الجزيرة:
2025-08-03@00:19:50 GMT

هل يوجد تنوير إسلامي؟

تاريخ النشر: 4th, December 2024 GMT

هل يوجد تنوير إسلامي؟

هل يمكننا الحديث عن تنوير إسلامي؟

لا ريب أنه أول سؤال سيخطر ببال القارئ وهو يقف أمام الإصدار الجديد للمفكر المغربي محمد المصباحي والموسوم بـ "من أجل تجديد التنوير الإسلامي" (دار الأمان 2024). لكن إذا تحلّى القارئ بقليل من الصبر إلى حين الانتهاء من قراءة الكتاب، فسيدرك ما يرمي إليه المؤلف من وراء ذلك العنوان.

أجل، يبالغ الرجل في مهاجمة الإسلام السياسي، وقد لا ينتبه إلى أن الإسلام السياسي هو نتيجة لفشل المشروع التحديثي، وفشل دولة الاستقلال الوطني، بل وفشل وإفشال مشروع الاستقلال الوطني عمومًا أو تمييعه وحرفه عن طريقه وأهدافه.

وحتى نتعرف على طبيعة الأنظمة السياسية التي حكمت وتحكم المنطقة العربية، أقترح أن نفكر أيضًا بنوع المعارضة التي أنتجتها وتنتجها. وفي تعبير آخر: إن الإسلام السياسي من أعراض الأزمة ونتائجها وليس من أسبابها.

ما يتوجب أن ننتقد فيه الإسلام السياسي هو فشله النظري المريع في ترجمة المقولات الإسلامية إلى لغة الايتيقا المعاصرة [الأخلاق والقيم المشتركة بين البشر]، لأنه لم يدرك بعد أن الدفاع عن حقوق الدين يمر ويتحقق عبر الدفاع عن حقوق الإنسان، وأن الوظيفة المركزية للدين تكمن في الارتقاء بنا إلى الإنسانية، وليس في الخروج بنا منها.

إعلان

يقرأ محمد المصباحي أزمة الراهن العربي باعتبارها أزمة ثلاثية: الأولى تتعلق بالدولة، والثانية بالدين، والثالثة ما يسميها "أزمة العلاقة بين الدولة والدين". تكمن الأولى في استحكام السلطوية بالنظام السياسي العربي، والثانية في التشدد المذهبي والتطرف الديني، وتتمظهر الثالثة في غياب للحوار بين الدين والدنيا.

ولكن المصباحي لا يؤكد إلا استمرار لحظة محمد عبده في الفكر العربي المعاصر، وهو يقرر منذ البداية أن الخروج من المأزق يمر عبر "انفتاح العقل على الوحي، والوحي على العقل".

وهي اللحظة التي لا يمكن تجاوزها إلا بتفكيك هذه الثنائيات الأيديولوجية التي فرضتها التجربة الأوروبية على العالم، ومنها ثنائية الدين والدنيا. وذلك أن التسليم بمثل هذه الثنائيات يتضمن اغترابًا للفكر عن واقع مجتمعاتنا العربية، وعن الحقيقة الدنيوية للإسلام، وعن تاريخيته المتمثلة في التغيرات والتحولات التي يعرفها الدين وهو ينتقل من سياق إلى سياق.

وقد أشار إلى ذلك محمد أركون، وهو يتحدث عن انتقال الإسلام من شبه الجزيرة العربية إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، وهو ما يمكن أن نلحظه أيضًا في انتقال الإسلام من سياق ثيوقراطي إلى سياق ديمقراطي، وهو ما يتطلب منا ألا ننطلق من مفهوم جوهراني للدين، ولا من مفهوم جوهراني للحداثة يقول بضرورة اصطدامها بالدين، فالدين، كما كتب مارسيل غوشيه، "لا يموت في الحداثة".

لا يمكن تصور الديمقراطية بدون العلمانية، ولا يمكن للإسلام السياسي أن ينجح دون برامج اجتماعية عادلة

بواسطة المفكر المغربي محمد المصباحي

أجل، إننا نحتاج، كما يكتب المصباحي، "لتأهيل الفكر الديني كي يلعب دورًا إيجابيًا في بناء الدولة الديمقراطية وترسيخ أركانها وتكريس قيمها"، وكان جاك دريدا قد دعا، بُعيد عمليات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، إلى ضرورة استنباط المضمون الديمقراطي للقرآن.

