيل (إسحاق هرتسوج)، والشعور بالامتنان للرئيس بايدن، وتصريحات الرئيس الإسرائيلي الذي أعلن صراحة بأن الولايات المتحدة الأمريكية في عهد بايدن قد وقفت في وجه المناهضين للسامية.
لقد دعمت أمريكا إسرائيل طوال عام كامل بأحدث الأسلحة الفتاكة التي أحالت غزة إلى كومة من الأنقاض، استشهد على أثرها مئات الآلاف من الفلسطينيين الأبرياء ولم يجد بايدن حرجا من التصريح بأنه لا ينبغي أن تكون يهويا لكي تكون صهيونيا! طوال عام كامل من الدعم الأمريكي عسكريا وسياسيا وماليا لدرجة أن أمريكا لم تقدم طوال تاريخها دعما لأية دولة بقدر ما قدمت لإسرائيل خلال العام الماضي، وأعتقد أن هذا الدعم سيستمر وربما يزداد في ظل حكم الرئيس ترامب، فالمستقبل القريب ينبئ بسياسات أمريكية جديدة لاستكمال مشروع ترامب في المنطقة (الشرق الأوسط الجديد)، الذي لا نعرف ملامحه وإن كنا نعتقد أنه مشروع قائم على فكرة تتجاوز الجغرافيا، باقتطاع أراض واختراق حدود لا مكان فيها للدولة الفلسطينية التي يطالب بها العرب، وهو ما يُنذر بأن مستقبل الفلسطينيين قد أصبح على حافة الهاوية، ليس هذا فقط بل قد تكون الدول العربية المجاورة لإسرائيل جزءا من مشروع ترامب.
رغم كل هذا الخطر الذي يُنذر بمستقبل بائس لأوطاننا إلا أن ساستنا وحكامنا قد راحوا يجتمعون ويصدرون البيانات. التصريحات الخالية من أي محتوى، مجرد تصريحات اعتدنا عليها واعتاد عليها الإسرائيليون، الجديد هذه المرة أن القضية المحورية التي اعتبرناها قضيتنا المركزية لم تعد في أولويات سياستنا، بل أصبحت عبئا ثقيلا يود الجميع لو تم التخلص منه بأي ثمن، حتى ولو كان الثمن هو حق الفلسطينيين في العودة إلى بيوتهم وإقامة دولتهم في ظل حياة كريمة وإقامة دولة فلسطينية مجاورة لإسرائيل، وهو حلم لا نعرف ملامحه ولا تركيبته السكانية ولا أي مظهر من مظاهر استقلال الدولة الجديدة، وهو الحلم الذي يراود الساسة العرب، رغم أن ساسة أمريكا وإسرائيل لم يصرحوا ولو لمرة واحدة بعزمهم على قيام هذه الدولة البائسة التي يحلم بها الفلسطينيون.
انتشرت في الفضاءات العربية الترويج لمشروع الدولة الفلسطينية على حدود الخامس من يونيو ١٩٦٧، لم يصاحب ذلك الحديث عن أية آلية لتنفيذ هذا الحلم، بما في ذلك المؤسسات العربية التي بشّرت بقيام هذه الدولة الوليدة، لكن السؤال: ماذا فعلنا من الدبلوماسية والضغط الاقتصادي والسياسي لكي تكون القضية حاضرة في أي مفاوضات أمريكية أو إسرائيلية؟ هل نملك من وسائل الضغط ما يحقق هذا الحلم؟ هل استطعنا توظيف ثرواتنا وبترولنا للضغط على الولايات المتحدة الأمريكية التي انفردت بمستقبل العالم كله؟
إذا كان الرئيس الأمريكي (ترامب) قد جعل قضية الصراع الروسي الأوكراني في مقدمة أولوياته في المرحلة القادمة والتضحية بحلم أوكرانيا في سبيل حسم هذا الصراع، إلا أنه لم يصرح أبدا خلال حملته الانتخابية عن عزمه على قيام الدولة الفلسطينية كوسيلة لحسم هذا الصراع التاريخي، ولا أعتقد أن الرجل لديه رؤية لإنهاء هذا الصراع بطريقة عادلة، بل ربما يُفرض على الفلسطينيين ما تقترحه إسرائيل وهو ما يفسر الزيارات المكوكية التي يقوم بها الساسة الإسرائيليون منذ الإعلان عن نجاح تراكب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، بينما اكتفينا بالحديث عن أحلامنا وبحسم الصراع بما يحقق المصالح الفلسطينية، وهو حلم لم نسع لدفع ثمنه، مكتفين بالتهليل والترحيب بمقدم ترامب الذي يملك كل الحلول، في الوقت الذي يعلن فيه أن في مقدمة أولوياته عقب تسلمه مقاليد الحكم زيارة المملكة العربية السعودية، ولعلنا نتذكر زيارته للمملكة في بداية حكمه في الدورة السابقة وتصريحاته الفجة التي افتقدت إلى كل القيم الدبلوماسية والثمن الهائل الذي حصل عليه، لكن كل ذلك لم يقربنا من حل الصراع، وقد انتهت فترة حكمه لكي يدخل الصراع بعدها في أُتون دورة جديدة من حكم الرئيس بايدن الذي قدم لإسرائيل ما فاق كل الدعم الذي حصلت عليه طوال تاريخها.
