مؤيد الزعبي *

الكثيرُ منا يستخدم يوميًّا أحد أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي؛ مثل: (Chat GPT) و(Gemini) وغيرهما من الأنظمة المشابهة؛ وبالطبع تأخذ هذه الاستخدامات في الكثير من الأحيان طابعًا شخصيًّا مُحمَّلًا بالخصوصية والأسرار والمعلومات الحساسة، فأحدنا يذهب ليطلب منها أن تصوغ له خطابًا رسميًّا، وآخر يطلب كتابة بريد إلكتروني احترافي، والبعض يسألها عن أمور شخصية وكيف يتعامل في بعض المواقف العائلية أو حتى العملية.

وتخيَّل عزيزي القارئ، كم هي الأسرار التي قد تحملها مثل هذه المحادثات، وهنا يكمُن التساؤل المهم: هل أسرارنا وخصوصياتُنا في مأمن؟ أم يُمكن للذكاء الاصطناعي أن يعود علينا يومًا ويستغل مثل هذه الأسرار؟ وحتى إن لم يستغلها، فهل مُحادثاتنا في مأمن من أيدي العابثين من قراصنة وهاكرز؟.. سوف أحاول أن أتناقش معك عزيزي القارئ حول كل هذا من خلال هذا الطرح.

قبل أيام خُضتُ عدة تجارب مع أحد أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي؛ فبعد سلسلة من الطلبات حول تصحيح صياغة بريد إلكتروني أو صياغة طلب خاص بعملي، وجدتُ أن النظام بدأ يَعرفني ويعرف وظيفتي وما هي طبيعة عملي، وبدأ يجيب عن تساؤلاتي من منظور أنني صحفي يعمل في جهة إعلامية هو يعرفها ويصيغ تصحيحاته واقتراحاته وحواراته بناءً على ما لديه من معلومات شخصية تخصني، حتى إنني تفاجأت بأنني قد قُمت بطلب مُعيَّن قبل أشهر ولا يزال هو يبني إجاباته معي بناءً على ذلك الطلب، وبالنسبة لي لا يشكل هذا الأمر أيَّ تخوف بالنسبة لي، فمثل هذه الأشياء لا تشكل سرًّا ولا معلومة فيها مَضرَّة لي لا من قريب ولا من بعيد، ولكن لنفترض عزيزي القارئ أنَّ شخصًا يطلب من الذكاء الاصطناعي كلَّ يوم طلبًا؛ فمرة طلب في مكان عمله، ومرة في بيته، ومرة يطلب منه حلًّا لمشكلة تواجهه أو يُحاوره حول فكرة تخطر في باله، وربما يذهب بعيدًا فيبدأ بالتحدُّث معه عن مشاعره أو يبُوح له بأحد أسراره، تخيَّل كمية المعلومات التي بات يعرفها عنك هذا النظام التوليدي، ومثل هذه المعلومات قد يتم استخدامها لاحقًا لملاحقتك من قبل المعلنين وأصحاب الملاحقات الإلكترونية وهم كُثر من شركات تَبيع منتجات وخدمات، وها هي اليوم تَعْرف أدق التفاصيل حتى عن مكنوناتك وأسرارك وخصوصياتك.

تخيَّل أن يكون الشخصُ الذي يستخدم هذه الأنظمة رجلًا يعمل في وظيفة حساسة، أو يُرسل إيميلات فيها أسرار عمله أو شركته، أو فيها أسرار لاختراعات أو حلول تقنية أو علمية أو حتى طبية، كم هي الأسرار التي سيكون بمقدور الذكاء الاصطناعي أن يصل لها دون أي مجهود، فنحن من ننسخ ونلصق ونطلب منه التحسين والتجميل وإعادة الصياغة، وتخيَّل كم صحفي أو مُدوِّن أو كاتب يبدأ بتوليد نصوصه عبر هذه الأنظمة وهو يضع نتاج أفكاره ونتاج أعماله بين يدي الذكاء الاصطناعي طوعًا، فمن يضمن لنا أننا في مأمن؟!!!