إعلان

غير أنه لا يمكننا القيام بذلك إلا إذا تحررنا من هذه الثنائية المستوردة، لأن المشكل والمحبط في آن في هذه الثنائية يكمن في أنها تغفل من جهة الاستقلال الكبير الذي تمتع بها الفقهاء في تاريخ الإسلام واستقلالهم عن السلطة السياسية ومعارضتهم لها في الكثير من الأحيان، وتغفل ثانيًا أن الإسلام دين دنيوي بامتياز، وأنه أعاد تعريف الديني، وهو يحرره من الرهبنة ويربطه بالحياة، وأن هذه الثنائية ستطرح نفسها بشدة في سياق عربي، ستحكمه صدمة الحداثة، ويسيطر عليه استيراد الأفكار الحديثة دون معرفة موضوعية بسياق إنتاجها ولا بالسياق الذي انتقلت إليه.

إن هذا لا يعني أننا لا نحتاج للعلمانية، لأنها قضية لا تهمنا كما قد يدافع عن ذلك فكر سحري، مغترب عن قضايا واقعه، ولكن ما يتوجب تأكيده هنا، هو أنه ليس الإسلام من يتعارض مع العلمانية، ولكنه الاستبداد.

شروط سبعة

يقترح محمد المصباحي سبعة شروط، يتوجب، في رأيه، على الإسلام السياسي الاعتراف والالتزام بها، إذا ما سعى إلى أن يكون جزءًا من النسيج السياسي للدولة الحديثة، ولكن ما ينساه المؤلف في هذا السياق، هو أن ما اصطلح عليه دولة الاستقلال الوطني والتي انتهت إلى دولة للاستعمار الداخلي، لا تتوفر فيها تلك الشروط، وذلك على الرغم من دعاوى الحداثة والعلمانية والتقدمية.

أول تلك الشروط ما يسميه المصباحي بالإنسية، والتي يمكن ترجمتها سياسيًا بحكم الشعب نفسه بنفسه، وما يستتبع ذلك من نتائج إيتيقية وقانونية وثقافية ومجتمعية. إذ لا يمكن لأحد اليوم أن يختفي خلف شعار "الحاكمية لله"، حتى يسلب الناس حريتهم وفرديتهم، لأن الفهم الأيديولوجي لهذه الحاكمية يفرغ الدين الإسلامي من مضمونه التحرري والإيمان من فرديته، ويتناقض مع الغاية الإلهية من استخلاف الإنسان في الأرض. أما الشرط الثاني، فيتمثل في ضرورة فصل الدين عن الدولة، والأفضل أن نُعبّر عن ذلك بشكل أكثر دقة، ونقول بضرورة الحيلولة دون استعمال واستغلال الدين لأغراض سياسية. ويرى المصباحي في الديمقراطية – باعتبارها فعلًا سياسيًا- شرطًا ثالثًا، مؤكدًا أن الإسلام السياسي هو في جوهره حركة أو حركات أيديولوجية، اضطرت لممارسة السياسة اضطرارًا، أملًا منها في تطبيق مشروعها الأيديولوجي اللاتاريخي، ويتابع في كلمات تدعو للتأمل: "والإسلام السياسي في كل هذه التجاوزات ينطلق من فهم سطحي وجزئي للإسلام. فشعار مقاومة الفساد، مثلًا، لا يعني لديهم سوى مقاومة الانحرافات الشخصية التي تشير في نظرهم إلى خروج عن الدين كتعليم المرأة ولباسها وفق مواصفات بهلوانية، أو خروج شاب مع خطيبته أو صديقته الجامعية.أما الفساد الحقيقي الذي يخرب الدولة والمجتمع فلا يلتفت إليه، وبمجرد ما يتظاهر الفاسد الحقيقي بالقيام بالشعائر والطقوس الدينية أو يقوم بتبرعات "خيرية" مشبوهة، تمحى ذنوبه ويصير فردًا طاهرًا نقيًا. ومما يزكي ما قلناه افتقار الإسلام السياسي في الغالب إلى برامج سياسية واجتماعية مفصلة لبسط العدالة الاجتماعية والسياسية. وبالفعل، فالحركات السلفية تهتم بالسلف لا بالخلف". أما الشرط الرابع فيمكن اعتباره تكرارًا للشرط السابق، ولكنه يؤكد حقيقة أساسية تقول الآتي: لا يمكن تصور الديمقراطية بدون العلمانية. ويتمثل الشرط الخامس في الحرية التي لا تتحقق إلا من خلال مواطنة كاملة، والمؤلف يتحدث في هذا السياق عن "ثقافة ديمقراطية"، تدافع عن قيم المواطنة والحرية. ويتمثل الشرط السادس في العقلانية، وما يعنيه ذلك من أسبقية العقل العملي على العقل العقدي. ثم ينتهي بشرط الثقافة، وهو هنا يغمز من جهة تلك الحركات التي تبخس الثقافة والإبداع الثقافي قيمته، ولربما كان من الأدق أن يقول الحضارة، لأن الثقافة نفسها، وإن خطت خطوات كبيرة في الإبداع والخلق، قد تقف ضد الحضارة وقيمها، وهو ما تعبر عنه بدقة التجربة الألمانية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. إعلان