السؤال الآخر: هل نملك رؤية متكاملة لحل الصراع؟ هل لدينا أوراق ضغط لم نستثمرها بعد؟ هل لدينا القدرة على تقديم تضحيات تتناسب وحجم الخطر الذي ينتظرنا؟ هل تخلصنا من أمراضنا وهزائمنا ونحن نواجه خطرا داهما لا يهدد مستقبل الدولة الفلسطينية فقط، بل ربما يهدد الكثير من دولنا وأوطاننا؟ هل لدينا الشجاعة لكي نعترف بهزائمنا وأمراضنا؟ ألم يحن الوقت لكي نتدارس الأمر من كل جوانبه بعد أن يعكف الخبراء والساسة لإعداد مشروع نستطيع أن نقدمه إلى العالم؟ فليس من المعقول أن يكون مجرد الإعلان عن إقامة دولة فلسطينية على حدود الخامس من يونيو ١٩٦٧، بمثابة مشروع متكامل، بل الأمر يستوجب الحديث عن الحدود والاقتصاد وشكل الدولة من الناحية القانونية، وقضية اللاجئين والأمن، وجميعها قضايا معقدة لا يجوز أبدا أن نختزل كل هذا في الإعلان عن دولة فلسطينية على حدود ١٩٦٧، وإلا سوف يفاجئنا الإسرائيليون والأمريكان بإقحام قضايا تبدد كل حلم مرتقب في مشروع الدولة المقترح، وخصوصا وأن إسرائيل كما نتابع اليوم ليس في برنامجها الحديث عن أية حقوق للفلسطينيين، بل هي تسعى نحو المزيد من تحقيق طموحاتها المجنونة، دون أي اعتبار لحق الفلسطينيين، وأعتقد أن إسرائيل قد اقتربت كثيرا من استكمال حلمها، بعد أن جعلت من غزة وطنا بائسا يفتقد إلى كل مقومات الحياة في ظل غياب عربي وعالمي، وقد اكتفينا بمجرد تقديم معونات غذائية وصحية لكي يبقى المريض على قيد الحياة، انتظارا لموته إكلينيكيا.
هل يمكن للعرب أن يخرجوا من عالمهم الخاص لكي يخوضوا معركة سياسية واقتصادية ودبلوماسية من أجل ـــ لا أقول دفاعا عن حقوق الفلسطينيين وإنما دفاعا عن حقوقهم ومستقبل أوطانهم، وإلا فالمستقبل خطير يُنذر بضياع أوطان وحقوق شعوب أسلمت مقاليد أمورها إلى حكامها، نحن بجد أمام خطر داهم، بل نحن أمام تحديات وجود.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة الأمریکیة الرئیس الأمریکی الذی ی
إقرأ أيضاً:
كتاب يعيد قراءة سقوط الدولة الأموية وصعود العباسيين
الكتاب: النزعة العربية وأثرها على الموالي في عصري صدر الإسلام والدولة الأمويةالكاتب: الدكتور جوتيار تمر
الناشر: تموز ـ ديموزي للطباعة والنشر والتوزيع ـ دمشق، الطبعة الأولى 2024
306 صفحة من القطع الكبير.