الشكلُ الآخر الذي أجد فيه خطورة: أنَّ محادثاتنا الشخصية والخاصة مع الذكاء الاصطناعي التوليدي سيتم استخدامها في تدريب الذكاء الاصطناعي نفسه على طريقة تفاعله وإجاباته ومنطقه، ولا أستبعد أن يأتي الوقت الذي لن نميز فيه ما إذا كنا نحادث نظامًا توليديًّا يعمل بالذكاء الاصطناعي، من أن نجده أقرب للإنسان أو شخص يُشبهنا نحن شخصيًّا، وهنا أكرِّرها من الذي سيضمن لنا سلامة بياناتنا وأسرارنا ونحن في عالم مستعد لأن يستغل كل حرف نكتبه على أجهزتنا ليلاحقنا ويروِّج لنا منتجات المعلنين، أو يستغل هذه الداتا البشرية ليطوِّر بها نظامًا أكبر وأشمل وأعقد؟!! في الحقيقة لا أحد يضمن لنا ذلك.

نحن نتحدث اليوم عن محادثات بسيطة بات الذكاء الاصطناعي من خلالها يخترق خصوصياتنا وأسرارنا، فما هي الحال ونحن نستخدم أنظمة أكثر شمولية وأكثر تعقيدًا وترابطًا (؟!) بالطبع سيخترق الذكاء الاصطناعي كلَّ ما فينا من مشاعر وأسرار وخبرات ومعلومات حساسة، وما نقوم به اليوم لن يتوقف، فإذا كانت مُحرِّكات البحث تستغل كل ما نكتبه ونبحث عنه فها هي اليوم أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي تعرف عنا الكثير، ليس فقط ما نبحث عنه، ها نحن قد أدخلناها بيوتنا ومكاتبنا ومعاملنا ومدارسنا ومستشفياتنا، حتى إننا أدخلناها قلوبنا وعقولنا، وأنا أعلم عزيزي القارئ أنَّ هذا الأمر لن يتوقف، ولكن أضع بين يديك هذا الطرح لنتفكَّر في حجم الاختراق الذي بات الذكاء الاصطناعي يخترقنا به.

 

* المنسق الإعلامي ومنتج الأخبار لصالح مجموعة الصين للإعلام - الشرق الأوسط

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الذكاء الاصطناعي المشترك هو التعددية الجديدة

جاكوب تايلور ـ جوشوا تان

مؤخرًا، أنجز تحالف دولي من مختبرات الذكاء الاصطناعي ومزودي الخدمات السحابية شيئًا عمليًا إلى حد مثير للحماس: فقد جمع أعضاء التحالف مواردهم الحاسوبية لكي يقدموا لنا Apertus، وهو نموذج لغوي ضخم مفتوح المصدر (LLM) سويسري الصنع، متاح بالمجان للمستخدمين في مختلف أنحاء العالم. والاستفسارات التي يتلقاها Apertus من الممكن أن تُـعالَج في سويسرا، أو في النمسا، أو سنغافورة، أو النرويج، أو المركز الوطني السويسري للحوسبة الفائقة، أو البنية الأساسية الحاسوبية الوطنية في أستراليا. تُـرى هل يشير هذا المشروع إلى التقدم في مجال التعاون الدولي؟