لا يبالغ محمد المصباحي وهو يؤكد أن "المواطن الصالح"، ولنقل المواطن في دولة ديمقراطية يمتلك أبعادًا متعددة وهويات متنوعة وانتماءات متباينة، ولا ريب أن هذا المواطن المتعدد هو الذي يمكنه أن يصمد أمام إغراءات السلطوية، وهو ما أوضحته إلزاـ فرينكل براشفيك في دراستها الشهيرة، بمعية أدورنو، عن الشخصية المتسلطة، باعتبارها تلك الشخصية غير المتسامحة مع الالتباس، وذلك يقف على النقيض من كل تلك الدعوات التي تريد أن تختزل التعدد الإنساني، والذي تعترف به الأديان نفسها، في بعد واحد.

وفي هذا السياق يضرب المصباحي مثلًا بالسلفية المغربية، والتي لم ترَ تناقضًا بين محاربة الاستعمار، والانفتاح في الآن نفسه على مكتسبات الحداثة.

السلفية الوطنية مشروع تحرري مزدوج يربط بين تحرير العقل والتحرر السياسي

بين سلفيتين

يميز المصباحي في كتابه بين سلفيتين: سلفية يسميها مستنيرة، على الرغم مما قد يثيره هذا التوصيف من إشكاليات، و"سلفية متزمتة"، وهو في الواقع، لا ينحت هنا مفهومين جديدين، وإنما ينطلق من حركتين سلفيتين كما تحققتا في تاريخ العرب المعاصر:

الأولى ارتبطت في رأيه بالرعيل الأول من الوطنيين المغاربة، والتي كانت تعتقد بضرورة الأخذ بأسباب الحضارة الحديثة من أجل الانعتاق من الاستعمار، وضرورة قراءة النصوص الدينية قراءة عقلانية وتحررية. وكما كتب عن هذا الصنف: " كانت فيها كلمة السلفية مرادفة لمقاومة الاستعمار. وقد استعارت الحركة الوطنية كلمة "السلفية" شعارًا لها أولًا: لقدرتها على التعبئة وطي حقبة الانحطاط الطويلة بشروحها وحواشيها، بدروشاتها وتخاذلاتها، والذهاب توًا إلى المنبعين الأصيلين للإسلام: القرآن والسنة لإعادة قراءتهما وفق ما تمليه تحديات الحداثة؛ وثانيًا: للحد من حالة الانقسام المذهبي للأمة وجمع الكلمة؛ لتحقيق الهدف المستعجل، وهو التحرر من احتلال الأجنبي.بهذا المعنى يمكن اعتبار "السلفية" فتوى مزدوجة للحركة الوطنية: فهي فتوى وطنية بحق البلاد في الحرية السياسية، وهي فتوى حضارية بالحق في الحداثة وإعادة فتح باب الاجتهاد في الشريعة".