هذا هو الجزء الثالث والأخير من قراءة خاصة كتبها الباحث التونسي توفيق المديني لصالح "عربي21"، في كتاب "النزعة العربية وأثرها على الموالي في عصري صدر الإسلام والدولة الأموية" للدكتور جوتيار تمر، الصادر عن دار تموز ـ ديموزي للطباعة والنشر والتوزيع (دمشق، الطبعة الأولى، 2024).
ويغوص هذا الجزء في الجدل التاريخي والفكري حول الثورة العباسية ودور العرب والموالي فيها، موضحاً مسار النزعات القبلية والسياسية التي حكمت العلاقة بين المركز العربي و"الأطراف" غير العربية، وصولاً إلى لحظة الانقلاب العباسي وملامح الدولة الجديدة.
جدلية الثورة العباسية بين الموالي والعرب ونهاية الدولة الأموية
شاع لعقود تاريخية طويلة، أن الثورة العباسية قامت على اكتاف الفرس الموالي، بل وصفها البعض على انها ثورة الموالي على العرب، وبات مسلماً عند الكثيرين أن العرب فقدوا سلطانهم بعد زوال الدولة العربية الأموية، إلا أن البحث عن مضمون الثورة العباسية، وفصل الأحداث ودراسة كل حدث منفرداً ومن ثم ربط خيوطها ببعض سيتضح جلياً، بأن الثورة قامت على اكتاف العرب من أهل خراسان، خاصة القبائل العربية اليمانية والربعية التي اخذت لنفسها مواطن استقرار كثيرة في خراسان وما حولها، وذلك ما تؤكده وصايا إبراهيم بن محمد العباسي مفجر الثورة، الذي حث فيها الدعاة على التقرب إلى الاحياء العربية في خراسان وجذبها إلى الانضمام في صفوف الثورة، ناهيك أن النقباء الاثنا عشر كانوا كلهم عرب أو مولى للعرب، وذلك ما يدحض مقولة أن الثورة أعجمية، انما كانت الثورة عربية المنشأ، والروح، والعقيدة، والسلطة، والعجم لم يكونوا سوى وقود حرب استغلوا في أوقات الشدة والحاجة، وتلك الفرضية هي ما ستثبتها الدراسة وفق ما يأتي:
اتسعت رقعة الدولة العربية الأموية وباتت القوى القبلية نافذة ومسيطرة على غالبية الأقاليم والأمصار والبلدان التي خضعت الحتمية الاجتياح العربي، ولم يتغير شيء من معالم الرؤية القبلية العربية وبقيت خاضعة لمنطق، أن العرب أمة واحدة، المؤمنون أخوة، وهم المؤمنون والمسلمون من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهر معهم، والأمة تقوم على الدين، تحولت الأراضي التي وقعت تحت سيطرتهم بفعل القرابة الدين إلى حق من حقوق الملكية العربية، أما السكان الأصليين لتلك الأراضي فهم موالي، وفي أفاءه الله عليهم، بل أنهم بمثابة طبقة يتم حلب درها واستنزاف ما تنتجه من فائض، حتى لو نضب الدر اللبن - لا مانع عند العرب حلب الدم، كما قال الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك لاحد ولاته هبلتك أمك، احلب الدر؛ فإذا انقطع، احلب الدم، لذا كانت الرؤية واضحة فيما يتعلق بالسياسة التي اتبعها الأمويون تجاه الموالي ومن بعدهم العباسيون، الذين حولوا العصبية العربية الأموية إلى شعارات داعية للمساواة بين العرب وغير العرب، ولكن وفق شروط مسبقة، تبقى القيادة عربية، وأما غير العرب فهم وسيلة بشرية حية للوصول للغايات الأسمى، التي تمثلت على مر العصور الإسلامية وسيلة لتثبيت دعائم السلطة.