في القرن العشرين، أصبح التعاون الدولي مرادفًا عمليًا للنظام المتعدد الأطراف القائم على القواعد، والذي تدعمه مؤسسات قائمة على معاهدات مثل الأمم المتحدة، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية. لكن منافسات القوى العظمى وفجوات التفاوت البنيوية تسببت في تآكل أداء هذه المؤسسات، الأمر الذي أدى إلى ترسيخ حالة الشلل وتسهيل إكراه الضعفاء من جانب الأقوياء. كما يشهد تمويل التنمية والمساعدات الإنسانية انحدارًا متواصلًا، حيث أصبحت مبادئ أساسية مثل التسوية، والمعاملة بالمثل، والسعي إلى تحقيق نتائج ترسخ المنفعة المتبادلة موضع تساؤل وتشكك. لقد أفضى تراجع التعاون من جانب الحكومات الوطنية إلى زيادة الحيز المتاح لقوى فاعلة أخرى ـ بما في ذلك المدن، والشركات، والمؤسسات الخيرية، وهيئات تحديد المعاييرـ لتشكيل النتائج. في قطاع الذكاء الاصطناعي، تتسابق حفنة من الشركات الخاصة في شينزين ووادي السيليكون لتعزيز هيمنتها على البنية الأساسية وأنظمة التشغيل التي ستشكل أسس اقتصاد الغد. إذا سُمح لهذه الشركات بالنجاح دون ضابط أو رابط، فسوف يُترَك الجميع غيرها تقريبا للاختيار بين التبعية وانعدام الأهمية. لن تكون الحكومات وغيرها من الجهات التي تعمل من أجل المصلحة العامة معرضة بشدة للتسلط الجيوسياسي والاضطرار إلى الاعتماد الشديد على بائعين بعينهم فحسب، بل ستكون الخيارات المتاحة لها أيضا قليلة عندما يتعلق الأمر بالانتفاع من فوائد الذكاء الاصطناعي وإعادة توزيعها، أو إدارة العوامل الخارجية البيئية والاجتماعية السلبية المرتبطة بالتكنولوجيا. ولكن كما أظهر التحالف الذي يقف وراء النموذج اللغوي الضخم Apertus، فإن نوعًا جديدًا من التعاون الدولي أصبح في حكم الممكن، وهو لا يستند إلى مفاوضات مضنية ومعاهدات معقدة، بل إلى بنية أساسية مشتركة لحل المشكلات. وبصرف النظر عن سيناريو الذكاء الاصطناعي الذي قد يحدث في السنوات القادمة ــ الهضبة التكنولوجية، أو الانتشار البطيء، أو الذكاء الاصطناعي العام، أو الفقاعة المنهارة ــ فإن أفضل فرصة لتمكين القوى المتوسطة من مواكبة الولايات المتحدة والصين، وزيادة استقلاليتها ومرونتها، تكمن في التعاون. يشكل تحسين توزيع منتجات الذكاء الاصطناعي ضرورة أساسية. ولتحقيق هذه الغاية، ينبغي للقوى المتوسطة ومختبرات وشركات الذكاء الاصطناعي التابعة لها أن تعمل على توسيع نطاق مبادرات مثل «أداة استدلال الذكاء الاصطناعي المشترك»، وهي منظمة غير ربحية مسؤولة عن توفير الوصول العالمي عبر الإنترنت إلى النموذج Apertus وغيره من النماذج المفتوحة المصدر. ولكن من الأهمية بمكان أن تعمل هذه الدول أيضا على سد الفجوة في القدرات مع النماذج الرائدة مثل GPT-5 أو DeepSeek-V3.1 ــ وهذا يتطلب تحركًا أكثر جرأة. لن يتسنى للقوى المتوسطة أن تشارك في تطوير حزمة من الذكاء الاصطناعي عالمية المستوى إلا من خلال التنسيق بين الطاقة، والحوسبة، وخطوط أنابيب البيانات، والمواهب.

هذا النمط من التعاون ليس بلا سابقة. ففي سبعينيات القرن الماضي، عملت الحكومات الأوروبية على تجميع رؤوس أموالها ومواهبها، وتنسيق سياساتها الصناعية، لإنشاء شركة تصنيع طائرات قادرة على منافسة شركة بوينج الأمريكية. قد تستلزم استراتيجية «الذكاء الاصطناعي على غرار مشروع إيرباص» إنشاء مختبر دولي مشترك بين القطاعين العام والخاص مكرس للتدريب المسبق لطائفة من النماذج الأساسية المفتوحة المصدر وإتاحتها مجانا كبنية أساسية على مستوى المرافق. لن تكون النتيجة عملاقًا آخر موحدًا من عمالقة الذكاء الاصطناعي، بل بنية أساسية مفتوحة من الممكن أن تشارك قوى فاعلة عديدة في البناء عليها.