فالسلفية الوطنية مشروع تحرري مزدوج برأي المصباحي، ذلك أن التحرير السياسي يرتبط عضويًا بتحرير العقل من قيود التقليد، أو من ذلك العقل الذي عبّد الطريق للاستعمار، أو ما يسميه مالك بن نبي بالقابلية للاستعمار. وعودتها إلى التراث الديني لم تكن لأجل الدفاع عن هوية مفارقة للتاريخ أو عبادة للأموات، بل هي عودة لأجل المستقبل، ودعوة للحاق بالحداثة.

أما السلفية الثانية، أو السائدة اليوم بنظره، فإنها تدافع على "تصور محافظ ومنغلق للإسلام، تصور جوهره العداء لكل ما هو جديد، ولكل من يستعمل عقله أو خياله أو إرادته استعمالًا حرًا سواء كان فردًا أو جماعة أو دولة، وتكفير كل إبداعات العقل والخيال العلمية والعملية والفنية"، وهو تصور يمارس التكفير ولا يمارس التفكير كما سبق وأوضح نصر حامد أبوزيد، ويتحقق كعنف ضد المجتمع، وضد التصورات الأخرى للدين والماضي. إعلان

إننا نعرف أن الموقف من الماضي يمثل أيضًا موقفًا من المجتمع الذي نريد أن نعيش يه. فأن يحكم "فيلسوف أخلاقي" معاصر على ابن رشد باعتباره لا ينتمي إلى الثقافة الإسلامية؛ لأنه ارتبط في تفكيره بأرسطو، هو في الواقع، لا يمارس عُنفًا على الماضي فقط، ولكن على الحاضر أيضًا، ويفصح أيضًا عن المجتمع الذي يرنو إليه، وهو لا ريب مجتمع ستحكمه "الجماعة" بمنطقها المغلق، وترسم حركاته وسكناته.

ومحق – لا ريب – المصباحي وهو يكتب منتقدًا مثل هذه الأشكال من الاختزالية وضيق الأفق: "ومن مفارقات هذا التشدد السلفي قيامه على إحياء الذاكرة التاريخية "للمذهب"، من أجل تدمير الذاكرة الشاملة للإسلام ككل. فتم إفراغ الإسلام من محتواه الحضاري وبعده الأخلاقي والإنساني، وتقديمه في صورة مشوهة..".

وفي السياق نفسه يميز المصباحي بين إسلام السلفية الأولى التحرري والمقاوم للاستعمار، والمطالب بالعدالة، وإسلام السلفية الثانية، المتواطئ مع الاستبداد. وما يطبع هذه السلفية هو ابتعادها عن العقل وتعطيلها للتاريخ واستسلامها لاجتهاد السلف، ذلك أنه في نظرها : "علم السلف فوق الزمان والتاريخ، أي غير قابل للتجاوز، وكأن الأمر يتعلق بنهاية أو منتهى العلم الديني عند الجيلين الأول والثاني من مؤسسي الإسلام".

إن هذه العودة إلى التاريخ القريب من أجل نزع السحر عن مفهوم السلفية الراهن، والدفاع عن واقع أن الأمر يتعلق بسلفيات، وأن الحق في الدين لا يقتصر على جماعة معينة أو مذهب محدد، وأن الفكرة السلفية ليست فقط ظهيرة للاستبداد وحليفة الانسحاب من العالم كما تتحقق اليوم، بل اشتغلت أيضًا كفكرة تحررية ضد الاستعمار، هي محاولة في غاية الأهمية، إذ كما ذكرت سابقًا فإن الموقف من الماضي والتراث يؤثر بخياراتنا السياسية والمجتمعية اليوم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الإسلام السیاسی الإسلام من لا یمکن لا ریب من أجل وهو ما

إقرأ أيضاً:

???? مغالطة جون قرنق الكبري وتجلياتها في الحاضر السياسي

مغالطة جون قرنق الكبري وتجلياتها في الحاضر السياسي:
معتصم أقرع
????في الذكري العشرين لإغتياله نتذكر أن الشهيد قرنق أسس حركته الشعبية ببرنامج إشتركي وكانت الدول ذات التوجه الشيوعي هي نواة تحالفاته الخارجية – إثيوبيا منقستو بالذات ورعاتها من الكتلة السوفيتية.