تميزت الدعوة العباسية عن الحركات والثورات التي سبقتها في صدر الإسلام باعتبارها أخذت حيزاً جدلياً كبيراً لاسيما بين الأوساط الأكاديمية، فقد استقر في الأذهان لفترة طويلة أن الدولة العباسية قامت على أكتاف الموالي بالأخص موالي الفرس سواء من أهل خرسان أو غيرهم في المناطق الأخرى التي برزت معالم الثورة العباسية فيها، معتمدين على تأويلات ظاهرية لبعض المقولات التاريخية.تثبت الأحداث التاريخية أن السلطة الأموية نفسها حين أرادت أن تمسك بزمام الأمور في الأراضي التي استوطنتها العرب وشاركت الموالي في أمور حياتهم حاولت استمالة قبائل على حساب أخرى لتكون لها نداً، فيما استمالت الموالي بالأخص الطبقة الارستقراطية منها لتكون واجهة اقتصادية لها، وذلك ما أفرز نفوراً وتذمراً لدى القبائل العربية المناوئة للسلطة واخذ أمية الناس بالخراج، واشتد عليهم فيه، فجلس بكير بن ماهان (ت ما بين 125 - 136هـ / 743-744م) كبير دعاة العباسيين يوماً في المسجد وعنده ناس من بني تميم، فذكروا شدة أمية على الناس، فذموه، وقالوا: سلط علينا الدهاقين في الجباية، ذلك ليس دليلاً على تعسف السياسة القبلية العربية الأموية تجاه تلك القبائل فحسب، وإنما دليل على مدى انتشار تلك القبائل على ارض خراسان وما حولها، ومدى توغلهم في الحياة العامة والخاصة فيها، بدرجة أنهم كانوا في تذمر دائم للسياسة الأموية سواء من الحكم أو فيما يتعلق بالجباية والخراج، ودليل على رفض تلك القبائل أن يتسلط على رقابهم الأعاجم، وذلك ما مهد لبروز تيارات مناوئة للسلطة.
تميزت الدعوة العباسية عن الحركات والثورات التي سبقتها في صدر الإسلام باعتبارها أخذت حيزاً جدلياً كبيراً لاسيما بين الأوساط الأكاديمية، فقد استقر في الأذهان لفترة طويلة أن الدولة العباسية قامت على أكتاف الموالي بالأخص موالي الفرس سواء من أهل خرسان أو غيرهم في المناطق الأخرى التي برزت معالم الثورة العباسية فيها، معتمدين على تأويلات ظاهرية لبعض المقولات التاريخية.
كان الموالي في خراسان لا يشكلون ضعف عدد المقاتلة العرب وقبائلهم التي استوطنتها، ذلك ما يؤكده نصر بن سيار والي الأمويين على خراسان حين قال للعرب فيها وأنتم يا أهل خراسان؛ مسلحة في نحور العدو، فإياكم أن يختلف فيكم سيفان، كما أن العديد من النصوص تثبت وجود عدد من القصور والمساجد المنسوبة للعرب في مرو كدليل على ماهية الاستقرار، مع التأكيد على ذكر أسماء قرى بالقرب من مرو خلصت للعرب، فكانت بونيه قرية لطيء، وقرية بأعلى مرو لكندة، وأخرى لبني العنبر، والخزاعة قرية سفيذنج وبالين، وفنين، كما كانت قرية الماخوان الخالد بن عثمان ابن مسعود، ومن جملة مؤكدات الاستقرار العربي في خراسان وقراها وقصباتها، أن في مرو كان لكل باب من أبوابها اسم يدل على قبيلة سكنتها أو قائد عربي أسكنها عيالاته، کباب میدان یزید، باب حرب بن عامر، باب نصر، واتخذ العرب مركزاً لهم بالبروقان، قرب بلخ التي فيها جماعة من الازد وتميم وغيرهم، كما سكن العرب في خراسان هراة، حيث كان فيها جمع كثير لبكر بن وائل وفي وأماكن أخرى عليلة، فضلاً عن أن الولاة كانوا ينقلون الجنود من مدينة إلى أخرى وفق الحاجة وما تقتضيه العصبيات، كما فعل الوالي الأموي أسد بن عبد الله الذي نقل من كان بالبروقان إلى بلخ، واقطع كل من كان له هناك مسكناً بقدر مسكنه، ومن لم يكن له مسكن اقطعه واحداً، وأراد أن ينزلهم على الاخماس، لكنه خاف من العصبيات، فخلط بينهم.