هذا النهج من شأنه أن يدفع الابتكار من خلال السماح للمختبرات الوطنية، والجامعات، والشركات المشاركة القريبة من حدود الإبداع (مثل Mistral وCohere) بإعادة تخصيص ما يصل إلى 70% من تمويلها المخصص لمرحلة ما قبل التدريب على النماذج لاستغلاله في مرحلة ما بعد التدريب (النماذج المتخصصة أو الاستدلالية)، والتوزيع، وحالات الاستخدام المدفوعة بالطلب. علاوة على ذلك، سيساعد هذا في تمكين الحكومات والشركات من السيطرة على الأنظمة البيئية التي تحكم عمل الذكاء الاصطناعي والتي تعتمد عليها على نحو متزايد، بدلًا من أن تظل رهينة انعدام اليقين الجيوسياسي وقرارات الشركات، بما في ذلك تلك التي تؤدي إلى «تدهور الجودة والانحدار تدريجيا». لكن الفوائد المحتملة تمتد إلى أبعد من ذلك؛ فمن الممكن إعادة استخدام هذه البنية الأساسية المفتوحة ــ وخطوط أنابيب البيانات المبنية عليها ــ لمواجهة تحديات مشتركة أخرى، مثل خفض تكاليف معاملات التجارة العالمية في الطاقة الخضراء أو تطوير إطار عمل دولي للمفاوضة الجماعية لصالح العاملين في الوظائف المؤقتة. لإظهار كامل إمكانات هذا الإطار التعاوني الجديد، ينبغي للقوى المتوسطة أن تستهدف المشكلات التي وُجِـدَت أنظمة البيانات البيئية والتكنولوجيات الناضجة بالفعل من أجل حلها؛ وأن تحرص على تقديم مصلحة المشاركين الذاتية في الأهمية على تكاليف المعاملات المرتبطة بالتعاون؛ وأن تجعل قيمة العمل المشترك واضحة للمواطنين والقادة السياسيين. في غضون سنوات قليلة، عندما تبلغ دورة إبداع ورأسمال الذكاء الاصطناعي الحالية منتهاها، سيكون أمام القوى المتوسطة إما أن تتحسر على زوال النظام القائم على القواعد وتشاهد كيانات الذكاء الاصطناعي العملاقة وهي ترسخ خطوط الصدع الجيوسياسية أو تجني فوائد أطر الإبداع الجديدة في تعزيز أواصر التعاون.

جاكوب تايلور زميل في مركز التنمية المستدامة التابع لمؤسسة بروكينجز وزميل الذكاء الاصطناعي العام.

جوشوا تان المؤسس المشارك ومدير الأبحاث في ميتاجوف.

خدمة بروجيكت سنديكيت

مقالات مشابهة

  • استكشاف استفادة الذكاء الاصطناعي من عمل الدماغ البشري
  • هل تَصْدُق تنبؤات انفجار فقاعة الذكاء الاصطناعي
  • OpenAI تضاعف استثماراتها في رقاقات الذكاء الاصطناعي
  • حكم استخدام الذكاء الاصطناعي في مراقبة الموظفين
  • الذكاء الاصطناعي الأكسجين الذي يُبقي الاقتصاد حيا في المدى القصير
  • خطر جديد في عالم التقنية: كيف يُصاب الذكاء الاصطناعي بـ”التسمم”؟!
  • الذكاء الاصطناعي يصحّح أخطاء الأبحاث الطبية
  • الذكاء الاصطناعي بين الحرية والانحلال
  • الذكاء الاصطناعي المشترك هو التعددية الجديدة
  • شركة ميتا تلغي مئات الوظائف في قسم الذكاء الاصطناعي