????ولكن بعد سقوط الكتلة السوفيتية وإنهيار نظام منغستو أعاد قرنق تموقعه السياسي والأيديلوجى واسقط الاشتراكية السودانية من خطاب الحركة واستبدله بخطاب هوية مسموم، مدمر، مفرق ومصاب بعمي الطبقة و ذاهل عن العدالة الأقتصادية من يومه الأول.

????وبرزت في أوساط الحركة شخصيات صديقة للغرب مثل منصور خالد وغيره. ودغدغ خطاب الهوية الذي يشابه خطاب الإسلام هو الحل – في نسخته التبسيطية – هوي ألاف الشباب الذين وجدوا في الخطاب مفتاحا سحريا يجعلهم بين يوم وليلة من أصحاب الثقافة الرفيعة التي تتيح لهم تشخيص كل مشاكل السودان وصرف الوصفات العلاجية عن طريق قلوظة خطاب الهوية بما يناسب كل سؤال – فعلي سبيل المثال مشكلة التعليم في السودان هي فشل الدولة في الأعتراف بكل الهويات وعدم رغبتها في توفير تعليم ومنهج وكتب لكل طالب بلغته الأصلية – علما بانه قبل إنفصال الجنوب كان في السودان أكثر من مئة وخمسين قبيلة تتعدد اللهجات داخلها ومعظم هذه اللغات غير مكتوب. ولا دخل لفشل التنمية الأقتصادية بمشاكل التعليم.

????الدكتور قرنق كان إنسانا واسع الثقافة والمعارف وملك من إمكانات القيادة ما لم يملكه سوداني قبله ربما منذ أيام المهدي. لذا لا أعتقد أن جوهره كان قد تغير بعذ سقوط الكتلة السوفيتية ولكنه قرر أن يختار البراغماتية وان يستعمل المعسكر الغربي – بعد سقوط المعسكر الشرقي – لتحقيق أحلامه السياسية التي كان جلها نبيل أو علي الأقل معقول لا يصعب الأتفاق معه.

????وهكذا متنت الحركة الشعبية علاقاتها بدول الغرب المهتمة بافريقيا بما في ذلك المهتمة بالإنسانيات ولعبت الكنائس الغربية دورا كبيرا في دعم الحركة الشعبية والترويج لها، بما في ذلك تشويه سمعة السودان بفبركة أخبار عن ممارسة السودانيين الشماليين الرق في الخرطوم بل وفي داخل بيوت الدبلوماسيين السودانيين في أعتى العواصم الغربية.

????ولا أعتقد أن جون قرنق لم يكن يعي عيوب تحالفه الخارجي ولكنه قرر إستخدام خارج مشكوك في نواياه لخدمة أهداف قرنيقية نبيلة كما أعتقد. وبالغت الحركة الشعبية من التبرج للخارج حين عرضت علي المملكة السعودية وأمريكا مدهما بخمسئة جندي للمشاركة في تحرير الكويت من غزوة صدام والتي تحولت بعذ ذلك إلي الغزو الأول للعراق في عام ١٩٩١ تحت قيادة جورج بوش الأب.

????ورغم ولوجه في تحالف مشبوه مع قوي إمبريالية وهو الاشتراكي التقدمي حاد الذكاء إلا أنه يستحيل وصف القرنق بالعمالة لانه أدار تحالفاته الخارجية حسب إرادته وتقديره للأمور ومصلحة القضية ولم يكن منفذا مطيعا لاي أوامر تاتي من أي جهة مهما بلغت درجة بياضها وقداستها. وهكذ أستمر التحالف بين الحركة الشعبية والخارج بقياداته الدولية والإقليمية المعروفة.