ختاماً فإن الدراسة قد توصلت إلى جملة نتائج ومنها:
تميز العصر الراشدي ببعض الامتيازات المقررة للموالي، إلا أن الأمر لم يستمر على نفس المنوال طوال الحكم الراشدي، ففي عهد الخليفة أبي بكر ساوى بين العرب والموالي في العطاء، لكن في عهد الخليفة عمر بن الخطاب أثرت التحولات التي حدثت في بنية الدولة جراء التوسعات وتوجه الجيوش نحو البلدان غير العربية، على سياسته تجاه الموالي، حيث لم يدرج الخليفة جميع الموالي ضمن ديوان العطاء، وألحق بذلك الاجراء إلغاء الرق والسبي على العرب، وفدى سبايا العرب سواء الذين وقعوا في السبي قبل الإسلام أو بعد ظهور الإسلام بأموال الدولة، ومنع المقاتلة العرب بالزواج من غير العربيات، وفرض مبدأ الكفاءة في الزواج، وحذر من الانجراف وراء زواج الأعاجم خوفاً من ذهاب النخوة العربية، وتلى ذلك عدة إجراءات ساهمت في مضمونها ومتغيراتها على نفسية الموالي الأعاجم ووجودهم ضمن هيكلة الدولة، وشرع بذلك لمن أتى من بعده باتباع السياسة ذاتها التي لم تثمر سوى مزيداً من الفوضى السياسية والتي نتج عنها مقتل الخليفة بيدهم في النهاية، ومن ثم مقتل الخليفة عثمان بن عفان من بعده، وعلى الرغم من محاولة الخليفة علي بن ابي طالب إعادة الأمور إلى نصابها إلا أن الفوضى كانت قد تسربت إلى أواصر الدولة عن طريق الولاءات القبلية ونزعاتها وأدت بالتالي إلى مقتله أيضاً.
تغيرت الأوضاع السياسية والاجتماعية للموالي بعد تلك الانقسامات والصراعات الدموية التي أرهقت كاهل الدولة، وأصبحت التشريعات تسن وفق الحاجات، ووضعت العديد من الأحاديث والآثار التي نسبت إلى النبي (ﷺ)، وإلى بعض الصحابة وهي في مضمونها تخالف مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية، ساهمت تأويلات بعض علماء وفقهاء الدولة في تأصيل تلك الآراء وفرضها على الواقع التاريخي، حتى أصبح الموالي ضمن دوائر الازدراء بنظر العرب، لاسيما الأعراب الذين يعرف عنهم بداوتهم واستمرار نزعتهم العربية البدوية حتى بعد مرور ما يقارب القرن على انتشار الإسلام، تلك النظرة خلقت فجوة في بنية المجتمع الإسلامي، الذي كان يعتمد بالدرجة الأساس على الغزوات والسبي والغنائم، في حين ابتعدت عن المهن ووكلت بتلك الوظائف للموالي احتقاراً، حتى اصبح الموالي بمرور الوقت مادة ناضجة للحركات والثورات التي عمت الدولة الإسلامية لاسيما في نهاية العصر الراشدي وبداية العصر الأموي، واستمرت إلى حين سقوط الأمويين، ومجيء العباسيين للحكم.
أثارت العديد من المراجع الحديثة وذلك بالاستناد على بعض النصوص التاريخية والتشريعية على أن الموالي لم يكونوا مضطهدين في الدولة العربية الإسلامية، وأنهم تولوا مناصب إدارية مهمة وحساسة، وأن النصوص التي تظهر ازدراء العرب للموالي هي ليست سياسة الدولة إنما هي حالات فردية بدرت بالدرجة الأساس من بعض الأعراب، متجاهلين أن الافتراضات يجب أن تساق وفق معطيات واقعية، وليس مجرد تأويلات خارجة عن النطاق الافتراضي المبني على الظن، فالدولة لم تكن ضعيفة لتشاهد تلك المتحولات تجاه الموالي وتسكت عنها، على أنها رؤية ونظرة وال أو قائد جيش أو قاض أو أعرابي تجاه الموالي، فهؤلاء كانوا ركيزة الدولة وعمادها الأول، وحين يتجاهل الخليفة اجراءاتهم فإنه يقرها بالدرجة الأساس، ولا يعتبر الأمر مجرد رأي شخص وحالة فردية طالما أنها تدرج ضمن سياسة الدولة، على ذلك الأساس فإن مفهوم الحالة الفردية تمثلت في الأصل بسياسة الخليفة عمر بن العزيز الذي رفع الجزية عن الموالي وحاول اتباع سياسة مغايرة معهم، إلا إجراءاته انتهت بموته، لأن من سبقوه فرضوا تلك السياسة، ومن أتوا بعده استمروا عليها، وبذلك اثبت الواقع التاريخي بأن ما قام به الخليفة كان حالة فردية.
استغل الأمويون والمعارضة الأموية الموالي كلاً وفق حاجاتهم، حيث وظفتهم الدولة الأموية للقيام ببعض المهام الإدارية التي لم تكن مساراتها قد نضجت عند العرب مثل الجباية والأمور المالية، فتولوا مناصب مختلفة ضمن هيكلة مؤسسات الدولة، إلا أنهم حرموا من تلك المناصب التي فيها امتلاك الرقاب العرب، وبالتالي ساهمت تلك السياسة بخلق نظرة مغايرة حول مكانة الموالي في الدولة العربية الأموية، فوجد البعض أنهم مارسوا حقوقهم بعدالة داخل المجتمع العربي الإسلامي، في حين رأى البعض في تلك السياسة اضطهاداً للموالي، وبرهنت الدراسة، أن علو العرب كان الأصل في كل الممارسات، سواء عند الأمويين أو اتباع عبد الله بن الزبير حين تولى الخلافة وسيطر على الحجاز والعراق ومصر، وأن تولي الموالي المناصب الإدارية لم يخرج من دائرة الموالاة التي جعلها الخليفة عمر بن الخطاب اساساً الحفاظ الأعاجم على أنفسهم، كما رأت الدراسة أن غالبية الذين تقلدوا تلك المناصب كانوا موالي لقبائل عربية أو لشخصيات عربية سواء كانوا خلفاء أو أمراء أو حتى شيوخ قبائل، وبالتالي فإن الموالي في صدر الإسلام لم يجدوا لأنفسهم موطئ قدم إلا ما ندر، يمكن الاعتماد عليه لإبراز معالم العدالة الاجتماعية لدى العرب.
استطاعت المعارضة الأموية من تحريك الموالي ضد السلطة في أحيان كثيرة، وذلك من خلال رفع بعض الشعارات التي تتعلق بالمساواة والعدالة الاجتماعية، حيث أثارت الموالي الذين وقعوا تحت حتميات الازدراء العربي لهم، وأثارت العبيد والرقيق بدعوى اعطائهم حريتهم عندما ينضمون لطرف على حساب طرف اخر، لذا بات الموالي وقوداً لغالبية الحركات ضد السلطة في العصر الأموي، على أن ذلك لا يعني خضوع جميع الموالي لذلك المنطق، لأن موالي القبائل المتحالفة مع السلطة حاربت مع اسيادها ضد الحركات والثورات بحكم الولاء.