????كما قلنا، فإن قرنق كان الأبعد عن العمالة لان هناك فرق بين خلق علاقات في الخارج والعمالة. ولكن يمكن اتهامه بالغرور وممارسة الوهم الرغبوي الطوعي لانه في كل تحالف مرحلي، نفعي، قلق، بين طرفين تختلف أهدافهما بعيدة المدى تكون الكلمة الأخيرة فيه إلي الطرف الذي يملك مقدارا أعلي من عناصر القوة.

????وهكذا تجاهل قرنق أن مغالطته القائلة بإستخدام الغرب لصالح قضية تحررية، توحد أفريقيا من كيب تاون إلي الأسكندرية. وهي مغالطة تفترض غباء الغرب – حاشاه فهو غرب نبيه يعرف دبيب النملة وما تخفي الصدور. ولو استدرك قرنق من أمره ما استدبر لأدرك أن الغرب كان يلعب معه نفس لعبته وهي إستخدامه مرحليا لتقريب الغرب وحلفائه الإقليميين والكنائس من هدفهم النهائي وهو فصل الجنوب. ولكن جون قرنق فضل العمي الطوعي خلف قناع من الغرور واختار الطريق السهل لان مواجهة مثل هذه الحقائق كان كفيل بإجباره علي مراجعات كبري تدخله في جفاء مع من دعمه بالمال والسلاح والسطوة السياسية في العالم.

????وهكذا واصل جون قرنق في مسار أضان الحامل طرشا النفعي البراغماتي.
????وحين تمكن نظام البشير من إستخراج البترول في بداية الألفية أدرك الغرب أن ميزان القوي سيتغير لمصلحته بصورة حاسمة بسبب البترول والحماس العقائدي والقتالي للحركة الإسلامية. ولقطع الطريق علي إنتصار حاسم لنظام البشير، فرض الغرب طريق نيفاشا التي قبل بها نظام البشير مجبرا بعد أن تم إرعابه بان السودان سيكون المسرح الثاني للغزو الأمريكي بعد العراق الذي تم تدميره في غزوة عام ٢٠٠٣ وان مصيره لن يكون أحسن من مصير صدام حسين.

????وقد أيد الغزو الأمريكي للعراق كبار دعاء الاستنارة في السودان – الذين تقام بإسمهم مراكز التنوير الممولة من الخارج – كآخر دليل علي توبتهم إلي بيت الطاعة الغربي. وهو الغزو الثاني للعراق بعد أكثر من عقد من الزمان من تحرير الكويت. كما شارك في الغزو الذي أهلك ملايين الأنفس في العراق مستنيرون أخرون ساعدوا بترجمة لغة العراق وثقافته ودينه للغزاة وأحسنوا الترجمة وزيتوا ولوج سنابك الغزاة. وما أشبه الليلة بالبارحة ولا جديد – فهي استنارة متعودة، دايمن كما قال عادل إمام. فهي استنارة بالميلاد تقتات من موائد الغزاة وتناصر غزواتهم السياسية والإعلامية واحيانا العسكرية ولا تري دم الأبرياء في يدها وطعامها وشربها.

????ولم يكن كافيا لحلفاء الحركة الشعبية في الخارج أن إتفاقية نيفاشا أعطت الجنوب فوق كل سقوف مطالبه السابقة لان الهدف النهائي هو فصل الجنوب وليس إنصافه. فرق تسد. دائما.

????عودة إلي الطبيعة القلقة لتحالف قرنق مع الغرب وممثليه في الإقليم، لم يكن ليغيب علي هذا الغرب أن فصل الجنوب لن يكون نزهة في حديقة في وجود قرنق قوي الشكيمة الذي لا يأتمر بامر أحد. وإنه حتي لو تم فصل الجنوب في وجوده فان دولة جنوب السودان لن تكون ضعيفة، تابعة مخبولة بل سوف تولد تحت قيادة زعيم عظيم لا تقل قامته عن أعلي قامات حركات التحرر الوطني التي عمت الجنوب الكوني في منتصف القرن السابق من ماو، وناصر وكاسترو وسوكارنو ولومببا ونيكروما إلي كريس هاني. وهكذا قرر الغرب أن آن أوان رحيل قرنق فاغتالوه وتم بعد ذلك إتمام مخطط فصل الجنوب.