أثارت العديد من المراجع الحديثة وذلك بالاستناد على بعض النصوص التاريخية والتشريعية على أن الموالي لم يكونوا مضطهدين في الدولة العربية الإسلامية، وأنهم تولوا مناصب إدارية مهمة وحساسة، وأن النصوص التي تظهر ازدراء العرب للموالي هي ليست سياسة الدولة إنما هي حالات فرديةتاسعاً: تؤكد النصوص التاريخية والفقهية أن العرب لم يتنازلوا عن السلطة ويقوا متمسكين بزمام الأمور حتى في الأوضاع غير الطبيعية التي مرت بها الدولة العربية الأموية، ففي حربها مع المعارضين أسندت قيادة الجيوش للقادة القبليين العرب إلا ما ندر، ومع أنها ساهمت في بروز النزعة القبلية وعصبيتها لدى القبائل القيسية واليمانية والمضرية وغيرها، إلا أنها في الأول والأخير كانت تعمل على إبقاء السلطة بيدها، وإبقاء القبائل العربية الموالية لها هي المتسيدة للأوضاع والمسيرة للأحكام، بهدف توجيه العرب بمواليهم إلى خدمة أهدافها، على الرغم من أن تلك الإجراءات تحولت بمرور الوقت إلى سبب رئيسي من أسباب الفوضى السياسية التي ألقت بظلالها على الدولة نفسها رمقها الأخير.
اتجهت الدراسات الحديثة إلى تفنيد النظرية القائمة على أعجمية الثورة العباسية، وأثبتت أن الدعوة كانت موجهة بالدرجة الأساس للعرب المقاتلة والمستقرين في القرى والأمصار التابعة لخراسان الخارجية، لا سيما في مرو وتوابعها، وتثبت النصوص التاريخية على أن الخلفاء منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان قاموا بإرسال اعداد كبيرة من المقاتلة العرب إلى تلك الأمصار فاستوطنوا فيها، وجعلوا في كل قرية حامية انزلوا فيها ما يقارب الأربعة الاف جندي، واستمر وصول الامدادات اليهم ضمن فترات متلاحقة، حتى غلب على تلك الأماكن العرب، واصبح الأعاجم فيها اقلبة محكومة من العرب، كما خضع الموالي في تلك الأماكن لمنطق الصراعات القبلية، وبذلك انقسموا إلى جبهتين، احداها توالي العرب المضرية الموالين للوالي الأموي، وأخرى توالي القبائل الموالية للثورة العباسية، ولم يكن اختيار مولى لقيادة الثورة في خراسان إلا تدبیر حكيم من العباسيين، وذلك لإدراكهم حجم الثارات بين العرب في خراسان وتوابعها من جهة، ولإدراكهم أن الأعاجم سترى في أبي مسلم الخراساني القائد المنتخب من العباسيين كمنقذ لهم من ظلم العرب وصراعاتهم، وكان اختیار خراسان استناداً إلى وجود العرب فيها وغلبتهم على الأمصار والقرى والبلدان حتى أصبحت لديهم قرى خاصة بهم وقلاع خاصة، ومن ثم اختيارهم لأبي مسلم بعد رفض العرب استلام قيادة الثورة لكبح جماح الأعاجم وضمان ولائهم للثورة.
ساهم الموالي بدرجة كبيرة في اسقاط الدولة العربية الأموية، وذلك من خلال انضمامهم إلى الثورة العباسية وتشكيل فرقة خاصة بهم يقودهم عربي، ضمن قيادة عربية كبرى لجميع القوات العباسية، كما ساهمت جغرافية مناطق الموالي الأعاجم في تسريع وتيرة الثورة، حيث تبعت من أراضيهم، فكانوا بحكم الموقع الجغرافي طرفاً في الجبهتين الموالية للسلطة العربية الأموية، والمتحالفة مع الثورة العباسية، ويظهر ذلك جلياً من خلال سير احداث الثورة وتوجه القوات العباسية للكوفة التي كان الإمام العباسي يحتمي فيها، وحين انتصرت الثورة وبدا للجميع أن الموالي الأعاجم باتوا عنصراً رئيسياً في تركيبة الدولة ومؤسساتها، ظهرت بوادر النزعة العربية لدى العباسيين في بداية حكمهم، وذلك من خلال إزاحة رموز الموالي من طريقهم.
إقرأ أيضا: العروبة المؤسِّسة.. كيف صاغ العرب مكانتهم العليا داخل الدولة الإسلامية المبكرة؟
إقرأ أيضا: القبيلة والدولة.. الموالي بين منطق الفتح ومأزق التمييز في المشروع الأموي.. كتاب