????تكمن تراجيديا الشهيد جون قرنق أن مقولاته كانت من الأكثر تقدما في تاريخ السودان السياسي، ولكنه قتل مستقبل مشروعه في افتراضه الضمني بأن عبقريته تسمح له بتحالفات تتيح له استغلال شيطان الاستعمار والكنائس لخدمة مشروع تقدمي نبيل. كما أعتقد بنفس العقلية بانه بإمكانه خلق فضاء سياسي معافي وكادر تقدمي، إشتراكي مستنير عبر خطاب هوية مغرق في الضحالة والرجعية وفات عليه ان الاستعمار يلعب معه نفس اللعبة بهدف استغلال تقدميته لتفكيك دولة افريقية بما يتيح اضعافها ونهب موارد أجزائها المتفككة.

????وبلغت مأساة قرنق نهايتها حين اغتاله حلفاؤه الدوليون بعد ان قام بدوره في تشكيل الخطاب ولكنه صار عقبة امام فصل الجنوب. ثم سكت اتباعه السودانيين عمن قتله وواصلوا تحالفهم مع من قتل زعيمهم وولي نعمتهم وما زالوا ياكلون من قصعة قاتل زعيمهم.

????وحين قرر قرنق بكل ذكائه الوقاد تجاهل “المنهج” فات عليه أن نسيانه الطوعي للمنهج لا يعني أن المنهج سيتجاهله ويتركه يصول ويجول كحليف مساو القوة لان هذا وهم شديد الكلفة.

????ومن يعرف التاريخ يعرف قصص شبيهة يتم فيها إستغلال إنسان نبيل ثم إغتياله عندما ينتهي دوره. ولم يكن قرنق أخر الزعماء السودانيين الكبار الذين إغتالهم الخارج في منعطف سياسي حاد فإن للأستعمار جنود لا تري بالعين المجردة.

????هذه قصة زعيم قوي الشكيمة أبعد ما يكون عن العمالة. أما في عالم اليوم المليء بالأقزام المنبطحين للخارج بدعوي إستعمال قوته لمصلحة السودان فان لهم في سيرة قرنق عبر. فبعد أن يقضي الخارج وطره ويحقق أهدافه فانه سيلفظهم كلبانة قديمة تم مضغها ليقضي بعضهم ما تبقي من العمر يطارده عار العمالة بعد أن تتوقف أعطياتها، وربما تم أغتيال بضعة أفراد منهم لمحو ذاكرة التاريخ السري للحرب السودانية.

???? في مديح الخواجة العالي يغني النوبي محمد منير:
“أصل الخواجه ابن ماريكا لما بيدخل حواريكا
يا اما ياخدك في بطاطه يا اما يا بني حيأزيكا
حاكم الخواجه ابن ماريكا هوه اللي بدع الشيكا بيكا
تدخل قفاه عايز تلعب حيرقصك سامبا و سيكا”.

معتصم أقرع

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • هجوم كبير على قاعدة عسكرية.. مقتل عشرات المدنيين والعسكريين في بوركينا فاسو
  • إبنة لطفي لبيب:لا يوجد عزاء ثاني لوالدي
  • أوليفييه روا: الغرب لا يرى الإسلام مشكلة ثقافية بل كتهديد وجودي وحقوق الإنسان استُخدمت أداة هيمنة
  • ???? مغالطة جون قرنق الكبري وتجلياتها في الحاضر السياسي
  • ضياء رشوان: مظاهرات تل أبيب كشفت ازدواجية الإسلام السياسي ومخططاته ضد مصر
  • بعد وصية أحمد عامر بحذف أغانيه.. رنا سماحة: لا يوجد نص صريح يحرم الغناء.. فيديو
  • سفراء أهل البيت السياسي على طاولة الإطار.. تحرك لـحذف واستحداث
  • يسري عزام: مصر ذُكرت في السنة النبوية ولها مكانة عظيمة في الإسلام «فيديو»
  • بالتعاون مع الأزهر.. «الأوقاف» تنظم ندوات للحفاظ على البيئة بـ 1544 مسجدًا
  • من المنزل إلى السفارة.. قائمة أهل البيت السياسي تُعيد الجدل المزمن في العراق